..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

حماة: المعركة الفاصلة

مجاهد مأمون ديرانية

٣ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2847

حماة: المعركة الفاصلة
11.jpeg

شـــــارك المادة

أخيراً نفد صبر النظام المجرم فاقتحم حماة. لا شك أنه كان راغباً في صنع ذلك منذ اليوم الأول الذي تحدّته فيه المدينةُ وخرجت عن طاعته، غيرَ أنه آثر إرجاء المواجهة المُكلفة إلى أجل، لعله يفرُغ من سائر المناطق المنتفضة ثم يتفرغ لحماة في معزل عن الضغط. لكن الذي حصل أنه عجز عن إخضاع عموم البلاد، لا بل إن الثورة تزداد تأجّجاً وعنفواناً يوماً بعد يوم، والأسوأ من ذلك -بالنسبة إليه- أن حماة تَمُدّ شعلةَ الثورة بالوقود بسبب انتفاضتها الإعصارية المدويّة.


ولعل النظام قاوم رغبته الشديدة في اقتحام حماة وتدميرها على رؤوس أهلها فقط خوفاً من القوى الدولية وخوفاً من العالم الخارجي، فإنه برهن لنا على الدوام أنه "أسد" علينا وعلى الأقوياء دجاجة! مهما يكن الأمر فقد كان راغباً في تأجيل المواجهة مع حماة وقاوم رغبته في الإسراع إلى تأديبها، لكنه وصل أخيراً إلى نقطة عجز فيها عن المقاومة، ربما بعد أن غدت حماة "مقاطعة ثورية مستقلة"، أو بعدما صارت الأغنية الحموية القاشوشية أهزوجةَ الثورة في كل مكان. لقد قطع المجرمون الحَنجرةَ الثائرة متأخرين، بعدما بثّت الأغنيةَ في الفضاء فعبرت حدود حماة إلى حمص واللاذقية ودرعا ودير الزور وانتشرت في كل ناحية في سوريا انتشار النار في القش اليابس، بل عبرت حدود سوريا إلى غيرها من أنحاء الدنيا، حتى لأظنها صارت الأغنيةَ الأشهر والأكثرَ ذيوعاً على ألسنة العرب في كل مكان.
إن اقتحام حماة خطوة متهورة جداً ومجازفة كبيرة للغاية بالنسبة للنظام، ولا بدّ أنه فكر كثيراً قبل القيام بها، ولا بدّ أنه ينتظر منها نتيجة حاسمة، بل حاسمة جداً لتتناسب مع حجم المجازفة.
إذا نظرنا إلى الأمور من حيث النسبة العددية فإن الحملة العسكرية على الرستن وتلبيسة كانت أشدّ وحشيةً وأكثرَ فتكاً وضحايا من الحملة على حماة، ويمكننا أن نقرر حكماً مشابهاً فيما يتعلق بالحملة الآثمة الظالمة على جبل الزاوية، لكنّ الضررَ الذي يُتوقَّع أن يصيب النظام من هجومه على حماة أكبرُ بكثير لاعتبارات تاريخية وسياسية ونفسية متشابكة على المستويين الداخلي والخارجي:
(1) فأما على المستوى الداخلي والمستوى الشعبي العربي والإسلامي؛ فإن حماة بقيت جرحاً في ذاكرة الأمة منذ تدميرها الأول على يد المجرمَين الكبيرين، الأسد الأب والأسد العم. صحيحٌ أن أهل حماة عاشوا بعد ذلك بما بدا أنه حياة طبيعية في الظاهر، ولكنهم في الحقيقة لم يفعلوا قط. في السنوات الثلاثين الماضية عرفت كثيرين من أهل حماة، لم أعرف أحداً منهم نسي الجريمة أو تنازل عن حقه في الثأر. ليس الحموية فقط، بل كل سوري حر أبيّ صاحب نخوة وضمير اعتبر أن مأساة حماة هي مأساته الشخصية، وعاش مع هذا الشعور منذ ارتكاب الجريمة إلى اليوم وهو ينتظر يوم القصاص.
يخطئ من يظن أن مأساة حماة هي هَمٌّ حموي. لا يا سادة، بل هي همّ أهل سوريا الأحرار جميعاً، بل هي واحدة من القضايا التي أرّقت ضمائر الملايين من العرب والمسلمين الذين اعتبروا أنفسهم إخوة لضحايا حماة في الدم والدين. لقد عانى الملايين من الألم وهم يتذكرون مأساة حماة الأولى، ولن يقبلوا بأن تتكرر المأساة مرة ثانية وهم أحياء. هذا يفسر لماذا أجّج هجومُ النظام الغادر على حماة مشاعرَ الغضب في سوريا كلها ونشر فيها روح الثورة، وساعد الآلافَ من الناس على حسم موقفهم المتردد، فتخلَّوا عن السكوت وخرجوا إلى الشوارع. بل لقد رأينا نار الثورة تعبر الحدودَ فتتأجّج في قاهرة المعز وفي غيرها من عواصم الدنيا، غضباً لحماة وانتصاراً لها؛ الكل يهتفون: ليس اليوم كالأمس، احذر يا نظام الإجرام، لن تفعلها مرة ثانية.
باختصار وبجملة واحدة: الثورة كانت متفائلة برمضان وقد عقدت عليه الآمال العِراض في انتشار المظاهرات عبر سوريا وتزايد أعداد المتظاهرين، لكن الانفجار الذي نشاهده في كل أنحاء البلاد منذ لحظة اقتحام حماة يتجاوز أكثر الآمال طموحاً وجموحاً ويفوق كل التوقعات، والسبب هو عدوان النظام الغادر على حماة.
(2) على المستوى الخارجي صارت حماة مشكلة دولية. قبل شهر لم يسمع في أميركا باسم حماة إلا العدد الأقل من الناس، بل حتى سوريا كلها لم تكن مما يشغل اهتمام عامة الناس. إن الأميركيين أصحاب اهتمامات "داخلية" بصورة صارخة، وكل من يُمضي بينهم بعضَ الوقت يدرك مدى جهلهم وقلة اهتمامهم بقضايا العالم الخارجي مقابل اهتمامهم بقضايا الوطن الأميركي. هذا الواقع تغير فجأة بعد زيارة سفيرهم لحماة وما تلا الزيارةَ من اعتداء على سفارتهم في دمشق، فقد صارت المشكلة السورية فجأة مشكلة أميركية بطريقة ما وانشغلت بها وسائل الإعلام، ولم يعد ممكناً أن يستمر الرئيس والحكومة في تجاهلها كما كانوا من قبل، وصارت حماة عنواناً رئيسياً في تلك المشكلة؛ لذلك أتوقع أن تحرّك حماة السطحَ الراكد فتصنع في أيام قليلة أثراً يقارب ما صنعته الثورة كلها في عشرين أسبوعاً من قبل.
العالم كله سيواجه اختباراً للنزاهة، بدءاً بأردوغان في تركيا وانتهاء بالروس والصينيين. ليس النزاهة المطلقة التي هي أم الفضائل، فالسياسة لا فضائلَ مطلَقةً فيها ولا خلاقَ لها، بل القَدْر منها الذي يحفظ للسّاسة ماءَ وجوههم. لقد وضع النظامُ السوري -باقتحام حماة- النظامَ العالمي كله على المحك، ووضع حلفاءه خاصّةً في موقف صعب لا أعلم كيف سيخرجون منه، لكنهم سيضطرون على الأغلب إلى تقديم بعض التنازلات، من قبيل الضغط الشكلي على النظام، أو التغاضي عن قرارات دولية ضد القمع الحكومي السوري، ربما وصولاً إلى إدانة في مجلس الأمن وتحويل ملف انتهاكات النظام لحقوق الإنسان إلى المحكمة الدولية.
* * *
كما قلت في بداية المقالة: إن اقتحام حماة خطوة متهورة جداً ومجازفة كبيرة للغاية، والنظام لم يُقْدم على هذه المجازفة إلا لأن النتيجة التي يأمل بتحقيقها كبيرة جداً. إنها -باختصار- القضاء على الثورة ودفنها إلى الأبد، أو على الأقل لثلاثين سنة أخرى. هل هذا ممكن؟ نعم ولا. الجواب سيقدمه أهل حماة خلال الأيام القادمة.
الجيش لن يستطيع البقاء في حماة طويلاً، ربما يبقى أسبوعاً أو عدة أسابيع على أبعد تقدير. بناء على التحليل السابق أتوقع أن يتلقى النظام ضغطاً من كل الأطراف، بما فيها الأصدقاء التقليديون كروسيا والهند والصين الذين أحرجهم باقتحام المدينة، ناهيك عن تركيا والاتحاد الأوروبي وبقية القوى العالمية. باختصار: باستثناء إيران وحزب الله وحكومة المالكي العراقية أتوقع أن يكون الضغط على النظام محل إجماع عالمي، بتفاوت في حجم الضغط ودرجته بالطبع، وبالنهاية لا بدّ من بعض الاستجابة، ولو شكلياً بخروج الجيش من المدينة وعودته إلى خطوط التاسع والعشرين من تموز.
ما ستصنعه حماة بعد ذلك هو الذي سيقرر مصير الثورة. لو توقفت حماة عن ثورتها فثورة سوريا كلها في خطر، لو تراجعت حدّة الثورة الحموية فالثورة السورية كلها في خطر، لو خاف الحموية من النظام ومنحوه هدنة (هو بأمسّ الحاجة إليها) فسوف يأكل الثورةَ في سائر مناطق سوريا.
لكن الحموية لن يفعلوها؛ أهل حماة اليوم هم أهل حماة الأمس وقبل الأمس، ما عرفناهم قط إلا شوكة قاسية في حلوق الطغاة. لقد عوّدتنا حماة عادة ولن تغيّر حماةُ اليومَ عادتَها، فإنها كانت دائماً هي مخزن الثورة وكانت هي مصنع الرجال، مَن عرفها منكم كذلك بالأمس -قبل انفجار ثورة الحرية في سوريا- معرفةَ الخبر فلا شك أنه عرفها بعد انفجارها معرفة اليقين.
أنا أراهن بواحد لمئة ألف أن أهل حماة سيعيدون اختراع الثورة بعد خروج الجيش الوشيك من مدينتهم -بإذن الله-. أتوقع أن تُنسينا الثورة الحموية القادمة ما كان قبلها، وأن تدفع النظام إلى الندم لأنه فكر بغزوها واجتياحها. هذا ما أراه من وراء حجاب الغيب بعين الثقة بالله واليقين بنصره القريب، وبعين الثقة بأهل حماة الأبطال الذين لم أعلم أنهم خذلوا سوريا يوماً، ولا أذكر -فيما أذكره من ذكريات حياتي- أنهم وهنوا يوماً أو سكتوا عن ضَيم، إلاّ سكوتَ النار المتّقدة تحت الرماد، ما تزال تتّقد بطيئة حتى تكون منها النار العظيمة، كما قال الشاعر الأول:

أرى خَلَل الرّماد وميضَ جمر *** فيوشك أن يكون له ضِرامُ

لقد قيل في وقت ما إن الثورة ستحسمها دمشق أو تحسمها حلب، وأنا أقول لكم اليوم: إن مصير الثورة صار في يد حماة، وإن مستقبل الثورة سيصنعه أهل حماة.
* * *
على إثر اقتحام حمص ودرعا كتبت مقالة عنوانها: "لا تخافوا ولا تحزنوا، حملة النظام خاسرة والثورة منصورة -بإذن الله-"، قلت في أولها: الحملة الشرسة الأخيرة التي يشنّها النظام القمعي على شعبنا المصابر منذ أسبوعين هزت ثقة البعض بقوة الثورة وقدرتها على الاستمرار، فكأني بدأت أحس قلقاً خفياً في العيون أو وجلاً في القلوب. ولهؤلاء أقول: لا تخافوا ولا تحزنوا، فوالله ما مَرَّ علينا يومٌ خسرنا فيه منذ بدأت انتفاضة سوريا المباركة، وإن هذه الثورة إلى نصر والنظام إلى هزيمة -بإذن الله-، هزيمة نكراء سيذكرها التاريخ ويروي قصّتَها الآباءُ للأبناء.
كتبت المقالة منذ ثمانين يوماً، وما زلت أكرر اليوم ما قلته فيها بلا تبديل ولا تعديل. لن أعيدها هنا بالتأكيد (من شاء فليقرأها كاملة في موضعها)، لكني لا أستطيع أن أقاوم إعادة نشر آخر فقرة فيها، فإني لو أردت الكتابة اليوم تعقيباً على اقتحام حماة فلن أكتب غير ما كتبته فيها. قلت:
لا تظنوا أن حملة حصار المدن واجتياحها هزيمة لهذا الشعب المرابط الصابر على الحق، فإن من أبرك بركات الانتفاضة السورية أن الشعب لم يخسر فيها قط، وأن النظام خاسر أبداً. نحن نكسب مع شهادة كل شهيد ومع أسْر كل أسير ومع اجتياح كل مدينة، وهم يخسرون ويخسرون، وينقص عمرهم يوماً مع طلوع كل صباح جديد. لا، ما هذا إنشاء حماسة ومقال أحلام، بل هو الواقع الذي نشهده شهادة العيان. حاولوا أن تنظروا إلى المسألة كما أنظر وأرجو أن نتفق على ما أقول.
...وأما المدن التي حوصرت واستُبيحت فقد كانت فيها شتلات ثورة وشُجَيرات، فلن يخرج المحتلّون منها إلا وقد استحالت الشتلاتُ الصغيرات والشُّجَيرات شجراتٍ باسقات، فإن العدوان يزيد التِّرات ويؤجج نيران الغضب، ومن خرج من قبلُ حماسةً فسوف يخرج في الغد غضباً وحماسة، ومن طلب من قبلُ الحريةَ فسوف يطلب في الغد الثأر والحرية، ومن كان يرضى بإصلاح النظام فلن يرضى منذ اليوم إلا بسقوط النظام وبمحاكمة النظام وبالقصاص من النظام.
الواقع المشاهَد أن كل مدينة تعرضت للضغط في الماضي عادت أشدَّ ثورة مما كانت حالما ارتفع عنها الضغط، فكأن القمع والحصار الذي يمارسه النظام بالجيش وبأجهزته الأمنية ليس أكثر مما يصنعه الواحد منا إذا ضغط بإصبعه زنبركاً فمنعه من التمدد، ولكنه ينطّ عالياً في الهواء في اللحظة التي يُرفَع فيها عنه الضغط، فهل يسمَّى هذا انتصاراً للنظام؟
انتظروا قليلاً وسترون. هل ستبقى القوات الأمنية في المدن أبد الدهر؟ فلتبق الأسبوع أو الأسبوعين أو الشهر والشهرين، وماذا بعد؟ إنهم لا بدّ مُنْفَضّون، ولسوف ترون من هذه المدن بعد ذلك الأعاجيب.
* * *
هذا ما قلته منذ ثمانين يوماً، واليوم أعيده بحرفه، إلا أني أضع اسم حماة في صدر جملة الختام وفي آخرها فأقول: انتظروا قليلاً وسترون. هل ستبقى القوات الأمنية في حماة أبد الدهر؟ فلتبق الأسبوع أو الأسبوعين أو الشهر والشهرين، وماذا بعد؟ إنهم لا بدّ مُنْفَضّون، ولسوف ترون من حماة بعد ذلك -بإذن الله- الأعاجيب.

المصدر: الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع