عبد الحاج
تصدير المادة
المشاهدات : 8602
شـــــارك المادة
في نقطة النهاية التي عندها ينعم الجسد بالراحة، يوجد ثقب في العالم تنعدم فيه الأخلاق وتتكرس فيه الأفعال الشريرة ويتحول فيه الجمال إلى أقبح صورة، في سورية أصبح هذا الثقب أكبر. في مدن تحولت إلى مخاض كبير من الألم، لم يكن لأحد أن يتوقع موعداً مع الموت، فتسارع الأحداث ومواصلة القتل والتدمير اللذين يقوم بهما النظام لم يتركا لأهالي الشهداء فرصة لالتقاط أنفاسهم وتكفين موتاهم ولا لإقامة مراسم العزاء، فقذائف الموت تتربص بالمشيعين الذين يحاولون الخروج بشهدائهم إلى المقابر.
ذاكرة السوريين اليوم أصبحت مترعة بمشاهد الموت الجماعي، فمجزرة مدينة حماة التي استبيحت طوال شهر شباط (فبراير) من عام 1982، وذهب ضحيتها حوالي أربعين ألف مواطن مدني من مسلمين ومسيحيين، وتهديم أربع كنائس وثمانين مسجداً وعشرات الأسواق والمؤسسات والأبنية الأثرية التاريخية النادرة، تحضر اليوم في المشهد بشدة مع مواصلة آلة الحرب الأسدية مواجهة السوريين، في كل مكان، وسقوط ما يقارب 80 ألف شهيد. خالد الخاني من محافظة حماة وأحد الناجين من المجزرة، يروي بعض تفاصيل المجزرة، بعد مضي وقت طويل قائلاً: «في شباط 1982 كان عمري 6 سنوات وكنت في الصف الأول ابتدائي، في حماة كان الألم كبيراً لنا جميعاً، من كل الفئات والانتماءات، ألم تقاسمه أهل المدينة سواسية من دون تفرقة، عشنا مرحلة سوداء من دون أن نعرف أن هذا الأمر سيظل كالسكين يقطع في ذاكرتنا، يخفي دموعنا ويمحوها أحياناً، رائحة المكان أتذكرها جيداً، كانت لا تطاق، ويضيف: «أبي كان طبيب عيون، لم يكن من جماعة الإخوان المسلمين لكنه انحاز لأهل مدينته المستباحة، تسرب خبر إلى الضباط بوجود طبيب بين جموع المعتقلين وكانوا أكثر من خمسة آلاف في معتقل «معمل السيراميك» جنوب المدينة، فجمع المعتقلين في الساحة وبعدها قال الضابط الكبير نريد طبيباً وأوحى للجميع أن هناك حالة إسعاف مستعجلة فخرج أبي ولبى النداء وهو الذي أقسم قسم «أبقراط» وكان هناك طبيب آخر لبى نداء الواجب، ولكنهما لم يعلما بالمكيدة. سحل أبي وزميله، عذبا من دون رحمة واقتلعوا إحدى عينيه، أهل حماة يشهدون على ذلك، لقد قلعوا إحدى عينيه وهو حي ثم قتلوه، ثم سلم جسده للمستشفى الوطني وبقي مرمياً مع الشهداء على باب المستشفى. لم تنته عذابات أبي حتى بعد وفاته، فقلعت عينه الثانية هناك وأخرجت بطاقته الشخصية وخرزت في ملابسه، لما دفناه، وكنت صغيراً، أذكر أنه كان بلا عينين. دمار وسرقة: ويضيف خالد: «حي البارودية» الذي ولدت فيه، دُمِّر تماماً، هذا ما قاله لنا خالي لاحقاً بعد أن تسلل إلى المنطقة بحثاً عن بيتنا. ذهب ليبحث عن صندوق الحديد الخاص بأبي، بعد ساعات، وبمساعدة الجرافات، وجد قطعة حديد صغيرة منه، لقد سرقوه بعد تفجيره وهذه صورة عن إصرارهم على سرقة كل شيء، عاد خالي لأمي بسجادة كان الجنود أطلقوا عليها الرصاص وثقبت، وهذه السجادة ما زالت موجودة عند أمي إلى اليوم، ذكرى لنا ولها من بيتنا الجميل الذي يحمل في ضميرنا صورة والدي». ويزيد: «صورة أخرى رأيتها بأم عيني، جسد مرمي على الزفت في الساحة المقابلة لجامع عمر بن الخطاب، الجسد سليم ولم يتضرر أبداً، ولم ينتفخ وكأنه مات قبل مرورنا بقليل، دهس رأسه بدبابة وظهرت علامات المجنزرات وشكلت أثلاماً في الأرض. وصورة أخرى لامرأة قطعت يداها من المعصم، وأنا كطفل لم أستطع تفسير السبب. ولكن الجميع فسّر المشهد بأن العسكر أرادوا سرقة أساورها الذهبية التي علقت بيديها، هذا جزء مما رأيته في طفولتي». «أبو محمد» 47 سنة، ناشط من مدينة حماة التي تحاصرها قوات النظام وتحكم السيطرة عليها بعد اقتحامها قبل عدة أشهر يخبرنا: «مشاهد اليوم تعيدني واحداً وثلاثين عاماً إلى الوراء... أتذكر تماماً ما حدث عام 1982، قتل سبعة من أعمامي، هناك أماكن عدة في حماة تحتوي على قبور جماعية لقتلى هجوم عام 1982، مثل موقع سوق الخضر والحديقة المجاورة لمسجد السرجاوي التي بدأنا الدفن فيها منذ 31/7/2011 والحديقة المجاورة لمسجد أبو بكر في حي الحميدية. وتم منع المواطنين حتى من الصلاة على قتلاهم لأن النظام يكن أشد العداء لكل من يخاصمه، وذلك العداء لا ينهيه موت الخصوم». وأفاد ناشطون باكتشاف مقبرة جماعية في «حصرايا» غرب مدينة حماة، تحوي عشرات الجثث بعد تحرير حاجز البلدة الذي كان يسيطر عليه جيش النظام. وشهد الحاجز معارك بين الجيش الحر وقوات النظام أسفرت عن سيطرة قوات المعارضة على الحاجز، وفور سيطرتها قامت هذه القوات بعملية تمشيط للمنطقة المحيطة بالحاجز أسفرت عن اكتشاف مقبرة جماعية تحوي عشرات الجثث والأشلاء ويبدو على الرفات آثار كسور ناتجة من التعذيب وإطلاق نار، ولم يعرف إذا كان القتلى من المدنيين أو العسكريين، ولم يعرف عدد من دفن في هذه المقبرة. ويؤكد ناشطون من المدينة وجود مقبرة جماعية في مقر الأمن العسكري على مدخل حماة من جهة حمص، فأصوات الرصاص تسمع بشكل يومي من داخل الفرع، وهذا ما أكده بعض عناصر النظام الذين تم القبض عليهم من قبل الجيش الحر. وعدد المفقودين هائل جداً يقارب 20 ألف من المحافظة، والنظام لا يعترف بهم في تصريحاته عن عدد المعتقلين الذي يقدر بحوالي 200 ألف في كل سورية، فمثلاً تمت تصفية حوالي 60 شخصاً في مؤسسة «المكننة الزراعية»، لكن لم يصلنا سوى خمس جثث، لكن بعض المعلومات المقدمة من قبل بعض العناصر المتعاونين مع الثورة تفيد بتصفية عدد كبير منهم، وفي مرحلة كان النظام يتقصد رمي الجثث المشوهة في أماكن عامة لردع الناس، لكن المهم اليوم بالنسبة إلى النظام التخلص من الجثث فقط، لذلك لم يوفر قطعة أرض لم يدفن فيها جثث المعتقلين. إعدامات ميدانية: في محافظة دير الزور شرق البلاد أخبرنا الناشط أنس محمد علي أن 84 جثة تم اكتشافها في منطقة المقابر عند المدينة الجامعية لجامعة الفرات، معظمها لأطفال ونساء وشيوخ أُعدِمُوا ميدانياً أثناء محاولتهم الفرار من المدينة، حيث تعرضت بعض الجثث لعمليات حرق وتشويه متعمد، وبحسب التقديرات تعود فترة الوفاة لأكثر من خمسة عشر يوماً بسبب تحلل الجثث وتفسخها، وجرى التعرف حتى الآن إلى هويات اثنتي عشرة جثة، بينما ضاعت ملامح الجثث الأخرى، ومن بين الجثث التي عُرِفَت هويتها جثة الطفل عبدالرحمن حنتوش وعمره ثلاث سنوات، والطفلة شامة حنتوش، وأيضاً الشهيدة محسنة جمعة الهملي وعمرها ستون سنة. ويقول ميشال بارودي: «بتاريخ 25/9/2012 ارتكبت قوات النظام أثناء مداهمتها حي القصور مجزرة بحوالي 350 شخصاً مدنياً معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وبعد ذلك التاريخ بيومين تم ارتكاب مجزرة لا تقل بشاعة في حي الجورة راح ضحيتها 430 شهيداً، وبتاريخ 7/12/2012 تم اكتشاف 30 جثة مشوهة وعليها آثار تعذيب في حي الجبيلة، قام بها عناصر من الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد». ليس الغريب أن تفضح مقابر النظام الجماعية، بل الغريب كل الغرابة أن يلف الصمت المجتمع الدولي عن تلك الحقائق الدامغة، فهذه المقابر الجماعية تضع مسؤولية على المجتمع الدولي بضرورة التحرك لوقف ما يجري في سورية من سفك لدماء الأبرياء وضرورة تقديم كل من شارك في هذه المجازر الجماعية لمحاكم عادلة، فمهرجان القتل الشعبي الشامل الذي أطلقه النظام ومارسته آلته العسكرية الجبانة والمهانة لن يمنع الشعب السوري أبداً من أخذ زمام المبادرة والاستمرار في الكفاح والصمود.
الحياة
ياسين عبد اللطيف
الشرق الأوسط
رامي سويد
الخليج
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة