عبد الكريم بكار
تصدير المادة
المشاهدات : 2773
شـــــارك المادة
الذين يدّعون معرفة الواقع كثيرون، والذين يَشْكُون من أنّهم لا يفهمون الواقع كثيرون أيضاً، فأين هي الحقيقة في هذا الأمر؟ هناك واقع صغير وضيّق ومحدود، وهناك واقع عامّ، وكلّما كان الواقع أصغر وأضيق كان إدراكه أسهل، فأنا أستطيع أن أدرك ما في هذه الغرفة بشكل جيّد، ولا سيّما الأشياء المحسوسة، أستطيع أن أعدّد الأشياء والألوان والأشخاص الموجودين في الغرفة، لأنّ هذا واقع ضيّق، لكن .. حتّى لو نظرت إلى الأشخاص الموجودين هنا من الناحية المعنويّة، فنظرت إلى عقولهم وأفكارهم وتطلّعاتهم وإلى العلاقات التي تربط بينهم..، فهذا يعني أنّي دخلت في دهليز أظنّ فيه وأقدّر وأخمّن، وأصيب وأخطئ، لأنّ قدرة العقل على إدراك المحسوسات أكبر بكثير وبمراحل من قدرته على إدراك المعنويّات.
فلو خرجنا من هذه الغرفة إلى الواقع الفسيح، لننظر مثلاً في الواقع الماديّ لهذه المدينة، فسنجد أنفسنا غير قادرين على إدراكه، لأنّ هذا يحتاج إلى سبر طويل نحن لا نصبر عليه، أمّا إذا أردنا أن نعرف مثلاً واقع الالتزام والتديّن في مدينة أو بلد من البلاد، أو واقع الأمانة، أو واقع الاجتهاد، أو واقع المعاملة الحسنة..، لو أردنا سبر هذه الأشياء لوجدنا أنفسنا أمام معضلة كبيرة للغاية.
شخص يذهب إلى مدينة فيكذب عليه شخص، ويغشّه آخر، ويسيء معاملته شخص ثالث، فيشكّل انطباعاً ويقول: ليس هناك أسوأ من هذه المدينة. فلان وفلان وفلان..، هذه المدينة يسكنها مليون إنسان، فكيف فهمت واقع المليون من خلال ثلاثة أشخاص؟!، فيقول: كلّهم مثل بعضهم، وتربيتهم واحدة، وهذه هي سمعتهم..! وهذا من الظلم. ومن هنا اخترعوا شيئاً اسمه الإحصاء، واستطلاع الآراء، والمسح الاجتماعيّ، القياس الكمّيّ..، هذا كلّه حتّى لا نحكم على أهل مدينة ما من خلال شخص أو شخصين أو ثلاثة أشخاص. صحيح أنّ القياس الكمّيّ أو الإحصاء لا يعطينا نتائج دقيقة، لكنّه يعطينا مؤشّرات ممتازة.
هذا الواقع الذي نريد أن نتعامل معه، يصعب علينا أن نراه من كلّ الزوايا، يصعب علينا أن نفسّره بشكل دقيق، لأنّ نظم اللّغة مصابة بالقصور الذاتيّ على مستوى التفهيم والشرح، وعلى مستوى الفهم والتفسير، وبالتالي فنحن نرى الأشياء بمناظير مختلفة، ونحن ننظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة، فما أراه أنا اعتدالاً تراه أنت تهوّراً، وهذا أيضاً بسبب قصور التعريفات والمصطلحات، وهذا جزء من قصور النظم اللغويّة. فما الحلّ؟ وما العمل؟ العمل دائماً أن نلجأ إلى المقاييس العلميّة، فهناك مقاييس ومؤشّرات وأدوات وضعوها لقياس الرأي العامّ، ولقياس الوضع الأخلاقيّ، ولقياس الوضع الماليّ، ولقياس الفقر والغنى، فهناك خطوط فنقول مثلاً: هؤلاء فوق خطّ الفقر، ونسبة الذين تحت خطّ الفقر كذا..
الرسالة التي أريد أن أرسلها: أنّه لا يجوز أن نستعجل بالحكم على الواقع، ولا يجوز لنا أن نستخدم أدوات بالية وقاصرة في الحكم على الواقع، لأنّ نتيجة ذلك هي الضلال المبين، وهي عدم فهم الواقع، ولاسيّما أنّ الواقع كائن سائل، بل هو كائن هلاميّ، تقبض عليه فيتشكّل معك كما تريد، تضعه في كأس فيأخذ شكل الكأس، تضعه في شكل مربّع فيأخذ شكل المربّع، فهو مرن جداً، وهو أيضاً يستعصي على الحصر والفهم الدقيق. ومن هنا فإنّنا نكتفي بالمقاربة وأخذ الخطوط العريضة، والانطباعات العامّة.
قناة رؤية للثقافة والإعلام
رقية القضاة
أسرة التحرير
ساجد تركماني
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة