..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

روسيا وصراع النفوذ والهيمنة

محمد يوسيتش

٢٩ ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2680

روسيا وصراع النفوذ والهيمنة
0000 دبابات.jpg

شـــــارك المادة

إن عهد عالم الحروب الباردة أحادي القطب قد ولَّى، ونحن نتجه نحو عالم يحكم علاقاته الدولية نظام متعدد المراكز. وقد يكون أفضل من عبَّر عن الفكرة الرئيسية التي تقف خلف تشكُّل هذا النظام العالمي الجديد، قبل خمس سنوات، هو ريتشارد هاس، عندما وصف تلك العلاقات بأنها "غير أحادية". ووفقًا لما يراه أوليكسي إسحاق، الباحث في المركز الوطني الأوكراني للدراسات الاستراتيجية (NISS)، فإنه من الصعب إنكار أن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا أقطاب.

لكن الحقيقة أيضًا أن هذه البلدان ليس لها نفوذ فعلي مطلق. أمَّا الشركات العابرة للقارات والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدينية، بل وحتى الدول غير المعترف بها، فتتمتع بنفوذ كبير، وفي حالات غير قليلة، تحاول أن تُصبح أقطابًا جديدة على خارطة النظام العالمي الجديد.يبدو هذا العالم الجديد مستعصيًا على التنبؤ به؛ لأنه لا يُعرف كيف سيكون مختلفًا، وكيف سيكون ردُّ فعل مختلف اللاعبين المتعددين تجاه كل أزمة محتمَلة الوقوع.

في الماضي كان يمكن التنبؤ بالعالم، وكانت علاقات القوة بين الأقطاب معروفة، وكان يمكن توقع حجم وطبيعة رد الفعل التي تتوافق مع حجم القوة التي تمتلكها القوى العظمى، أما اليوم، فإن ذلك يكاد يكون مستحيلًا، وهو ما يشكِّل تحديًا كبيرًا للأمن العالمي. غير أن هذه القواعد الجديدة للعبة باتت اليوم أمرًا علينا جميعًا التعود عليه. فعلى أساس هذا الواقع الجديد للعلاقات الدولية، تحديدًا، تُبنى السياسة الخارجية الروسية، ليس فقط تجاه أوروبا الشرقية ولكن تُبنى، على أساسه أيضًا، رؤية روسيا الشاملة للعالم. وقد وجدت هذه النظرية في العلاقات الدولية، بل وحتى المصطلحات المصاحبة لها، مكانها في السجلات الرسمية لوزارة الشؤون الخارجية الروسية.

إن هوس الروس بفكرة عالم متعدد المراكز، ينطلق من مقدمات تفترض أنه سيكون أيسر لهم، في مثل هذا العالم اللامركزي، تحقيق طموحهم في أن يكونوا قطبًا، وبالتالي، فسيكون من الأسهل عليهم توسعة نفوذهم ونشر قواتهم. أما على المستوى العملي، فإن الطريقة التي تفهم من خلالها روسيا هذا العالم الذي تتعامل معه اليوم، نجدها مُعبَّرًا عنها بشكل واضح جدًّا في حديث قائد القوات العسكرية الروسية الذي أدلى به مع بداية عام 2013؛ حيث قال: "في أساليب المقاومة التي تُستخدم اليوم، بات التركيز ينصبُّ على زيادة توظيف التدابير غير العسكرية؛ مثل السياسة والاقتصاد والإعلام والأعمال الإنسانية التي يتم تنفيذها، جنبًا إلى جنب، مع احتجاجات يقوم بها عدد هائل من المواطنين، ثم يكتمل تنفيذ كل هذا عبر استعمال أساليب عسكرية سرية، بما في ذلك توظيف تدابير حرب المعلومات وعمليات تنفذها وحدات خاصة. وهكذا يكون الاستخدام المفتوح للقوة مختفيًا خلف بعثات حفظ السلام وإدارة الأزمات التي يتم استخدامها فقط في مراحل معينة من أجل ضمان النجاح التام في بعض الصراعات".

روسيا تؤمن بأن الغرب يستخدم هذه الأساليب منذ فترة طويلة، وكثيرًا ما تقدِّم مثالًا على ذلك ما حدث خلال ما يُسمَّى بالربيع العربي. وقد باتت روسيا اليوم تتعامل مع العالم من خلال توظيف مصائب الشعوب، والثورات الملونة وتمويل وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية وغيرها من جماعات المصالح التي توجِّه الرأي العام في البلدان المُستهدفة.

كل ما حدث في أوكرانيا على إثر السخط الشعبي العفوي -بدءًا من الاستفتاء المُفتعل ومرورًا بظهور تشكيلات شبه عسكرية برزت على الساحة من العدم ثم وصولًا إلى ضم شبه الجزيرة القرم- يتطابق ويدخل ضمن "منهج العمل" الجديد للسياسة الخارجية الروسية. والسؤال الآن هو: هل ستقف روسيا عند أوكرانيا، أم أنها ستعمل الآن على نقل قدراتها المتطورة بالفعل في مجال "الشكل الجديد لخوض الحروب" إلى بلدان أخرى تراها واقعة في منطقة نفوذها؟ يبدو أن هناك العديد من المؤشرات على أنها ستمضي إلى الأمام وأنه علينا، منذ الآن، التعود على تقبل فكرة "عالم روسيا" متعدد المراكز. ولا يجب أن ننسى أنه، قبل أوكرانيا والقرم، كنا شهدنا مثل هذا السيناريو في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وما كانت حرب عام 2008 ضد غروزيا (جورجيا) سوى اختبار لاستكشاف إلى أي مدى سيسمح الغرب لروسيا بالتقدم. ولم يكن ذلك سوى طريقة لاختبار طبيعة رد فعل الغرب.

الأهداف الجديدة:

لا تحاول روسيا، من خلال أساليبها الجديدة المُعتمَدة في التحرك، زعزعة استقرار البلدان التي تقع على حدودها، بل تعمل أيضًا على زعزعة استقرار دول البلقان، بل أكثر من ذلك، فإن روسيا تحاول هدم العلاقات القائمة بين دول أوروبا، وهو ما أكَّده الرئيس الأميركي باراك أوباما بكل وضوح، وذلك بهدف تعزيز مكانتها، وقبل ذلك كله، فإن موسكو تسعى إلى إضعاف حلف الناتو.

في البلقان، يمكن رؤية سعي بوتين إلى فرض هيمنته من خلال محاولته التأثير في صربيا وفي جزء من دولة البوسنة والهرسك، وتحديدًا في أحد كيانيها المسمَّى "ريبوبليكا صربسكا"؛ حيث يقود الحكم فيها حزب، ميلوراد دوديك، الموالي لروسيا. كما تعمل روسيا، بشكل معلن، على عرقلة طريق جمهوريات يوغسلافيا السابقة التي لم تنضم بعد إلى عضوية حلف الناتو، وتطلب منها البقاء على الحياد أو حتى تقاربها وتعاونها العسكري والأمني مع قواتها العسكرية.  

ويمكن رؤية أثر التأثير الروسي، بشكل أوضح، في دولة الجبل الأسود حيث لروسيا استثمارات مهمة، خاصة في قطاع السياحة، ولها أيضًا تأثير سياسي كبير فيها تمارسه من خلال الأقلية الصربية والأحزاب التي تمثلها. ففي اللحظة التي بات فيها من المؤكد أن الجبل الأسود في طريقه إلى الحصول على العضوية الكاملة في حلف الناتو، ظهرت "تحركات الشعب"، حيث نظَّمت الأحزاب الموالية لصربيا مظاهرات احتجاجية، تحولت في بعض الأحيان، إلى عنيفة.  وقد أكَّد عدد من المحللين على أن الأحزاب الموالية لصربيا تتلقى دعمًا من روسيا بهدف الوصول إلى حل البرلمان، الذي يعود إليه إقرار دخول الجبل الأسود في حلف الناتو، وإدخال البلاد في حالة من الفوضى تؤدي إلى فرض حالة الطوارئ.

لم تنته الأوضاع في الجبل الأسود إلى فرض حالة الطوارئ، كما أنه من الصعب تحديد إلى أي مدى كان للتدخل الروسي دور في كل ما شهده هذا البلد في تلك المرحلة. لكن موقف روسيا من انضمام الجبل الأسود إلى حلف الناتو كان واضحًا ومُعلَنًا منذ فترة سابقة. ففي ربيع عام 2011، قال سيرغي لافروف: إن "انضمام الجبل الأسود إلى حلف الناتو لن يؤدي إلى تحسين الوضع الأمني في المنطقة ولا في العالم بأسره". ثم في عام 2014، وصف لافروف احتمال حصول الجبل الأسود على عضوية حلف الناتو بأنه "أمر غير مسؤول ومستفز". وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، أرسل مجلس الدوما الروسي إلى برلمان الجبل الأسود، وبرلمانيي الدول الأعضاء في حلف الناتو وفي منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، رسالة مفتوحة جاء فيها: "إن طموح نظام الرئيس ميلادجو كانوفيتش، الذي يحكم البلاد منذ 25 عامًا، في انضمام بلاده إلى حلف الناتو يتناقض مع رغبة غالبية الشعب في هذا البلد".

خاتمة:

كانت روسيا إمبراطورية لقرون طويلة، ثم بعد انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي، أُتيحت الفرصة أمام دول عديدة لبناء نظام عالمي جديد، وإقامة نظام أمني، دولي وأوروبي، جديد. أمَّا بالنسبة لموسكو، فإن كل تلك الاتفاقيات والترتيبات الأمنية والعلاقات الحديثة التي جدَّت خلال خمس عشرة سنة الماضية ليست سوى انحراف (خروج عن المألوف) وأمر يتحتم تغييره.

واليوم نشهد محاولات روسيا فرض تأثيرها في مناطق نفوذها وممارسة ضغوطها على حلف الناتو داخل حدوده. ولتحقيق ذلك فإن روسيا بَنَتْ رؤيتها لعالم جديد متعدد المراكز، وهي تسعى إلى توظيف كل الوسائل والطرق الجديدة المتاحة أمامها على ساحة العلاقات الدولية في شكلها الجديد.



مركز الجزيرة للدراسات

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع