..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

شعب في قفص

مجاهد مأمون ديرانية

٢١ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3245

شعب في قفص
مامون +00.jpg

شـــــارك المادة

صمت الشعب السوري خمسين عاماً، فلمّا نطق أخيراً لم يهمس همساً بالصوت الرَّخْو الضعيف، بل زأر زئيراً صاخباً تردّد صداه في أنحاء الأرض. كانت الكلمةُ الأولى التي خرجت من أفواه الأحرار الثائرين كلمةً واحدة قصيرة من أربعة أحرف: "حرية، حرية"، ولكنها كانت في أثرها أثقلَ من الجبال وأقوى من الأعاصير. ثم تبعها على الفور ذلك الهتاف العفوي العبقري الذي حفظه التاريخ: "الشعب السوري لا يُذَل"، فكانت تلك الكلمة القصيرة وذلك الهتاف الرنّان إعلانَ السوريين عن عودتهم إلى الحياة، كان إعلان الولادة الجديدة بعد الموت الطويل.

لن يعرف شعبٌ في الدنيا ما معنى هذا الهُتاف وما أثرُه في قلوب السوريين، لأن أيّ شعب في الدنيا لم يفقد حريته ولم يفقد كرامته كما فقدها الشعب السوري. حتى الشعبُ الفلسطيني الذي عاش تحت الاحتلال اليهودي الصهيوني كان أكثرَ حرية وأوفرَ كرامة من الشعب السوري الذي عاش تحت الاحتلال البعثي الأسدي الطائفي البغيض.

في أي مكان في الدنيا يمكن أن يُعتقَل المرء وهو بريء، وفي بعض الدول (وربما في كثير منها) يمكن أن يتعرض للظلم والتعذيب، لكنْ يستطيع محاموه أن يدافعوا عنه أمام المحاكم، ولو كانت المحاكم تتحاكم إلى قانون جائر. على الأقل يعرف أهلُه أين هو، على الأقل يعرفون أنه حُكم عليه بالسجن عاماً أو ألفَ عام، على الأقل يعرفون أحيٌّ هو أو ميت، على الأقل يستطيعون أن يزوروه في بعض الأحيان، على الأقل يمكنه هو نفسه أن يسأل فيمَ اعتُقل وفيمَ حوكم أو سُجن. أما في سوريا فلم يعرف المعتقَلُ في أي شيء اعتُقِل، وربما قُتل من بعدُ ولن يعرف في أي شيء قُتل. أما أهله فلن يعرفوا أبداً أين اختفى، ولو سألوا عنه فليس بعيداً أن يلحقوا به، لأن السؤال عن المعتقَل -في قانون دولة الأسد- جريمةٌ أكبر من جريمة المعتقَل التي لا يعرفها أحد.

*   *   *

مضت على سوريا خمسةُ عقود مظلمةٌ كئيبةٌ والناس فيها كلهم عبيد، ليسوا أكثر من دجاج في قفص!

كان لواحد من أصدقائي منذ سنوات متجرٌ لبيع الدجاج الحيّ، فإذا زرته وجدت عنده أقفاصاً فيها دجاج، يفتح أحدَها ويمد يده فيقبض على دجاجة ويسحبها خارجاً للذبح، ولم أسمع يوماً أيَّ دجاجة من الدجاجات في القفص تحتجّ بكلمة اعتراض. الشعب السوري عاش في قفص كهذا القفص خمسين عاماً. كان "المواطن السوري" تحت حكم الأسد أهونَ وأقل قيمةً من الدجاج في الأقفاص! يستطيع عناصر الأمن أن يقتحموا بيته في أي وقت من ليل أو نهار، ويجرّوه أو يجرّوا ولده أو زوجته إلى حيث يريدون. لا يحق له أن يعترض ولا يحق لأحد من أهل بيته أن يسأل، ولن يعرف مَن بقي في البيت أبداً إلى أين ذهب المُعتَقلون.

زرت صاحبي ذاك في متجره ذات يوم، فوصلَت العربة التي تنقل الدجاج من المزرعة وقد تكدست فيها الأقفاص وتكوّمت الدجاجات في الأقفاص أكواماً، فلما جاء سائق العربة يسلّمه "البضاعة" راح يمد يده إلى الأقفاص ويفحص الدجاجات، فكلما وجد واحدة منها ميتة سحبها فألقاها في حاوية القمامة، ثم عَدَّ الباقيات وأخذ توقيعاً بالاستلام. وسألتُه عن السر، فقال إن حشر الدجاجات في الأقفاص ورحلتها الطويلة من المزارع إلى المتاجر يندر أن تمرّ بسلام، ولا بد أن تَنْفُق بعضُ الدجاجات على الطريق بسبب سوء ظروف النقل والتخزين.

أليس كذلك عاملت أجهزةُ الأمن شعبَ سوريا كله طَوال عقود؟ بلى، لقد خضع شعب كامل للمعاملة ذاتها؛ صنعت أجهزةُ الأمن مع عشرين مليون سوري ما يصنعه بائعُ الدجاج مع دجاجاته، فإذا صار المرء في قبضتها لم يبقَ فرقٌ بين موته وحياته، ولا يسأل أحدٌ أحداً كيف مات مَن مات من المعتقَلين وكيف عاش مَن عاش؟

*   *   *

الله يقول عن نفسه: "لا يُسأَل عمّا يفعل"، جَلَّ جلالُ الله، وأجهزة الأمن في بلادنا أرادت أن تشارك الله في صفاته فصارت لا تُسأَل عما تفعل، فالناس ملك لها تتصرف فيهم كما تشاء؛ تنتزع ممّن تشاء منهم حريّتَه ولا يسألها أحد، وكرامتَه فلا يحاسبها أحد، وحياتَه فلا يعاقبها أحد. الكبار والصغار والرجال والنساء، والعرب والكرد والمسلمون والمسيحيون، كل واحد حمل هويةً سوريةً فكأنما حمل صكّ عبودية، الكل مماليك وأجهزة الأمن هم المالكون، ويا ليتهم يتصرفون في مماليكهم كما يتصرف راعي البهائم في البهائم، بل هم أذل وأهون، وهم أدنى قيمةً من البهائم والحيوانات.

ثم سأل الناسُ الشعبَ السوري فيمَ ثار؟ ثم هم يستكثرون على الشعب السوري أن يضحي بثلث مليون شهيد ليفتدي نفسه من العبودية؟ لو علموا ما يعلم أهل سوريا لرضوا بأن يضحوا بثلاثة ملايين شهيد ليتخلصوا من حياة العبيد!

 

 

الزلزال السوري

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع