مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3790
شـــــارك المادة
إنه سؤال كبير خطير لن نستطيع أن نجيب عنه (وعن كثير غيره من الأسئلة المتعلقة بالقضايا الدولية) إلا إذا فهمنا مسألتين: العلاقات البَينيّة بين الدول، ومواقع الدول المختلفة على سلّم القوة والنفوذ.
من مسلّمات السياسة أن الدول لا تعيش محصورة في حدودها الجغرافية، بل تحاول كل دولة أن تمدّ نفوذَها خارجَ الحدود.
قد يكون تمددها اقتصادياً بهدف فتح الأسواق أمام منتجاتها والحصول على الطاقة والموارد التي تحتاج إليها، وهو أمر تصنعه الغالبية العظمى من دول الأرض.
وقد يكون سياسياً بهدف تحقيق نفوذ يضمن أمن الدولة ومصالحها، وهذا السلوك يمكن أن تسلكه أي دولة مع جارة أضعف منها، ونجد له أمثلة في علاقة الصين بالتبت والهند بنيبال وفيتنام بكمبوديا وباكستان بأفغانستان وأثيوبيا بالصومال.
وبالطبع فإن علاقة روسيا بأوكرانيا والولايات المتحدة بالمكسيك تدخل في هذا الباب، مع ملاحظة أن الدولتين الكبيرتين تحاولان مدّ النفوذ إلى "الحدائق الخلفية كلها" وليس إلى الجيران فقط، وفي هذا السياق نفهم سياسة روسيا في شرق أوربا ووسط آسيا وسياسة الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية.
النوع الثالث من أنواع مدّ النفوذ خارج الحدود هو التمدد العسكري، عن طريق نشر القواعد والسيطرة على الممرات المائية والمواقع الإستراتيجية، وعن طريق تسليح جيوش "الدول الصديقة" وتدريبها، أو القيام بانقلابات عسكرية، أو إنشاء جماعات محلية مسلحة (مليشيات) تابعة.
وقد مارست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق هذه الوسائلَ كلها في فترة "الحرب الباردة" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهذه الوسائل القبيحة هي البديل العصري للاحتلال العسكري المباشر الذي مارسته غالبية الدول الأوربية خلال القرون الماضية.
حسب تقسيمي الخاص للاستعمار الحديث فإنني أعتبر أن العالم يعيش حالياً في عصر الاستعمار الرابع.
الأول هو عصر الإمبراطوريات الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) الذي يمتد من الاحتلال البرتغالي لسبتة المغربية (1415) وحتى كارثة "الأرمادا"، الأسطول الإسباني العظيم الذي تحطم في محاولة غزو إنكلترا (1588).
الثاني هو عصر الإمبراطوريات الأوربية (فرنسا وإنكلترا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وروسيا) الذي يمتد من بداية القرن السابع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. الثالث هو عصر القطبين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) الذي يمتد خلال الحقبة التي تُعرف باسم "الحرب الباردة".
الرابع هو "العصر الأمريكي" الذي بدأ بانهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الشيوعية في آخر العقد التاسع من القرن الماضي وما زلنا نعيش فيه إلى اليوم.
* * *
أعود إلى سلّم القوة والنفوذ الذي أشرت إليه في مطلع المقالة، فإنه المفتاح الأساسي لفهم الواقع السياسي الدولي والإقليمي ولفك شيفرة الحوادث الكثيرة (الغريبة أحياناً) التي نعيشها في عالم اليوم.
سوف نجد أن الولايات المتحدة تتربع على رأس السلّم بفارق هائل يفصلها عن كل مَن وراءها، فإنّ ناتجها القومي يبلغ نحو 18 ترليون دولار، وهو ما يعادل الناتج القومي لكل دول الاتحاد الأوربي مجتمعةً (ويبلغ عددها 28 دولة)، أما روسيا فيبلغ ناتجها القومي ترليونَي دولار، أي نحو عُشر الناتج الأمريكي فحسب.
هذا التفوق الاقتصادي الهائل أثمر تلقائياً تفوقاً عسكرياً وعلمياً وتكنولوجياً طاغياً، بحيث نستطيع القول -على الإجمال- أن ما تملكه أمريكا من قوة عسكرية وتكنولوجية يفوق ما تملكه منهما دولُ العالم كلها مجتمعة.
هذا يعني أن أمريكا تهيمن على العالم (حرفياً)، وأن التغيرات الكبرى في العالم لا يمكن أن تقع إلا بتخطيطها أو بإشرافها وموافقتها المسبقة، وإلا فإنها سوف تتدخل سراً أو علانية لمعالجة أي تغيير خارج السيطرة. وقد تكون حركتها بطيئة وغيرَ مباشرة كما حصل في إيران التي حاولت التمرد على النفوذ الأمريكي والتمدد في الإقليم لمصالح خاصة، وقد تكون سريعة وجراحية كما حصل في العراق بُعَيد غزو الكويت.
هل يعني هذا أن دول العالم كلها لا تملك إلا الانصياع الكامل لنفوذ الولايات المتحدة؟ لا، هنا تأتي فائدة القوة الاقتصادية والعلمية والعسكرية التي تملكها كل واحدة من دول الأرض، فكلما زادت تلك القوة اتسعت المساحة التي تستطيع الدولة أن تتحرك وتناور فيها، وكلما قلّت القوة تتقلص تلك المساحة حتى تنعدم تماماً مع الدول الصغيرة الضعيفة.
إن الدول الأوربية والصين واليابان وروسيا دول قوية اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً وتملك مساحات واسعة للمناورة والتحرك، لذلك فإنها "شبه" مستقلة عن النفوذ الأمريكي.
وأقول "شبه مستقلة" ولا أقول إنها مستقلة تماماً لأنها تضطر إلى الخضوع للضغط الأمريكي إذا بلغ درجة عالية، ونستطيع بسهولة أن نرصد كثيراً من الهزائم التجارية للصين واليابان في تعاملها مع الولايات المتحدة التي تطبق مع تلك الدول الكبيرة اتفاقيات تجارية مُجحفة، كما نجد أن أوربا كلها (ومعها روسيا) لم تستطع أن توقف الجنون الأمريكي عندما قرر بوش الهجوم على العراق بذريعة أسلحة الدمار الشامل، رغم أن غالبية الدول الأوربية كانت تعارض العدوان بقوة، ولا سيما فرنسا، ورغم أن المظاهرات الشعبية التي اجتاحت القارة الأوربية مندّدةً بالعدوان لم يسبق لها مثيل في تاريخ أوربا (ولم يأت بعدَها مثلُها أيضاً).
(بالمناسبة: إن المساحة المشار إليها آنفاً هي التي تتحرك تركيا ضمنَها في سعيها الصادق المخلص لدعم الثورة السورية، وإذا فهمنا هذه النقطة سنفهم سبب سكوت تركيا عن المفتشين الأمريكيين الذين يقيمون على أرضها ويقومون بتفتيش شحنات السلاح القادمة إلى سوريا، فيصادرون الأسلحة النوعية ويحرمون منها الثوار ويطيلون معاناة السوريين. إن وجودهم وعملهم مخالف لرغبة تركيا في دعم الثورة وقد يبدو خرقاً للسيادة التركية، وهو في الحقيقة كذلك، ولكن الأتراك لا يستطيعون منعه لأنه خارج مساحة المناورة التي يستطيعون الحركة ضمنها.)
الأمر الآخر الذي يفيدنا أن ننتبه إليه هو أن مساحة الحركة والمناورة التي تملكها أي دولة تتقلص عندما تعاني تلك الدولة من مشكلات اقتصادية، وأيضاً عندما تتعرض لقلاقل سياسية وعدم استقرار.
في الحالتين ستكون أضعفَ وأقلّ قدرةً على المناورة، لذلك تحاول أمريكا أن تُبقي الدول التي تريد إخضاعها في إحدى الحالتين السابقتين.
مثال على الحالة الأولى إيران التي استُنزفت خلال السنوات القليلة الماضية بالحصار ثم في الثورة السورية، ومثال على الحالة الثانية تركيا التي تعرضت لمحاولات قلقة داخلية في الأشهر التي سبقت الانتخابات الأخيرة، وهما القوتان الوحيدتان اللتان يمكن أن تنافسا أمريكا على النفوذ في الإقليم (أي في منطقة الشرق الأوسط).
من هنا يمكننا القول إن السياسة العامة (الإستراتيجية) في المنطقة ترسمها وتقودها الولايات المتحدة، وإن القوى الكبيرة في العالم (كروسيا وبريطانيا وفرنسا) والقوى الكبيرة في الإقليم (كتركيا وإيران) هذه القوى تتحرك ضمن حدود تتسع أحياناً وتضيق أحياناً أخرى، لكنها تبقى دائماً ضمن النفوذ والهيمنة الأمريكية.
نصل الآن إلى الجواب الذي صار واضحاً بعد هذه المقدمة الطويلة:
الذي سلّم بلادنا لإيران هي الولايات المتحدة الأمريكية التي يُعتبَر التحالفُ مع إيران أحدَ ثوابتها الإستراتيجية التي لم تتغير منذ سبعين عاماً (وهذه واحدة من ثلاث إستراتيجيات كبرى حافظت عليها الولاياتُ المتحدة في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد أشرت إليها في مقالة سابقة إن كنتم تذكرون).
لقد سلّمت أمريكا لإيران -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- كلاً من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكان ينبغي أن تكون البحرين ضمن قائمة الضحايا لولا لطف الله، وما يزال الخطر الكبير محدقاً بالساحل الغربي للخليج العربي كله، من الكويت إلى مضيق هرمز.
سلّمت أمريكا العراق لإيران على طبق من ذهب، وكما تلاحظون فإن التدخل الأمريكي الأخير في العراق (الذي يتكئ ظاهرياً على هجوم داعش الأخير) يكرّس النفوذ الإيراني ولا يقلصه.
وفي سوريا رعت أمريكا عائلة الأسد النصيرية التي تحالفت مع إيران في عهد الأسد الأب ثم صارت تابعة لها تَبَعيّة كلية في عهد الأسد الابن، وفي لبنان غضّت الطرْف عن الدعم الإيراني الهائل لحزب الله وضغطت على حلفائها في المنطقة لمنحه حرية الحركة والتمدد حتى وصل إلى السيطرة الكاملة على البلد، وكذلك صنعت مع الحوثيين في اليمن مؤخراً، كما أنها ضغطت -في وقت سابق- على البحرين وما تزال تضغط في سبيل منح المتمردين الشيعة قدراً كبيراً من القوة والنفوذ.
لكن أمريكا لا تصنع الحوادث دائماً، بل إنها كثيراً ما تدخل على الخط بعد وقوعها فتحاول تغيير الظروف بما يضمن لها المحافظةَ على مصالحها والاستمرارَ في سياساتها، وإنني لعلى يقين أن الثورة السورية كانت من الحوادث القليلة التي فاجأت أمريكا تماماً وسبّبت لها الارتباك، فحاولت في البداية احتواءها والمحافظة على الواقع القديم، ثم حاولت اختراقها وتطويعها عندما فشلت في احتوائها وإنهائها، وكانت إيران حاضرة في الخلفية دائماً خلال المراحل المختلفة من علاقة أمريكا بالثورة السورية.
ما تزال إيران هي الحليف الإستراتيجي لأمريكا في سوريا وفي الإقليم، وما تزال أمريكا مصرّة على إخضاع السنّة في سوريا والعراق لهيمنة الشيعة (والنصيريين) وللنفوذ الإيراني، وما تزال أمريكا مصرّة على التحالف الإستراتيجي مع إيران الفارسية الشيعية ضد الدول العربية السنّية، وما سيطرة الحوثيين على اليمن إلا حلقة في هذا المخطط الخبيث الشرير.
وماذا بعد كارثة اليمن؟
إن خطر التوسع الإيراني كبير، وإن سوريا هي خط الدفاع الأخير عن السنّة في الشرق الأوسط، وهذا هو موضوع المقالة الآتية إن شاء الله.
الزلزال السوري
أبو فهر الصغير
عامر الهوشان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة