سلوى الوفائي
تصدير المادة
المشاهدات : 7203
شـــــارك المادة
تُعرّف الدولة المدنية على أنّها "دولة تحمي وتحافظ على كلّ أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والفكر."
من أهم مبادئها أن تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين، و ألا يخضع أيّ فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك.
فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم. و من مبادئ الدولة المدنية الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة.
و من مبادئها مفهوم "المواطنة" والذي يعني أن الفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنّما يُعرّف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنّه مواطن، أيّ أنّه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وتشكّل قيم المجتمع المدني ما يعرف بالثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حدّ أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطاً حمراء لاينبغي تجاوزها. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنّها لا تخلط الدين بالسياسة، كما أنّها لاتعادي الدين أو ترفضه فرغم أن الدين يظلّ في الدولة المدنية عاملاً في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم إلا أنّ الدولة المدنية ترفض استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، لأنّ ذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية. و من مبادئها أيضاً مبدأ الديمقراطية والتي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصباً من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية. و مما لاشكّ فيه أنّ ثورات الربيع العربي أفرزت جدلاً كبيراً حول مفهومي الدولة الدينية والدولة المدنية بين الإسلاميين والعلمانيين. يرى الدكتور رفيق حبيب أنّ مصطلح الدولة الدينية تمّت صياغته لإخافة الناس من الحركة الإسلامية رغم أنّ التعبير باللغة العربية لا يعني سوى الدولة التي تستند على مرجعية الدين، في مقابل الدولة غير الدينية التي لا تستند على مرجعية الدين. و تم إلحاق تعبير الدولة الدينية بمعنى الدولة الثيوقراطية، والتي تقوم على الحكم بالحق الإلهي المطلق، حيث يزعم الحاكم أنّه يحكم نيابة عن الله، وأنّه مفوّض منه، كما كان الحال في حكم الكنيسة في العصور الوسطى والدولة الدينية بهذا المعنى لا توجد أصلاً في الإسلام، وهي نموذج غريب على الخبرة التاريخية الإسلامية.
لذا أصبح مصطلح الدولة الدينية محملاً بمعاني لا تحتملها اللغة، ولا ترتبط بالمشروع الإسلامي ولكن تمّت صياغة هذا المصطلح لتكوين صورة سلبية يتم إلصاقها بالمشروع الإسلامي، حتى يحاصر بمعان سلبية، وتدخل الحركات الإسلامية في دائرة الدفاع عن مشروعها. واتهام الحركات الإسلامية بأنّ ممارستها السياسية سوف تماثل الدولة القائمة على الحكم بالحقّ الإلهي أو التفويض الإلهي، أدى إلى تكوين صورة سلبية لدى بعض الناس أن تلك الدولة تمثل نوعاً من الاستبداد باسم الدين. وهنا يلاحظ أن بعض الخطابات العلمانية المستترة، تحاول فصل الإسلام عن الحركة الإسلامية، حتى تستطيع إدانة الحركة الإسلامية، دون إدانة الدين نفسه فيتصور بعض الناس أنّ الحركات الإسلامية، لن تطبق قواعد الدين، بل سوف تفرض رؤيتها على الناس، وتعتبر نفسها مفوضة من الله بالحكم. وهنا يشاع تصور أن الحركة الإسلامية سوف تفرض حكمها على الناس، ولن تأتي باختيارهم، ولن تصل للسلطة بناء على تفويض شعبي، بل سوف تعتبر نفسها مفوضة من الله، فيحق لها الوصول إلى السلطة بأي طريقة، وفرض حكمها على الناس. وفي المقابل نجد أن بعض النخب العلمانية تحاول حصر العمل السياسي في الاتجاهات العلمانية، ومنع التيار الإسلامي من العمل السياسي بإلصاق تهمة الاستبداد بالحركات الإسلامية حتى تصبح هي البديل المتاح أمام الناس وكل التصرفات العلمانية، تلجأ إلى فرض واقع سياسي على المجتمعات بدعم غربي، أي إن معظم المشاريع العلمانية تلجأ إلى شكل من الوصاية على الناس، وفرض العلمانية بأدوات الاستبداد. وبقدر ما تنجح تلك الحملة في تصوير الحركة الإسلامية، بأنها حركات تريد الاستبداد باسم الدين تفقد الحركة الإسلامية تأييد جزء من المؤمنين بفكرتها، فتجبر الحركات الإسلامية التي تعمل في المجال السياسي، على شرح فكرتها للرد على تلك الشبهات. وهنا يظهر مصطلح الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، حيث يشرح هذا المصطلح طبيعة الدولة وأنها مدنية وليست دينية، وتقوم على المرجعية الإسلامية. فأصبح من الضروري تجنب القول إن الدولة الإسلامية دولة دينية، بعد أن تم تشويه تعبير الدولة الدينية، رغم أن هذا التشويه ليس من صميم التعبير نفسه. لذا توجه العاملون في المجال السياسي الإسلامي إلى التأكيد على أنّهم مع الدولة المدنية، رغم أن كل دولة هي دولة مدنية بالضرورة، لأنّ مصطلح الدولة المدنية قد فرض على الساحة في كتابات النخب العلمانية، وأصبح معياراً تواجه به الحركة الإسلامية، ويقاس عليه موقف العلمانيين من الحركة الإسلامية حتى ترى ما إذا كان من الممكن أن تعطي الحركة الإسلامية صك الاعتراف بفكرتها عن الدولة ما إذا كانت مدنية أم لا. و قد شاع تسويق مفهوم الدولة المدنية لأنّه يحمل مضموناً إيجابياً مطمئناً لكافة فصائل المجتمع و أطيافه ومكوناته، و لعلّ التوصيف الأقرب لمفهوم الدولة المدنية في أدب النخب العلمانية، أنها الدولة التي تعبر عن المجتمع وتكون وكيلة له وتستند لقيمه، ويختار فيها المجتمع حكامه وممثليه ويعزلهم ويحاسبهم، وبهذا التعريف تصبح الدولة المدنية مطابقة لمعظم الاتجاهات السياسية الإسلامية. ولكن مفهوم الدولة المدنية لدى النخب العلمانية يتوسع للعديد من المفاهيم الأخرى، والتي تلحق فكرة الدولة المدنية بالمرجعية العلمانية. يمتدّ جدل لا ينتهي بين الإسلاميين و العلمانيين بسبب عدم توفر معنى واضح و محدد و متفق عليه لمفهوم الدولة المدنية و ما ارتبط به من المصطلحات مثل المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان، وهي تعبيرات إيجابية، تؤمن بها العلمانية و جميع الحركات الإسلامية على حدّ سواء. لكنّ الحركات الإسلامية تحاول التأكيد على أنّ معنى تلك المصطلحات مرتبط برؤيتها الإسلامية، وليس بالمعنى الشائع في الأدبيات الغربية.
ولكن تلك المعركة كان لها أثر سلبي على التيار الإسلامي، لأنها باعدت في الرؤى بين فصائل التيار الإسلامي فكان منهم من سعى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية على غرار التاريخ الإسلامي، و رفض قبول المصطلحات السياسية الشائعة برمتها. و كان منهم من رأى أن العمل السياسي يفرض عليهم شروطاً معينة و تنازلات معينة فرضخ في ظل هذه المناحرات لشروط و إملاءات خارجية وغربية في سبيل الوصول إلى السيادة والحكم فأقام تحالفات مختلفة وجلس على طاولات مفاوضات مختلفة مركّزاً على هدف واحد هو الوصول إلى سدّة الحكم، وفي نفس الوقت ظهرت الاتجاهات التي ترفض العمل السياسي، و تتبنى حمل السلاح في وجه الدولة. وهو ما يزيد من شدة الاختلافات داخل الساحة الإسلامية، ويفرق بين الحركات الإسلامية، ويجعل مواقفها من العمل السياسي، كافية لمنع التنسيق والتعاون بينها. هكذا برزت التعددية في الخطاب الإسلامي، والتي لا تنبع من تعدديته الداخلية، ولكن من الحصار المفروض عليه، وحرب الشعارات والمقولات والشائعات التي تشن عليه. فأصبحت مشكلة الحركات الإسلامية لا في انعدام ثقافة المجتمع حول مفهوم الدولة الإسلامية بقدر ما هي مشكلة التشويه الذي تمارسه الحركات العلمانية ضده. و مما لا شكّ فيه فقد ساهم في تشويه تلك الصورة بعض دعاة الدين الذين يستخدمون الدين لمآرب شخصية وهم بعيدون كلّ البعد عن روح الإسلام. فالنظام الإسلامي نظام عميق جداً يبني مشروعه انطلاقا من التركيبة الروحية والمادية للإنسان ويعمل على إيصال المرء إلى كماله المنشود خلال مراحل حياته المختلفة فيضع له برنامجاً واضحاً فيه ما هو واجب وما هو حرام وما هو مستحب وما هو مكروه وحتى يحقق النظام الديني غايته فإنه يرسم للإنسان مساره في هذه الدنيا بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ويراعي جميع حقوقه.
أما النظام المدني رغم ماله من إنجازات ضخمة وعديدة وعلى كافة الأصعدة لكنه نتاج بشري بحت لذا لن يكون بمقدوره أن يضع النظام الأمثل للبشرية لأسباب عديدة منها حاجات الإنسان الروحية التي لا يتعرض لها بل ويتصادم معها حين سن القوانين وأيضا لأن الإنسان مهما تجرد لابد وأن ينحاز إلى خاصيته الدينية الأسرية السياسية الاجتماعية المذهبية وسواها والإنسان الغربي إنّما قام بثورته انطلاقاً من ظلم رجال الكنيسة عليه في القرون الوسطى وهذه نقطة جديرة أن نقف عندها لأنّها تفسر مدى الموقف السلبي الغربي من الدين. يعجز الإنسان وحده عن رسم النظام الأمثل لجميع شؤون الحياة أما دين الله فهو نظام حياة ودستور شامل وكامل للإنسان لأنّ الله أوكل للإنسان خلافته في أرضه والخلافة هنا ليست هي الخلافة السياسية وإنّما هي خلافة كلّ إنسان على هذه الأرض لأنّ بمقدور الإنسان صنع المعجزات على أرض الله إذا أطاع الله وأحل حلاله وحرم محرماته. والدين إنما جاء بتعاليمه لأجل سعادة البشر و جاء ليعالج لبّ المشاكل التي تدفع الإنسان أن يقتل وأن يحسد وأن يخون وأن يغدر إلى آخر هذه المشاكل التي قد تحدث بينه وبين أخيه الإنسان وغيرها من المشاكل التي نتعرض لها في حياتنا اليومية،حتى بعض المفاهيم حين نفصلها عن الدين نفهمها بشكل خاطئ ونتصرف على أساسها الخاطئ بشكل خاطئ كمفهوم الحرية مثلاً التي لا يمكن أن تكون مطلقة فالإنسان مهما تصور أنه حرٌ فهناك خطوط حمراء تحدّ من حريته كقوانين الطبيعة والمجتمع والأعراف العامة و التقاليد السائدة وما شابه. فالحرية المطلقة مفسدة وخير دليل على ذلك ما نراه متجسدا في النظام المدني الغربي الحالي. حتى الحرية الفكرية التي يتباهون بها في العالم الغربي أيضا ليست موجودة وإلا فلماذا مثلاً حوكم الكاتب الفرنسي روجيه جارودي لمجرد أنه انتقد فكرة ما يسمى بالمحرقة وحتى مبدأ فصل الدين عن الدولة بشكل كامل غير موجود ولا يطبق فعلياً وخير مثال على ذلك فرنسا التي أقرت في دستورها أنها دولة علمانية مدنية ثمّ لاحقت المحجّبات ونكّلت بهم وفرضت عليهن نزع الحجاب قسراً وهذا مما يتنافى مع فكرة فصل السياسة عن الدين. وإن كان أعظم ما تتغنى به الدولة المدنية وثيقة حقوق الإنسان فإن هذه الحقوق كفلها الإسلام قبلها وزاد عليها وخالفها العالم بشكل واضح فاضح لمسناه في تعاطيه مع مسألة الثورة السورية، ففي حين أدانت لجنة حقوق الإنسان ممارسات النظام الأسدي ضد شعبه ووصفتها بالانتهاكات الجسيمة التي ترقى لجرائم ضد الإنسانية، وقف العالم موقف المتخاذل العاجز عن إنصاف شعب يباد إبادة جماعية لمجرد أنّه نشد العدل والتحرر من الظلم والاستعباد والاستبداد، فتجلت وثيقة حقوق الإنسان على أنّها أكبر كذبة تاريخية يسوّق لها المجتمع الغربي.
كما لابدّ من ذكره أيضاً أنّ الإسلام لا يعارض مبدأ الديمقراطية فأهم مبدأ فيه هو الشورى والحفاظ على حقوق الجميع كما كفل الحريات الشخصية للجميع بما لا يتعارض مع مصلحة المجتمع حسب مبدأ ( لا ضرر و لا ضرار). وخلاصة القول، المجتمع المدني كمصطلح ليس الابن البار للعلمانية بل هو نتاج الحرية، ووليد فكرة الانعتاق من حكم الكنيسة و شعوذاتها، و من ممارسات القهر باسم الدين، ورؤياه قديمة قدم الحرية وتطلعات الإنسان إليها، وتزخر بها الرؤية الإسلامية للدولة و المجتمع. وما المراد بالبعد المدني للدولة إلا إدارة المجتمع من غير توجه إيديولوجي معين وبعيداً عن التأطير والتنظير الحزبي ووفق رؤية جامعة للأمة، ضمن معايير الفعل الإرادي التطوعي المبني على العنصر الأخلاقي السلوكي، وضمن معايير الشفافية والمراقبة والمحاسبة والمصداقية. وقد تكون الدولة المدنية ذات مرجعية علمانية أو إسلامية حسب المشروع السياسي للسلطة التنفيذية، فالدولة المدنية هي الهدف المشترك للعلمانيين والإسلاميين على حدّ سواء ويحدد المرجعية لهذه الدولة شكل السلطة التنفيذية الحاكمة.
صالح النعامي
طارق الحميد
أحمد بن فارس السلوم
علي حسين باكير
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة