محمد عباس ناجي
تصدير المادة
المشاهدات : 6916
شـــــارك المادة
عندما أيَّدت إيران الثورتين (التونسية والمصرية) اللتين أطاحتا بنظامي الرئيسين (زين العابدين بن علي وحسني مبارك) واعتبرتهما «محاكاة واستلهاماً للتجربة الإيرانية»، لم تكن مدركة أن هذه «الموجات الثورية» سوف تصل إلى حلفائها في الإقليم وبالأخص نظام الرئيس السوري بشار الأسد. ومن هنا تغيَّر الموقف الإيراني بشكل جذري من «مساعدة المستضعفين» في تونس ومصر ومن بعدهما البحرين وليبيا واليمن - وهو العنوان الأيديولوجي الذي غلف موقفها من الثورات والاحتجاجات التي اجتاحت هذه الدول - إلى «دعم المستكبرين» في سورية، واتهام الثورة السورية بأنها «مؤامرة من تدبير القوى الغربية لتقويض دعائم المقاومة».
إيران لم تكتف بذلك، بل إنها اندفعت إلى تقديم دعم غير محدود على المستويات كافة لحليفها السوري، وسَعَت لدى بعض القوى الكبرى، لاسيما روسيا والصين، لإقناعهم بتوفير ظهير دولي لهذا النظام بهدف مواجهة الضغوط والعقوبات الدولية المفروضة عليه. هذا الموقف الإيراني المؤيد للنظام السوري رفع الغطاء عن السياسة النفعية التي تنتهجها إيران في التعامل مع الثورات والاحتجاجات العربية، وأكد أنها تتعامل معها بمنطق الدولة التي تسعى لتعزيز مصالحها وليس الثورة التي تلتزم بسقوف أيديولوجية محددة، بل ربما أحرج إيران أمام الرأي العام العربي وأفقدها «الصورة النمطية» التي حاولت فرضها باعتبارها «الأمة الثائرة» و«الداعم الرئيسي للمقاومة» في المنطقة. وربما يمكن تفسير ذلك في أن إيران تعتقد أنها المستهدَف الأول من الجهود الدولية لفرض ضغوط على الرئيس السوري بشار الأسد من أجل التنحي؛ على أساس أن ذلك يمهد لسقوط النظام السوري برمته، وهو ما يعني فقدان إيران الغطاء العربي الذي استثمرته لدعم تمدُّدها في الإقليم، وقطع «جسر التواصل» مع حلفائها الآخرين لاسيما «حزب الله» اللبناني وحركة «حماس» الفلسطينية. وقد بدت انعكاسات الأزمة السورية على مواقع هؤلاء الحلفاء جلية في الآونة الأخيرة. ففضلاً عن «حزب الله» اللبناني الذي بدا أكثر ارتباكاً وانغماساً في تفاصيل المشهد الداخلي، فإن حركة «حماس» بدأت توجِّه رسائل إلى الخارج تفيد إمكانية ابتعادها تدريجياً عن «الأجندة الإيرانية»، وهو ما بدا جلياً في توقيعها على «اتفاق الدوحة» للمصالحة مع حركة «فتح» الفلسطينية في 6 فبراير 2012م، الذي سيتم بمقتضاه تشكيل حكومة فلسطينية برئاسة محمود عباس (أبو مازن) للإشراف على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبدء في إعمار غزة. إيران بدت مدركة لمخاطر تغيُّر الخطاب السياسي لحماس واتجاهها إلى التعاطي الإيجابي مع مبادرات المصالحة، ومن هنا استغلت زيارة رئيس الحكومة الفلسطينية (الشرعية) إسماعيل هنية لطهران ولقاؤه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في 12 فبراير 2012م، لتحذير حماس من المضي قدماً في اتجاه التسوية مع إسرائيل؛ لاسيما أن طهران باتت مدركة أن معنى ذلك خسارة ورقة تفاوضية مهمة في صراعاتها مع القوى الإقليمية، وتعضيد جهود منافسيها لفرض عزلة عليها لكبح طموحاتها النووية والإقليمية. سيناريوهات متعددة: إن الملفت للانتباه أن المشكلة بالنسبة لإيران لم تعد منحصرة في مخاطر سقوط النظام السوري على مصالحها وطموحاتها الإقليمية؛ إذ إن السيناريوهات المختلفة التي يمكن أن تنتهي إليها الأزمة لا تبدو في مجملها مريحة بالنسبة لها. ففضلاً عن سيناريو سقوط النظام السوري، الذي يمكن أن يوجِّه ضربة قوية لطموحاتها الإقليمية؛ لأنه يعني انهيار التحالف الإستراتيجي الذي تأسس بين الطرفين منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي؛ فإن ثمة سيناريوهين آخرين لا يقلان أهمية: الأول: يتمثل في إقدام النظام السوري على إجراء إصلاحات حقيقية لاستيعاب ضغوط الداخل والخارج، وهو ما يمكن أن يُنتِجَ مخاطر مماثلة على مصالح إيران؛ لأنه لن يتحقق إلا في حالة تنحِّي الرئيس السوري بشار الأسد، وهو المطلب الذي بات العنوان الرئيسي للتعاطي الدولي والإقليمي مع الأزمة، وقد انعكس ذلك بوضوح في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر في 16 فبراير 2011م، ودعم خطة الجامعة العربية التي تقوم على إجراء حوار بين المعارضة والنظام لتشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على إجراء انتخابات وتسليم الرئيس بشار الأسد صلاحياته إلى نائبه، وندد بقمع الاحتجاجات السلمية وطالب بوقف فوري لإراقة الدماء. وعلى الرغم من أن هذا القرار غير ملزم إلا أنه بحصوله على موافقة 137 دولة مقابل رفض 12 دولة من بينها روسيا والصين وإيران، وامتناع 17 عن التصويت من بينها الجزائر ولبنان، وجَّه رسالة قوية للنظام السوري بأنه أصبح أكثر انعزالاً على الساحة الدولية، كما أنه وضع روسيا في موقف محرج لأنه صورها على أنها الداعم الرئيسي للسياسة القمعية التي ينتهجها هذا النظام. وبالطبع فإن تحقُّقَ ذلك السيناريو معناه تقليص نفوذ إيران في سورية؛ لأنه سيحرمها من حليف مهم هو الرئيس السوري بشار الأسد وسيضعها أمام بدائل ضيقة بسبب توتر علاقاتها مع القوى السياسية المعارضة للنظام السوري، وهو الذي انعكس في مؤشرين: أولهما: التصريحات التي أدلى بها برهان غليون رئيس «المجلس الوطني السوري» - وهو أحد أهم وأكبر فصائل المعارضة السورية - في 2 ديسمبر 2011م، وتعهد فيها بقطع علاقات دمشق العسكرية مع إيران و«حزب الله» اللبناني عند تولي المعارضة حكم سورية، واصفاً العلاقات (السورية - الإيرانية) بأنها «غير طبيعية»، مضيفاً أنه «لن تكون هناك علاقة خاصة مع إيران». وثانيهما: رفض قوى المعارضة السورية دخول إيران على خط الأزمة بسبب التحفظات التي تبديها على الدعم الإيراني القوي للنظام السوري، وهو ما انعكس في إجهاضها المحاولات التي بذلتها طهران لاحتواء الأزمة السياسية من خلال تقديم عروض لبعض قوى المعارضة السورية - لاسيما حركة «الإخوان المسلمين» - بالمشاركة في الحكومة، ثم تشكيل الحكومة كلها في فترة لاحقة، مقابل تخليها عن مطلب سقوط النظام السوري. أما السيناريو الثاني: فيتعلق بنشوب حرب أهلية في سورية مع رفض النظام السوري الاستجابة للضغوط الدولية والإقليمية واستمراره في انتهاج سياسته القمعية تجاه الاحتجاجات التي تزداد تدريجياً وربما تمتد إلى معاقله في دمشق وحلب، ونجاح روسيا والصين في تعطيل أي تحركات دولية لفرض مزيد من العقوبات عليه من داخل مجلس الأمن، إلى جانب ظهور مؤشرات تفيد اتجاه بعض قوى المعارضة السورية إلى استخدام السلاح في مواجهة النظام. ورغم أن بعض الاتجاهات الإيرانية بدأت تتحدث عن أن نشوب حرب أهلية ربما يصبُّ في صالح إيران أكثر مما يضرها؛ على أساس أنه يمكن أن يؤدي إلى تفكيك سورية إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية وعرقية، وهو ما يدعم من احتمالات حدوث حالة من عدم الاستقرار يمكن أن تهدد مصالح القوى المنافسة لإيران وعلى رأسها إسرائيل التي تتوافق (للمفارقة) مع إيران على أهمية بقاء النظام السوري الحالي. إلا أن هذا السيناريو يمكن أن ينتج تداعيات سلبية أخرى بالنسبة لإيران؛ لأنه يعني في المقام الأول إضعاف «قناة التواصل» الرئيسية مع الحلفاء؛ خصوصاً أن النظام السوري لن يستطيع في هذه الحالة الحفاظ على مستوى التنسيق ذاته مع «حزب الله» وحركة «حماس» الفلسطينية. كما أن ذلك معناه خروج الأخيرة نهائياً من سورية بشكل يفقدها مركزاً مهمّاً في القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. فضلاً عن أن الاحتقان الطائفي المحتمل أن ينتقل إلى دول أخرى مثل العراق، بشكل ربما يؤدي إلى خلط أوراق وإرباك حسابات إيران لاسيما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق. خيارات إيرانية: من هنا ربما تلجأ إيران إلى خيارات أخرى لتعويض خسائرها المحتملة بفعل الأزمة السورية: الخيار الأول: تسريع برنامجها النووي واستغلال الانشغال الدولي بالأزمة السورية وتحقيق أكبر قدر من التقدم فيه، وقد بدأت إيران فعلاً في ولوج هذا الخيار؛ حيث أعلنت على لسان الرئيس محمود أحمدي نجاد في 15 فبراير 2012م عن «إنجازين جديدين» في برنامجها النووي، تمثلا في شحن مفاعل طهران للبحوث الطبية بقضبان وقود نووي مصنَّع محلياً ومخصب بنسبة 20%، وتشغيل «جيل رابع» يضم ثلاثة آلاف جهاز طرد مركزي في منشأة «ناتانز» لتخصيب اليورانيوم، وهو ما يرفع عددها إلى تسعة آلاف. أرادت إيران من هذا الإعلان توجيه رسالة قوية إلى القوى الغربية مفادها: أن الجهود التي تبذلها لكبح طموحاتها النووية والإقليمية؛ سواء على صعيد فرض مزيد من الضغوط على النظام السوري لإسقاطه، أو على صعيد رفع سقف العقوبات المفروضة عليها لتطول تعاملاتها المالية وصادراتها النفطية، أو على صعيد تدشين سلسلة من عمليات الاغتيال ضد علمائها النوويين وتصدير مشكلات تكنولوجية لبرنامجها النووي مثل فيروس «ستوكسنت»، لن تمنعها من الاستمرار في تطوير هذا البرنامج. لكن الملفت للنظر هنا أن الرسالة الأهم من هذا «الإعلان النووي» ربما تكون داخلية، وتتمثل في محاولة الرئيس أحمدي نجاد اكتساب أرضية جديدة في الداخل مع اقتراب موعد إجراء انتخابات الدورة التاسعة لمجلس الشورى الإسلامي في 2 مارس 2012م، والتي يُتوقَّع أن تشهد تنافساً حامياً بين الأجنحة المتصارعة داخل التيار المحافظ المسيطر الآن على مراكز صنع القرار، بسبب سعي التيار الذي يقوده الرئيس والذي بات يسمى في إيران بـ «تيار الانحراف» لتبنِّيه توجهات قومية ورؤى ليبرالية أثارت استياء المرشد الأعلى للجمهورية ورجال الدين، إلى الحصول على الأغلبية في المجلس لتعضيد فرصه في تصعيد أحد عناصره لانتخابات الدورة الحادية عشر لرئاسة الجمهورية في منتصف عام 2013م، وإصرار الجناح المنافس له الذي يقوده رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني على الحيلولة دون تمكينه من ذلك. وفي كل الأحوال، فإن هذا الخيار يمكن أن ينتج تداعيات سلبية عديدة على إيران؛ خصوصاً أن رفع سقف العقوبات المفروضة عليها لتشمل تعاملاتها المالية وصادراتها النفطية ليس أمراً هيناً؛ ففضلاً عن أنه سيحرم إيران من بعض المستوردين الرئيسيين وعلى رأسهم الدول الأوروبية، فإنه سيعرِّض صادراتها للمستوردين الآخرين، لاسيما الدول الآسيوية للانخفاض حرصاً من الأخيرة على عدم التعرض لعقوبات أمريكية، كما أنه سيضيف مشكلات كثيرة لتعاملاتها النفطية بسبب الحظر المفروض على بنكها المركزي، فضلاً عن أنه سيضاعف من حدة الأزمات التي يواجهها الاقتصاد الإيراني، التي بدأت مؤشراتها في الظهور مثل تراجع سعر صرف العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم. أما الخيار الثاني: فيتمثل في التمدد داخل العراق بعد الانسحاب الأمريكي بنهاية عام 2011م، بشكل يمكن أن يجعل العراق «قناة التواصل» الجديدة مع الحلفاء الإقليميين بدلاً من سورية. إلا أن هذا الخيار يواجه بدوره تحديات كثيرة، أهمها: المشكلات المزمنة التي خلَّفها الاحتلال الأمريكي للعراق والصراعات المحمومة بين القوى السياسية العراقية، تلك التي تفرض حالة مستمرة من عدم الاستقرار. الخيار الثالث: ويتصل بمحاولة تطوير العلاقات مع مصر لما يمكن أن ينتجه ذلك من مكاسب إستراتيجية كثيرة لإيران، لكنه يواجه أيضاً مشكلات متعددة أهمها عدم وجود رؤية واضحة من جانب القاهرة تجاه العلاقات مع إيران، والتي تبدو «قضية مؤجلة» لحين استقرار الأوضاع السياسية في مصر وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة منتخبة.
المصدر: مجلة البيان
عبد الوهاب بدرخان
حسين عبد العزيز
محمد مشموشي
ياسر الزعاترة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة