..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


ابحاث ودراسات

أين أخطأ الجهاديون؟

تركي الجاسر

٧ إبريل ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2742

أين أخطأ الجهاديون؟
images.jpg

شـــــارك المادة

نشأة معقدة:

نشوء الظاهرة الجهادية الحديثة ثم نموها وانتشارها لم يكن سهلاً وانسيابياً، بل كان معقداً ومتشابكاً وفي مواجهة غابة من التحديات. واستحضار الظروف التي نشأ فيها الجهاد الحديث، يساعد في استيعاب وإدراك كثير من التصرفات التي تصدر عن التيارات الجهادية وتصور طريقة تفكير وتصرف الجهاديين. (١)
هذا الإدراك والاستيعاب قد يعني التفهّم في الربط بين المبررات والمخرجات، لكن لا يعني إقرار كل ما يصدر عنهم أو ينسب إليهم. والمسلم لديه هامش مرونة يسمح له بالتعايش مع الظروف، لكن هذا الهامش لا يعني ضوءاً أخضر لتجاوز كل الخطوط الحمراء.(٢)

الفكر الجهادي فرض نفسه:
فرضت التيارات الجهادية نفسها عملياً ونظرياً بكل كفاءة، أما عملياً فقد صمدت بنَفَس طويل وتحمّل لا ينقطع أمام الاتفاق العالمي ضدها، وأما نظريا فقد فرضت نفسها من خلال الاستحواذ على جزء كبير من الجدل الإسلامي وجَعْل الأدبيات الجهادية حاضرة في الميادين الفكرية والثقافية.
هذا الفرض الواقعي والنظري أنتج كمية هائلة من المخرجات الجهادية التي أصبحت المادة الأكبر للتداول الإعلامي والثقافي والشرعي بين العلماء والمثقفين والنشطاء وحتى في مجالس العوام. ومناقشة هذه المخرجات في كل الميادين وعلى كل المستويات أمر لا يمكن تحاشيه ولا التقليل منه.(٣)

خصوم أقوى من الحكومات:
الظروف التي نشأ فيها الجهاد هي ذاتها التي تجعل تعامل القوى غير الجهادية مع هذه المخرجات بعيداً عن المنهجية. وكثرة خصوم التيارات الجهادية وقوة قدراتهم الإعلامية والبشرية والثقافية والاجتماعية والمادية تجعل التجرد صعباً في تناول هذه الظاهرة.
ومن المعلوم أن خصوم التيارات الجهادية ليس الحكومات فقط، رغم ما للحكومات من إمكانات إعلامية وثقافية وسلطة وقدرة على توجيه الرأي العام. والحقيقة فإن من اقوى خصوم التيارات الجهادية هي التيارات الإسلامية الملتزمة بالسلمية، والتي غالبا ما تجد نفسها في حالة حرب فكرية مع التيارات الجهادية.(٤)

كيف نرصد المآخذ على الجهاديين؟
نظرا لقوة تأثير هؤلاء الخصوم فإن من يحاول تناول مخرجات الجماعات الجهادية ملزم بأن يخرج من تأثير أدوات الخصوم، ويتعامل بشكل مستقل مع هذه المخرجات. ولا يمكن أن يتم هذا التناول إلا ببذل أقصى درجات التجرد والمنهجية، وهذا يستدعي جهداً نفسياً وذهنياً هائلاً واستحضاراً قوياً للمرجعية المنضبطة.(٥)
في محاولة رصد متجردة يمكن ملاحظة مجموعة من المآخذ على بعض التيارات الجهادية لها علاقة مباشرة بما ذكر أعلاه. من هذه الظواهر: الغرور الفكري، ونزعة تصنيف الآخرين، وممارسة دور الحَكَم، والتساهل في الدماء، والاستهانة بالموازنات السياسية والاجتماعية، والفوضى الإعلامية، والخلط بين مثاليات الدين والتطبيق الواقعي، وما إلى ذلك مما سيتم التعرض إليه في هذا المقال.

الغرور الفكري:
المهمة الجهادية خطيرة وصعبة، ومن يتحمل مسؤوليتها بخطورتها وصعوبتها الكبيرة ليس غريبا أن يعتبر ذاته متصديا لأمر تخلى عنه الآخرون، وبذلك يعطي نفسه الحق أن يمتاز عليهم تميزا واضحا. واذا استصحب الجهادي شعوره هذا بما يعلمه من الثناء العظيم على الجهاد في الكتاب والسنة، فسوف يتحول الشعور بالتميز إلى قناعة بالتفوق، وارتفاع في منزلة عند الله فوق كل الآخرين.
وهذا بذاته لا إشكال فيه، فلا يلام الجهادي على ما يراه تميزا أو تفوقا نفسيا ووظيفيا وتصدٍ لمسؤولية تخلى عنها الآخرون. ولا إشكال أن يرى الجهادي نفسه سابقا وفائزا بجائزة سنام الإسلام وكل صفات الثناء على المجاهدين في الكتاب والسنة. لكن الإشكال هو في أن يؤثر هذا الشعور في صياغة المواقف الفكرية والشرعية فيتسبب بنتائج ضارة بالجهاد نفسه.
النتيجة الأولى هي رفض ما يقوله غير الجهاديين -حتى لو كان حقاً- بحجة أن قائله من القاعدين الذين تخلوا عن الجهاد وتخلوا عن دعم أهله، فلم يوهبوا التوفيق في الفهم والفتيا التي وفق لها أهل الثغور. ورفض المواقف والفتاوى والأفكار بحجة أنها صدرت عن القاعدين مخالفة صريحة لمنهج النبوة في قبول الحق أيا كان قائله، حتى لو كان كافرا بل حتى لو كان الشيطان نفسه. (٦)
النتيجة الثانية هي تحول الثقة بالمواقف والآراء إلى غرور فكري يدفع بعض الجهاديين إلى حالة قريبة من العصمة، بسبب اعتقادهم أن أهل الثغور يلهمون التوفيق في مسائل الخلاف، فيتخذون مواقفهم بثقة في غير سياقها وطمأنينة في غير محلها. (٧)
وإذا كان كثير من خصوم الجهاد يستفزون التيارات الجهادية بفتاوى وبيانات لا يمكن تأصيلها شرعا ولا قبولها منطقا، فهذا لا يعطي الجهاديين حق صياغة الشرع بدوافع العداوة لهؤلاء أو بالهواجس والإسقاطات النفسية. والعكس صحيح، فتجاوز بعض الجهاديين في المواقف لا يعني تصحيح مواقف خصومهم من الذين يسوقون الفتاوى والمواقف بلا مبالاة بالمنهجية الشرعية. (٨)
ومن عاشوا في جو الجهاد يعترفون بثقل تأثير هذا الجو الذي يدفع لثقة عارمة بالنفس واستعداد دائم للاستهانة بـ"القاعدين" أو تخطئتهم. ومع ذلك يعصم الله كثيراً من الجهاديين من الزلل، بتشبثهم بالحذر الشرعي، وكبحهم نزعة الغرور، ومنعها من تجاوز حدود الانضباط المنهجي. والجماعة التي يكثر بين قيادييها القدرة على كبح الغرور الفكري عادة تكون أكثر رشدا والتزاما بالمنهجية الشرعية السنية ممن أصيب بهذا الغرور.
هذا الغرور الفكري هو الذي يفسر استرخاء كثير من الجهاديين، وهم يتحدثون في اليوتيوب أو في التويتر، بمواقف لو عرضت على الأئمة الأربعة لتوقفوا فيها. ويفسر كذلك نزعة رفض النصيحة والاستخفاف بالآخرين والاستهانة بما لدى الآخرين من علم مهما كان.  (٩)

نزعة التصنيف والحكم على الأشخاص:
لا إشكال عند العلماء أبداً في وصف عمل بالكفر ما دام هذا وصفه في الكتاب والسنة، ومثله وصف عمل بالخيانة أو الفسق أو الفجور ما دام هو كذلك. وبناء عليه فلا توجد حساسية ولا تضايق من تكفير ممارسة معينة أو وصف موقف معين بالكفر أو الفجور أو الخيانة. لكن في مقابل هذه السهولة في وصف الأعمال والمواقف، فقد دأب العلماء على تحاشي تكفير الأعيان أفرادا كانوا أو جماعات ما داموا من أهل القبلة، كما دأبوا على تجنب وصفهم بالخيانة والفجور إلا بشروط قاسية.(١٠)
كثير من المحسوبين على التيارات الجهادية يعتقدون أنه لا يمكن تبرير مواقفهم القتالية إلا بسلسلة من التصنيفات التي تتضمن تكفيراً عينياً لأفراد أو جماعات أو أنظمة أو تخوينهم وتجريمهم. ولذلك فإن غالب بياناتهم مشحونة بلغة التصنيف الذي يشتمل في مجمله على الوصف بالردة وكأن هذا التصنيف ذريعة براجماتية وليس موقفاً منهجياً.(١١)
وبغض النظر عن الموقف من التكفير العيني، فإن اعتباره شرطاً للتصرفات والمواقف القتالية يدل على بعد عن المنهجية الشرعية السليمة، لأن هذه المنهجية لا تجعل التكفير مبيحاً للدم مطلقاً، ولا الشهادة بالإسلام عاصمة للدم مطلقاً. والعكس صحيح، فالمستلزمات الشرعية تجاه طائفة أو نظام معين ليست بالضرورة مرتبطة بتكفير الأشخاص ولا الجماعات، بل إن الحكم في الأصل إنما يكون على الواقع الظاهر نفسه.(١٢)
وظاهرة اللجوء للتكفير العيني والإكثار من الوصف بالردة لها سببان، أحدهما خلل منهجي والثاني إشكال نفسي. أما المنهجي فهو العجز عن التفريق بين تكفير "العمل والممارسة" وتكفير "الأعيان والجماعات". وأما السبب النفسي فمنبعه ما سبق ذكره من الغرور الفكري، مضافاً إليها شحنة الانتقام بسبب ممارسات خصوم التيارات الجهادية وخاصة الحكومات. (١٣)
والتصنيف عند كثير من الجهاديين يتحول مع الزمن إلى نسق وطبع، فلا يقف عند التكفير بل يتساهل بعضهم في وصف الآخرين بالخيانة والعمالة والانحراف والتخلي عن المسؤولية وغيرها من الأوصاف القاسية. وأحياناً لا يستثنون من ذلك رفقاء الجهاد، خاصة إذا كانوا من تيار آخر، وقد انتشرت اتهامات كثيرة بالتخوين والوصف بالردة من قبل تيار ضد تيار آخر أو ضد شخصيات محسوبة عليه. (١٤)
الحزبية للجماعة والغلو في القيادات:
تكتمل نزعة التصنيف بتنامي ظاهرة الحزبية التي جعلت التيارات الجهادية في حالة عداء مع بعضها البعض كما هو الحال في سوريا. وإن كانت الحزبية واضحة أيام الجهاد الأفغاني بين الفصائل الأفغانية، فلم تكن واضحة في بداية انطلاق العمل الجهادي العالمي، لأن التيار الغالب كان واحداً بقيادة واحدة وتوجه واحد ثم بدأ التعدد يفتح المجال للحزبية.
وامتداداً للحزبية لوحظ عند بعض التيارات الجهادية الغلو في تزكية قياداتهم والدوران معها دون تفكير. ولذلك تجد الكتابات والتعليقات الجهادية تصدر دون تريث في دعم مواقف ذلك التيار أو القائد فور إعلان قرار معين أو تنفيذ عمل معين منسوب لذلك التيار. وبعض الأحيان تأتي النتيجة بطريقة محرجة حين يتحمس التابع لتيار معين بتزكية عمل أو بيان ثم يتبين أنه مكذوب ويضطر للتراجع فينكشف غلوه في قائده وحزبيته لجماعته.

التساهل في الدماء:
قضية الدماء قضية حساسة في الإسلام، وقد بالغ الشرع في النهي عن سفك الدم المسلم حتى جعل حرمته أعظم من حرمة الكعبة.(١٥) والجهاديون لا يشككون "نظرياً" بحرمة الدم المعصوم، لكنهم في التطبيق العملي لهم تبريراتهم. ولا يمكن فهم هذه التبريرات إلا بعد وضعها في سياقين، الأول توسيع هامش الرخصة في القتل غير المقصود (القتل العرضي) والثاني توسيع هامش القتل المقصود نفسه.
القتل العرضي يقصد به من يقتل وهو في عملية جهادية أو في ميدان المعركة بعد استهداف جهة غيره. والقتل العرضي في أصله مبدأ مقبول في الأعراف الدولية (١٦) ومقبول كذلك في الشرع، كما جاء في التعامل مع ما يسمى بـ"التترس"(١٧). 
لكن قبوله شرعاً ليس تفويضاً مفتوحاً لتوسيع دائرة القتل، والفقهاء حين بينوا مفهوم التترس إنما وضعوا له حدوداً واضحة وشروطاً حادة منعاً لأن يكون ذريعة لسفك خاطئ للدماء.
بعض الجهاديين يوسع مفهوم التترس لدرجة الاستعداد لقتل العشرات من معصومي الدم من أجل شخص واحد، بل ربما دون ضمان أن يقتل المقصود. ويبرر هؤلاء أن احتياطات المستهدفين وقوتهم تدعو للاستعداد للتضحية بهذا العدد من المسلمين، وأن هذه ضرورة للانتصار على أعداء الاسلام.
بدأت ظاهرة التساهل في القتل العرضي بتوسيع الهامش قليلا، ثم تطورت حتى وصلت عند بعض التيارات الجهادية إلى لامبالاة بالدماء المعصومة ما دام الهدف المقصود مبرراً. ولقد سجلت بعض العمليات "الاستشهادية" التي قتل فيها الكثير من المسلمين ولم يقتل فيها المستهدف أصلاً.(١٨)
النوع الثاني هو القتل المقصود لأشخاص مستهدفين بذاتهم، يقتلون إما في الميدان أو في الأسر ممن هناك شبهة قوية في استحلال دمهم. ويبرر الجهاديون هذا القتل إما بتطبيق الحكم بالردة أو بالتخوين والعمالة والتجسس، دون مراعاة الحدود الشرعية لهذه الأحكام والتثبت المطلوب فيها. وعند بعض الجهاديين يكون القتل بعض الأحيان تحقيقا "لمصلحة" حتى مع وجود شبهة في عصمة دم المستهدف بالقتل. (١٩)

التخطيط العاطفي:
الخطة العسكرية الاستراتيجية تحتاج إلى تجرد كامل من العواطف، ولا بد فيها من ترتيب المراحل طبقا لمصلحة التفوق الميداني والنفسي وكسب قلوب وعقول الحاضنة الاجتماعية. بعض التيارات الجهادية يراعي ذلك لكن البعض الآخر تحكمهم العواطف أكثر مما يحكمهم هذا التخطيط الاستراتيجي.
المقصود هنا ليس دقة تنفيذ معركة محددة بذاتها ولا تنفيذ سلسلة معارك، بل المقصود ترتيب المواجهة الكلية بأدواتها المختلفة واختيار الأهداف في كل مرحلة. وكلما كان اختيار الاهداف وترتيبها مبنيا على عواطف انتقامية أو نظر قصير كلما كانت الهزيمة مضمونة.
يعترف بعض الجهاديين بهذه الحقيقة، ويبررون ذلك بالحصار المفروض عليهم وقطع الصلة بالقيادات الحكيمة والخبيرة بالتخطيط. والاعتراف لا يمكن أن يكون دليلا على التواضع إلا إذا ثبت أن إدراك الخطأ كان درسا نافعا ولن يعود له الجهاديون. لكن الحقيقة أنهم يكررون هذه الأخطاء في معظم ميادين الجهاد، ويقعون مرة تلو المرة أسرى العواطف والاستجابة لرغبات الانتقام أكثر من أن ينقادوا لتخطيط استراتيجي مدروس. (٢٠)

الاستهانة بالحسابات السياسية والموازنات الاجتماعية:
يعتبر الجهاديون مشروعهم تغييراً تاريخياً شاملاً، مما يعني أن مواجهتهم لخصومهم مواجهة عامة وليست معركة عسكرية فحسب. والمواجهة الشاملة تقتضي بالضرورة مراعاة بقية جوانب الصراع وخاصة الجانب السياسي والجانب الاجتماعي والوعاء الذي يحمل هذه الجوانب وهو الوعاء الإعلامي.
والالتفات للجانب السياسي والاجتماعي ووعائها الإعلامي ليس تأصيلاً منطقياً فحسب، بل هو عمل بالكتاب والسنة واقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام. والمهارة السياسية والاحتياطات الاجتماعية كانت سمة ظاهرة في العهد النبوي ولم تتعارض أبدا مع الثبات على المبادئ وعدم التساهل في الثوابت.
الطابع الغالب للتيارات الجهادية هو تجاهل هذه الحسابات والموازنات، والمبالغة في ادعاء الالتزام بالثوابت، وزعم التشبث بالمبادئ. وبمراجعة تاريخية لتصرفات هذه التيارات على مدى ثلاثين عاماً، يلاحظ مدى الاستهانة بهذه الحسابات والتوازنات بحجة الابتعاد عن البراجماتية.(٢١)
ولذلك ترى تصرفات هذه التيارات تدفع المحايد دفعاً للاصطفاف مع خصوم الجهاديين، كما تحرمهم من فرصة التضليل واللعب بالتوازنات. ولنفس السبب تخسر هذه التيارات الدعم الجماهيري والحاضنة الاجتماعية والتعاطف من داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية. (٢٢)

ثغرات الرسالة الإعلامية:
لا يقصد بالإعلام الجانب الفني ومهارة الإخراج والانتاج الذي تتقنه كثير من الجماعات، بل يقصد به هدف ومحتوى الرسالة الموجهة وطبيعة التعامل إعلامياً مع التساؤلات والتطلعات الجماهيرية والعالمية. ولا يمكن لهذه الرسالة أن تكون مؤدية للغرض إلا بانطلاقها مما ذكر أعلاه، أي (الخطة الشاملة المبنية على رؤية استراتيجية) وهو ما تفتقر له كثير من الجماعات الجهادية.
وبعد انتشار وسائط الاتصال لم يعد انضباط الرسالة وردود الأفعال مقتصراً على القيادات والمندوبين، بل أصبح كل المحسوبين على التيارات مهمّين في الجانب الإعلامي. هذا الواقع الجديد أربك الصورة حين كثرت النوافذ الإعلامية التي تدّعي تمثيل تيار معين وهي تتحدث بلا انضباط ولا منهجية. ولا تُعذر التيارات الجهادية بأن ليس لها سلطة على "من هب ودب" ، لأن رسالتها العامة لو كانت منضبطة لما استطاع "من هب ودب" أن يتحدث باسمها وينسب لها هذه المواقف. (٢٣)
من جهة أخرى تتذرع بعض هذه التيارات بأنها مستهدفة بالتضليل والتشويه من قبل الخصوم المقتدرين المسلحين بإمكاناتهم الهائلة، والتعاون العالمي، والنشاط الاستخباراتي، وكثرة العملاء في وسائط الاتصال الخ. لكن عذرهم هذا مرفوض، فلولا وجود ثغرات في الرسالة الإعلامية لبعض هذه التيارات، لما تمكن الخصوم "المقتدرين" من تشويههم ولا استطاعوا نسبة ما لا يمكن أن ينسب إليهم.

الخلط بين المثالية والتطبيق:
المسلم مطالب بالمثالية في تطلعاته وآماله وفكره النظري، لكنه في نفس الوقت مطالب بأن يكون واقعياً وعملياً في تطبيقه وممارساته. والجهاد نفسه مر بمراحل في التشريع من الكف عن القتال، إلى جهاد الدفاع، ثم جهاد الطلب، والنبي صلى  الله عليه وسلم ترك قتل المنافقين رغم معرفته بهم واحدا واحدا، وترك بناء الكعبة على قواعد إسماعيل. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كلها موازنة حكيمة وراشدة بين المثالية في المبادئ، والواقعية في التطبيق والممارسة.(٢٤)

كثير من الجهاديين يعتقدون أن تبني الجهاد يعني التعامل مع كل الأمور بالمثاليات، ثم يتورطون بتعارض هذه المثاليات، فيدخلون في إشكالات يضطرون فيها لتغليب مثالية على أخرى بدلاً من أن يختاروا خيار الواقعية والعملية التي تمكنهم من مداراتها كلها في وقت واحد. وكثير من الجدل الدائر بين فصائل الجهاد المختلفة، والجدل بينها وبين مخالفيها، يعكس هذا التشبث بالمثالية في التطبيق رغم النهج النبوي بالواقعية.

الاستهانة بالوسائل غير القتالية (العمل السلمي):
جو القتال والمعارك وحياة المعسكرات يؤدي بكثير من الجهاديين للاعتقاد أن المواجهة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير، ولا يمكن تحقيق الأهداف بأي وسيلة أخرى. ولذلك يستخف بعضهم بما يمارسه غيرهم من وسائل غير قتالية، مثل المظاهرات والإضرابات أو وسائل سياسية وإعلامية واستخباراتية.

وقد يصل التفكير ببعض الجهاديين لاعتبار العمل السلمي تخلياً عن الجهاد، وليونة في وجه الطغاة، وتضييعاً لجهود الأمة في خطط بائسة. وربما تطور الموقف لدى آخرين لتخوين من يصر على الوسائل السلمية، واتهامه بأنه يتعمد تفريغ غضب الشعوب بوسائل لا تجدي نفعاً، منعاً لهم من الانخراط في الجهاد. وهذا الموقف مخالف لمبدأ شرعي أصيل لأن معظم هذه الأنشطة تقع بند "كلمة حق عند سلطان جائر" الذي جاء في الحديث أنه من أعظم الجهاد وقتيله سيد الشهداء.(٢٥)

في المقابل فإن قيادات أخرى في الجهاد من القيادات "الأكثر رشداً" تحترم العمل السلمي وتعتبره رافداً للجهاد سواء نجح أو فشل. إذا نجح وأزيل الطغاة بعمل سلمي فالجو الجديد يسمح للتيارات الجهادية أن تنتعش تحت ظلال الحرية وهيبة الدين، وهم يرون هذا مكسباً كبيراً. وإذا فشل العمل السلمي بسبب القمع، فإن هذا القمع يتحول إلى حجة لدفع الناس للالتحاق بالجهاد ومن ثم يصبح بذاته أداة تجنيد للمشروع الجهادي.

من يستطيع معالجة هذه الظواهر؟
هذه الإشكالات عند الجهاديين فيها ضرر كبير لهم ولبقية الأمة، ولا بد أن تعالج، وأولى من يعالجها نفس التيارات الجهادية بوعي عقلائها وشعورهم بالمسؤولية وسعيهم للتغيير. وهؤلاء العقلاء مطالبون أن يعجلوا باستدراك هذه المشاكل قبل استفحالها وتعطيل المسيرة والتخريب على الأمة. وما دام يوجد قيادات وتيارات جهادية لا تعاني من هذه الإشكالات فهذا يعني أن الإشكالات ليست مرتبطة بنيوياً بالنفسية الجهادية ومن المفترض أن القيادات والتيارات الأخرى تستطيع التخلص منها.
أما القوى الإسلامية الأخرى وخاصة الجماعات الإسلامية السلمية والمشايخ المستقلين فيصعب أن يؤثروا في الجهاديين لأنهم في حكم المشبوهين عندهم. ولا يمكن أن يزيلوا هذه الشبهة، ومن ثم يستطيعوا التأثير في الجهاديين، إلا بعد إقناعهم بأمرين:

الأول الانضباط بالمرجعية السلفية الحقيقية، ويقصد بها الكتاب والسنة بفهم الصحابة، وليس فهم المشايخ المتأخرين والتنويريين الذين يسمون أنفسهم سلفيين.
والثاني تبرئة أنفسهم مما يُتهمون به من خذلان للجهاد ومهادنة للكفر والطغيان. (٢٦)

أما الحكومات فيستحيل أن تؤثر في الجهاديين وتقلل من إشكالاتهم بالإعلام والإقناع الفكري لأن الحكومات عدو لدود للجهاديين ولا يمكن أن يسمعوا لهم. لكن تستطيع الحكومات تحقيق ذلك بتوفير أوسع الفرص للعمل الإسلامي السلمي، لأن هذا التوسيع، أولاً يقلل من غضب الشباب وإصابته بتلك الإشكالات، وثانياً يسهل على المشايخ المؤثرين في الجهاد أن يوصلوا رسالتهم لهم باستخدام هذه الحرية.
------------------------------------------
* المقصود هنا ليس القاعدة والدولة فقط، بل كل التيارات الجهادية بما يشمل الطالبان والشيشان وحركة الشباب في الصومال والجماعات المقاتلة في الشيشان وشرق آسيا وشمال افريقيا وغرب أفريقيا وغيرها.
١) لا توجد دراسة شاملة لتاريخ الحركات الجهادية لكن ربما في مقالنا "الاستراتيجية الجهادية بين الظواهري والبغداي" بعض الفائدة في التعريف بهذا التاريخ.

٢) نفترض هنا أن النقاش هو حول التيارات الجهادية السنية الملتزمة في الجملة بالنص الشرعي وفهمه على طريقة السلف وليس عن كل الحركات المقاتلة بمظلة اسلامية.
٣) استحواذ الطرح الجهادي على جزء كبير من النقاشات الفكرية والشرعية والإعلامية والأدبية والسياسية حقيقة لا ينكرها حتى خصوم الجهاديين بل إنهم يعتبرون تأكيدها جزء من مهمتهم.
٤) البيئة التي أفرزت التيارات الجهادية -وهي بيئة القمع والاحتلال وهيمنة القوى العظمى- هي نفس البيئة التي تعيش فيها القوى غير الجهادية وخاصة الجماعات الإسلامية السلمية، والتي لا تستطيع أن تخرج من دائرة التوجه العام فتتعامل مع التيارات الجهادية داخل إطار ما تبيحه هذه الأنظمة.
٥) مقالنا "تهور الشباب وحماس الدعاة دروس من الأنبياء والصحابة" فيه تقريب لهذه الفكرة.
٦)هنا بحث جيد في مشروعية أخذ الحق من أي مصدر كان.
٧) ينسب لسفيان بن عيينة قوله "إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا )." وعبارة بن عيينة هذه عبارة غالبا ما يرددها الجهاديون ويفسرونها على غير المراد بها.
٨) بقدر ما يؤاخذ الجهاديون على غلوهم في بعض المواقف فإن كثيرا من خصومهم ينسفون المنهج الشرعي كله من أجل تخطئة الجهاديين.
٩) جولة صغيرة لأي متابع للتويتر على معرفات الجهاديين تطلعك على هذه الثقة العارمة بالنفس والشعور بما يشبه العصمة، وينقل الإخوة الذين في ميادين القتال أنهم يجدون صعوبة في تخفيف هذه الثقة العارمة.
١٠) بحث جيد في ضوابط تكفير المعين عند بن تيمية وبن عبدالوهاب للشيخ راشد بن أبي العلا الراشد.
١١) هذا الاستخدام للتكفير وحمل السلاح، أصله سوء فهم لما ورد في كتب العقيدة والفقه التي لا تجيز الخروج إلا على الحاكم الكافر، بينما الكتاب والسنة لم يرد فيه إشارة للتكفير العيني في سياق محاربة من يعطل الشرع ويوالي الكفار. الظريف أن التيارات الجهادية تصبح صورة مرآة للتيار الجامي الذي يستخدم نفس الجدل لكن بالجهة المقابلة. ولو كان الموقف يقاس بالتكفير العيني فالجامية أولى بالإقناع لأن الناس عموما لا يحبون التكفير.
١٢) قد يحل دم المسلم لأسباب كثيرة، وقد يعصم دم الكافر لأسباب كثيرة، وهذا الربط بين التكفير العيني والدم تسطيح وسذاجة وليس عمقا شرعيا ولا فهما للكتاب والسنة.
١٣)ولذلك فإن من مهمة قيادات التيارات الجهادية أن يربوا أتباعهم على التجرد وعدم تناول الدين بنوازع نفسية شخصية. هذا ليس معارضا لقوله تعالى "ويشف صدور قوم مؤمنين" لأن شفاء صدور المؤمنين لا يكون إلا بالانضباط بالكتاب والسنة وليس بتطويع الكتاب والسنة لرغبة الانتقام.
١٤) كثرة تبادل التخوين والاتهام بالعمالة والتجسس ثم اتخاذ المواقف بناء عليها ظاهرة محزنة جدا في التيارات الجهادية وربما تكون أكثر أسباب الضعف والهزيمة فيهم، يقول تعالى ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ).
١٥) هنا تتبع لبعض النصوص عن أن حرمة المؤمن أعظم من الكعبة.
١٦) يسمى باللغة الانجليزية collateral damage ويقصد به القتلى المدنيون غير المستهدفين بسبب القصف الموجه لأهداف عسكرية. 
١٧) بحث مفصل في التترس من أحد المواقع الجهادية .
١٨) العمليات التي استهدفت الفنادق في الأردن سنة ٢٠٠٥ لم يقتل فيها أحد من المستهدفين ومات فيها عدد كبير من المسلمين.
١٩) لا نريد تسمية حالات معينة فربما يدعي من نفذها أننا لم نطلع على كل التفاصيل، لكن كثيراً من الجهاديين يعترفون بعد أن تهدأ الأمور أنهم لم يحتاطوا شرعاً بما فيه الكفاية في حالات كثيرة.
٢٠) الكوارث التي وُثقت بسبب التخطيط العاطفي في "الجهاد الجزائري" في التسعينات تكررت في بلاد أخرى ثم عادت وتكررت في الجزائر نفسها حديثا.
٢١) بعض الدول من مصلحتها أن تبقى على الحياد بل ربما لديها استعداد للتعاون مع الجهاديين فلماذا تستعدى بدون مبرر؟ ليس مطلوبا من الجهاديين أن يثنوا على هذه الدول ويزكوها، بل يكفي سكوتهم عنها وتحاشي الصدام معها.
٢٢) شعوب وقبائل وتكوينات اجتماعية متعاطفة مع الجهاد، بل وشخصيات من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية تخسرها التيارات الجهادية بسبب المثالية المتكلفة أو سوء تخطيط المعركة.
٢٣) بعض القيادات في التيارات الجهادية مع الأسف يسرها وجود معرفات تستخدم اللغة السليطة وإساءة الأدب على الخصوم من الجهاديين الآخرين نيابة عنها، لأنها تتمنى هذا السب ولكن لا تريد أن ينسب لها.
٢٤) ممن ناقش هذه النقطة بن القيم في كتابه زاد المعاد وغالبا ما يناقشها بن تيمية في تعليقاته على أحداث السيرة.
٢٥)تخريج حديث "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"
وهذا تخريج حديث "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"
٢٦) الكتابات التي تنشر على شكل مقالات وكأنها توجيه للجهاديين بمنطلقات لا تشترك أصلا مع الجهاديين في ثوابت أساسية (مثل قدسية النص الشرعي) يستحيل أن تؤثر فيهم. وكذا الكتابات التي تصدر من شخصيات أو جماعات تنتقد الجهاديين أكثر مما تنتقد الأنظمة أو ربما لا تنتقد الأنظمة أبدا، ولا تعدو هذه الكتابات أن تكون (ردحاً داخلياً).

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع