أحمد ولد الحسن ولد إديقبي
تصدير المادة
المشاهدات : 3074
شـــــارك المادة
من أخطر الآفات التي أصابت، وتصيب نفرا من العاملين لدين الله، وتكاد تهوي بأصحابها في أودية الهلاك، ومهاوي الضلال آفة "الغلو في الدين" وحتى يكون لدينا تصورٌ واضحٌ عن أبعاد ومعالم هذه الآفة لابدّ من معرفة مظاهرها وأسبابها وكيفية عالجها؟
إن من مظاهر آفة "الغلو في الدين" كثرة الافتراضات، والتساؤلات عما لم يقع {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تُبدَ لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}
ومنها المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو تضييع الواجب، ومنها العدول عن الرخصة في موضعها إلى العزيمة، ومنها الاشتغال بمسائل الفروع على حساب الأصول، أو استفراغ الجهد في المختلف فيه، مع إهمال المجمع، أو المتفق عليه، ومنها التكفير بالمعصية، أو بالكبيرة، وكذلك جعل الأصل في الأشياء الحظر، أو الحرمة، مع أن القاعدة تقول أن الأصل في الأشياء الإباحة، أو الحل، إلا ما جاء النص بخلافه>
ومن مظاهرها كذلك إحياء الكلام في المسائل التي فرضتها ظروف معينة، ثم انتهت بانتهاء هذه الظروف، مثل الكلام في مسائل الصفات، وخلق القرآن، والخلاف الذي نجم بين الصحابة، ونحو ذلك. أما أسباب هذه الظاهرة وبواعثها فكثيرة نذكر منها: البيئة: فقد ينشأ الإنسان في بيئة شأنها الغلو، أو التنطع سواء كانت بيئة قريبة، ونعني بها البيت، أم بيئة بعيدة، ونعني بها مجتمع الأصحاب، والأصدقاء، وليست لديه حصانة فكرية، فيحاول الاقتداء، والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، وحينئذ يقع في آفة التنطع أو الغلو كما أن التكوين النفسي والفكري قد يكون هو الآخر من وراء وقوع البعض في آفة التنطع أو الغلو، كأن يحرم هؤلاء من المربّي أو الموجه الذي يرشدهم، ويوجههم إلى بعد النظر، واتساع الأفق، فينشؤون على الوقوف عند الشكليات مهملين الجوهر، وذلك هو عين التنطع، أو الغلو كما أن ذكاء الشخص مع فراغه قد يكون سبباً كذلك فقد يمنُّ الله على إنسان ما بقدرٍ من الذكاء الفطري ولكنه يعيش في فراغ، مع عدم البصيرة بالأولويات، ويحاول - شأنه شأن أي إنسان آخر - توظيف هذا الذكاء، وشغل ذلك الفراغ، وحينئذ يكون فريسة آفة التنطع، أو الغلو، إذ أن من سمات النفس البشرية أنّ صاحبها إن لم يشغلها بالحق، شغلته بالباطل>
ومن أسباب هذه الظاهرة كذلك الاعتماد على النفس في تحصيل العلم فيجعل جلّ اهتمامه الكتب فتجنح به هذه الكتب نحو التنطع أو الغلو، نظراً لأنّ الكتاب وجهة، أو وجهات نظر صامتة، لا تقدم لك الإجابة الشافية على التساؤلات التي تثيرها قراءة للكتاب أو الاطلاع عليه، أو التي يثيرها الواقع نفسه بينما لو كان تحصيل هذا العلم، أو هذه المعرفة بواسطة مربي أو موجه فإن هذا المربي، أو هذا الموجه لسعة اطلاعه، وتجربته، وبصيرته النافذة يمكنه الرد على كل هذه التساؤلات، بل حتى على الشبهات إن وجدت>
ومن أسباب هذه الظاهرة كذلك خلو الساحة من العلماء الذين يضبطون الفكر والتصور والسلوك ولا سيما إذا كانت هناك حماسة أو قوة إيمان وعاطفة تدفع إلى العلم لدين الله، والتمكين له في الأرض، على نحو ما وقع لنفر من الشباب المتحمس اليوم، فقد شاهدوا انكماش العلماء، وغيابهم من الميدان أو الساحة إيثاراً للعافية، والسلامة، وتقدّموا هم لحمل الراية، واعتمدوا على أنفسهم في الفقه أو الاستنباط، فكان الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، وقد يكون تعطيل شرع الله في الأرض، وما نتج عنه من انتشار أو ذيوع الشر والفساد وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو، كردّ فعلٍ مضادٍّ لذلك، على نحو ما وقع لنفر من أبناء أمتنا المسلمة في هذا العصر، فقد رأى شرع الله معطلاً، والشر والفساد على أشدّه، فحمله حبه لدينه، وحرصه على مرضاة ربه، أن ينبري وحده للعمل دون أن يكون معه موجّه أو مربٍّ، فتردّى في آفة التنطع أو الغلو>
وقد تكون الرغبة في تحقيق مزيد من القرب من الله مع الغفلة عن أبعاد ومعالم الطريق، من وراء الوقوع في آفة التنطع أو الغلو. وقد نقل عن نفر من الصحابة ما يؤكد ذلك، إذ جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، ومما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا، وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" كما أن التصدّر للفتوى والاجتهاد قبل الاستواء وكمال النضج: من ضرورة ربط الجزئيات بالكليات، ورد المتشابهات إلى المحكمات، وتحاكم الظنيات إلى القطعيات، والقدرة على الجمع بين المختلفات عند التعارض أو الترجيح، وعدم الأخذ بظاهر النص، إلا بعد التغلغل في فهم فحواه، ومعرفة أهدافه ومقاصده، قد يكون ذلك من أسباب الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين>
وقد يكون نسيان العواقب المترتبة على الوقوع في آفة التنطع أو الغلو في الدين من بين الأسباب التي توقع فيه، إذ الإنسان إذا نسي عاقبة الشيء تجرأ على فعله، وتعاطيه، وإن كان فيه حتفه وهلاكه، قال تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} ذلك أن المتنطع أو المغالي في الدين، إنما هو واقف في الطرف بعيداً عن الوسط، فكراً كان ذلك أو سلوكاً، ومثل هذا لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم، لم يصبر عليه جمهورهم، وحينئذ يكون النفور، وتكون الكراهية. ولعل هذا الأثر هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مارواه البخاري ومسلم من حديث أبي مسعود أنّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: "إنّ منكم منفّرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإنّ فيهم الضعيف، والكبير وذا الحاجة" ومن آثار هذه الظاهرة أنّ جهد المتنطع أو المغالي إنما هو مصروف إلى ثانويات الأمور فكراً أو سلوكاً، دون أصولها، وهو بهذا يضيع عمره، ويبدد جهده في غير ما طائل ولا فائدة، وصدق الله الذي يقول: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ومن آثار هذه الظاهرة التقصير في حقوق الآخرين ذلك أن المتنطع أو المغالي إنما يدور في فلك معين من الفكر والسلوك الأمر الذي ينتهي به إلى التقصير في حقوق يجب أن تراعى، وواجبات ينبغي أن تؤدى، ولعل ذلك هو ما حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص - وقد بلغه انهماكه في العبادة، انهماكاً أنساه حقّ أهله عليه: "ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟"، ويجيبه عبد الله بقوله: بلى يا رسول الله، ويرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ناصحاً، وموجّهاً: "لا تفعل: صم، وأفطر، وقم، ونم، فإنّ لجسدك عليك حقاً، وإنّ لعينيك عليك حقًا، وإنّ لزوجك عليك حقاً، وإنّ لزورك عليك حقاً"
ومن آثار هذه الظاهرة كذلك الحيلولة دون زيادة الأنصار وكسبهم ذلك أنّ العنف أو الشدة التي هي من لوازم التنطع أو الغلو، تحول دون كسب الأنصار، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ورفق بها، وعلى بغض من أساء إليها، وقسا عليها. وحسبنا أن نجاحه صلى الله عليه وسلم في دعوته، ما كان إلا بالرفق، واللين: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} ومما تقدم يمكن أن نجمل علاج ظاهرة الغلو في الدين في النقاط التالية: 1 - تطبيق حكم الله في الأرض: عقيدة، وعبادة، أخلاقاً، وتنظيماً، وتشريعا، فكراً وسلوكا، وعلى كل المستويات: الفردية، والجماعية، الشعبية والقيادية، فإن هذا من شأنه أن يشجع الميول الفطرية الكامنة عند هؤلاء، فيستريحوا من القلق والاضطراب النفسي، بل من محاولة التنفيس عن هذا القلق وذلك الاضطراب بواسطة العنف والقوة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سيقضي على كل مظاهر الشر والفساد التي تثير هؤلاء، وتميل بهم نحو التنطع أو الغلو: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ، {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} ، {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} ، {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 2 - تشجيع العلماء العاملين، والدعاة المجاهدين، على أداء دورهم، والقيام بواجبهم نحو الإسلام، والمسلمين بعامة، والمعروفين بالتنطع أو الغلو، وذلك برفع سوط الملاحقة، والمتابعة من فوق ظهور هؤلاء ومنحهم حرية التعبير عما تفرضه عليهم الأمانة التي كلفهم الله - عز وجل - بها، وحملهم إياها، فإن ذلك له دور كبير في القضاء على التنطع أو الغلو في الدين. 3 - التبصير بفقه العبودية، والدعوة إلى الله، والفتوى، من ترتيب الأولويات، ومن معرفة بمقاصد الشريعة، وكلياتها، ومن فهم للنصوص في ضوء بعضها البعض، ومن إلمام بمراتب الأحكام، وطريق ثبوتها، والعلاقة بينها عند التعارض، ومن رعاية لأدب الخلاف، وعن العلم بقيم الأعمال، ومراتبها، ومراتب المأمورات، والمنهيات، بل مراتب الناس مع الأعمال، وتقدير ظروف الناس، وأعذارهم، ومن الإلمام بسنن الله في خلقه: الكونية منها، والشرعية، ولا سيما سنن وشروط النصر، فإن هذا التبصير كافي في القضاء على التنطع، أو الغلو، وقد أمر الله - عز وجل - بهذا فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} 4 - دوام النظر في التاريخ البشري بعامة، والإسلامي بخاصة، فإنّ هذا التاريخ حافلٌ بالنماذج الحية من المتنطعين أو المغالين في الدين والآثار السيئة التي جناها هؤلاء من وراء التنطع أو الغلو، وهي حافلة كذلك بكيفية التعامل مع هذه الظاهرة والقضاء عليها ومن أبرز هذه النماذج: أهل الكتاب، الحركة السبئية، الحركة الشيعية. 5 - معاملة هؤلاء المتنطعين أو المغالين في الدين بروح الأبوة، والأخوة من الحنوّ، والرحمة، والحب، والشفقة، فنخالطهم، ونتعرف عليهم من قرب: كيف يفكرون، وكيف يشعرون، وكيف يسلكون، وكيف يتعاملون، ولا نحكم على الكثرة بحكم القلة، ولا على الواحد بما يقع منه من تصرف، أو تصرفين، وإنما بمجموع تصرفاته، فمن رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته، فهو من أهل الخير، كما يعامل الله سبحانه عباده: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} وألا نبالغ في تصوير، أو مخالفات هؤلاء، على حين نسكت عن أخطاء غيرهم من كل ما يعرف بالتفريط، أو بالتطرف اللاديني، ونرحب بالنقد، ونحيي روح النصيحة في الدين، ونقول ما قال عمر رضي الله عنه: مرحباً بالناصح أبد الدهر، مرحباً بالناصح غدواً وعشياً.. رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي. ونحاكيه عملياً، إذ قال له رجل: اتقِ الله يا أمير المؤمنين، فأنكر عليه بعض الحاضرين، وردّ عليه عمر بقوله: "دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها". وأن نتجنب اللجوء إلى القوة، والبطش لتصفية هذا الفكر، ومطاردة أهله، فإنه يختفي بالاضطهاد، ولا يموت، ويكمن كمون النار في الكبريت، ولا يزول. 6 - لفت النظر إلى الآثار والعواقب المترتبة على التنطع أو الغلو، سواء منها على العاملين، أو على العمل الإسلامي، فلعلّ ذلك يساعد في التخلص من هذه الآفة، ومجاهدة النفس لئلا تُبتلى بها مرة أخرى.
منتدى المفكرين المسلمين
المرصد الاستراتيجي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة