غياث بلال
تصدير المادة
المشاهدات : 8965
شـــــارك المادة
ظهرت المقالة على موقع كلنا شركاء يوم 24 آذار 2013، ونعيد نشرها هنا بإذن من الكاتب تشير الإحصائيات في جمهورية ألمانيا الاتحادية إلى أن عدد المنتسبين للأحزاب السياسية في ألمانيا يقارب مليوني إنسان؛ أي ما يعني أن نسبة المنتسبين للأحزاب السياسية و المهتمين بالعمل السياسي لا تزيد عن ثلاثة بالمئة من الشعب الألماني.
و لكن ربع هذه النسبة فقط تواظب على المشاركة في الاجتماعات واللقاءات الحزبية ونسبة قليلة من هذا الربع المتبقي تساهم في عملية صنع القرار بشكل فعال. وبالتالي فإن نخبة صغيرة جداً هي من تتحكم بصناعة القرار داخل الوسط السياسي الديمقراطي الألماني. وليست بقية الأنظمة الديمقراطية في العالم ببعيدة عن هذا المثال؛ راجع النظام السياسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، باول آكرمان.
في وقت مبكر من عمر الديمقراطيات الحديثة ظهر مفكر ألماني في عام 1911 يدعى روبرت ميشائيل و جاء بنظرية مفادها أنه رغم جميع المبادئ الديمقراطية التي تدّعي حكم الشعب لنفسه و بغض النظر عن الأدوات المستخدمة لممارسة هذه الديمقراطية من صناديق اقتراع وأنظمة تمثيل نيابي وغيره فإنه لا بد في النهاية من ظهور طبقة نخبة تتحكم بالقرارات المهمة وتمارس الحكم و تقرر مصير الدولة أو المنظمة أو الحزب. و من حيث النتيجة فإن أي تطبيق لمبدأ سيادة الشعب وحكمه لنفسه سينتهي بطبقة تحكمه باسمه من النخبة. وبالتالي فإن الديمقراطية الحقيقية تعني في الحقيقة صناعة وهندسة نظام يمنع هذه النخبة من احتكار السلطات وقمع المعارضين بما يسمح بتحقيق وجود معارضة حقيقية و تداول للسلطات.
ولدى التأمل في النظام السياسي في الدول الديمقراطية الحديثة نجد كمّاً هائلاً من التفاصيل التي تسعى لرعاية مصالح جميع الفئات والأحزاب و التوجهات بما لا يسمح لأي طرف باحتكار السلطة و التمسك بها. ويبدو هذا جلياً بوضوح في النظام السياسي الألماني والياباني، حيث يحاولان السعي لتحقيق أكبر قدر من التوافق بين أحزاب الحكم والمعارضة في آن واحد من خلال منظومة ضخمة ومعقدة من الترتيبات الإدارية للبت في القرارات المهمة في البلاد. ولعل هذا المنحى لدى هاتين الدولتين بالذات هو انعكاس ورد فعل لماضيهما الاستبدادي قبل الحرب العالمية الثانية أي قبل تبني هذا النوع من الحكم. على الطرف الآخر من العالم نجد أنه لدى الدول الشيوعية والاشتراكية أيضاً نخبة من أفراد قلائل تحكم الشعب أيضا باسم سيادة الشعب لنفسه وربما تكون قد وصلت بطرق قانونية أو مشروعة للحكم في لحظة ما ولكنها استطاعت احتكار السلطات والقوة لنفسها وتفردت بها فتحولت لقوى استبدادية لم توفر جهداً في القضاء على أي معارضة لها. الفرق بين الحالتين هو منظومة الحكم التي تطورت عبر فترة زمنية طويلة من خلال الكثير من التجارب والتي تعمل على منع النخبة من احتكار السلطات في الحالة الأولى و لم تنجح في منعها في الحالة الثانية. جميع الأحزاب التي كانت سائدة في سوريا قبل الثورة هي أحزاب يسارية منبثقة من رحم التجربة الشيوعية والاشتراكية وبالتالي فإنها ورثت منها أيضاً الهيكليات الإدارية والنظم المؤسساتية التي أدت أيضا كنتيجة منطقية لإنتاج دكتاتوريين جدد وصلوا لقمة هذه الأحزاب واحتكروا قيادتها مدى الحياة، فمارسوا الدكتاتورية طوال عمرهم ولم يعرفوا شيئاً عن تداول السلطات، في الوقت الذي كانوا يطالبون النظام المنتمي لنفس مدرستهم بالتحول الديمقراطي وتحقيق مبدأ تداول السلطات. لم تعرف المعارضة قبل الثورة خلال الأربعين سنة الماضية أية تجربة حزبية خارج أطر هذه الأحزاب وهيكلياتها التنظيمية والإدارية، وبالتالي فإن أولى الكيانات الثورية الناشئة في بداية الثورة:
“لجان التنسيق المحلية” و “اتحاد تنسيقيات الثورة السورية” ومن ثم “الهيئة العامة للثورة السورية” و “المجلس الأعلى للثورة السورية” وما ظهر بعد ذلك من كيانات ومجالس ثورية في المحافظات كلها استنسخت نفس الهيكلية التنظيمية للأحزاب اليسارية والشيوعية المؤلفة ببساطة من مكتب سياسي ومكاتب خدمية: مكتب إعلامي وإغاثي وحقوقي وغيره، تستمد شرعيتها من أمانة عامة ولها نظام داخلي يحكم العلاقات بين مكاتبها. ثم جاء المجلس الوطني واعتمد نفس الهيكلية التنظيمية أيضا إلا أنه استبدل تسمية المكتب السياسي بتسمية المكتب التنفيذي. اعتمدت هذه الكيانات مبدأ الانتخابات والترشيح للمكاتب وللأمانة العامة كنوع من الديمقراطية مع العلم أن معظم أفرادها لا يوجد بينهم سابق معرفة بحكم ظروف النشأة وطريقة التكوين وقلما استطاع البعض الإطلاع على كفاءات البعض الآخر قبل الدخول بأي عملية انتخاب وبالتالي يمكن ملاحظة غياب وجود معايير محددة لعملية الترشيح والتصويت مما يوفر فرص أفضل للكتل الأكثر تنظيما والتي بين أعضاءها سابق معرفة للوصول للأمانة العامة والمكاتب المهمة. للأسف اتجهت غالبية هذه الكيانات وخاصة في الداخل الثوري لوراثة أمراض أحزاب المعارضة التي كانت قبل الثورة، وذلك جزئيا من خلال وراثتها لبنيتها الإدارية والتنظيمية وخاصة من خلال مفهوم المحاصصة والمناطقية، وبالتالي انحرفت البوصلة لدى أغلب أعضاء هذه الكيانات من هدف كان يوحد الجميع إلى خلاف على عدد المقاعد ونسب النفوذ لكل محافظة أو لكل تنسيقية أو لكل تجمع أو مكون من مكونات هذه الكيانات. كما أن هذه الهيكليات التنظيمية لم تلحظ غياب الجهة القضائية التي تفصل في النزاعات في الأحوال الطبيعية، فكانت تفتقر لجهة أو مرجعية عليا قادرة على حل الخلافات بين مكوناتها المختلفة أو بين أفرادها، وبالنتيجة فإن أي خلاف صغير كان مرشحاً للتفاقم والتضخم دون إمكانية إيجاد حل مؤسساتي له.
واضطرت كذلك معظم هذه الكيانات لاعتماد التواصل عبر الإنترنت كطريقة أساسية للتواصل بسبب الضغط الأمني داخل سوريا وصعوبة تحقيق التواصل الحقيقي والاجتماع الفيزيائي بشكل طبيعي. وبالتالي لم يطل الوقت بهذه الكيانات حتى تحول أغلبها إلى نخب منفصلة عن واقعها بدرجات متفاوتة، تسعى لقيادة قواعدها وإكتساب المشروعية من خلال الخدمات الثورية والإجتماعية التي تقدمها. وفي غياب الإطار التنظيمي الصحيح وغياب الكوادر المؤهلة وكذلك غياب ثقافة العمل الجماعي المنظم أو الممأسس عن المجتمع السوري لأكثر من نصف قرن فإن هذه الأطر التنظيمية لم تتمكن من التطور إلى مؤسسات حقيقية وفي كثير من الأحيان انتهى بها المطاف إلى الإنقسام والتشظي لكيانات أصغر نتيجة صراع هذه النخب على مراكز السلطة والقرار فيها، أو تحولها لكتلة عطالة خامدة غير قادرة على الإنتاج أو التطور. وهذا الأمر ليس مستغرباً في الحقيقة، فالتجربة الشيوعية على مدى ثمانين عاماً لم تنتج أحزاباً أو كيانات قادرة على تحقيق نتائج أفضل من هذه النتائج وهنا يصدق قول الشاعر: تستغربين من سقمي فصحتي هي العجب. و لكن المستغرَب حقيقة هو استنساخ هذه الأطر التنظيمية في كل كيان جديد ينشأ من دون الوقوف قليلاً لمحاكمة صلاحيتها ومدى فعاليتها و مناسبتها للغرض الذي جئنا بها من أجله واستنساخ الأخطاء والثغرات في كل تجربة جديدة. تحاول هذه العجالة تسليط الضوء على بعض مكامن الخلل في الهيكلية الإدارية التنظيمية في هذه الكيانات والهيئات وليس الخوض في كل الأسباب التي حالت دون تطورها لتصبح مؤسسات راسخة. للمزيد حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى “دراسة حول أسباب عدم نجاح الأعمال الجماعية في سوريا”.
على الرغم من أن الهيكليات التنظيمية والإدارية هي من أهم المرتكزات في نجاح أي عمل جماعي، إلا أنها لم تنل حقها من الدراسة والتقييم في تجربة الثورة السورية، و لعل مرد ذلك إلى ضعف الخبرات الإدارية وغياب التجربة وأيضا إلى ضعف الموارد لدى معظم من عمل على إنشاء هذه الكيانات والتنظيمات وعدم الاستعانة بالخبراء المختصين. لا شك أن مجتمعنا اليوم يخوض تجربة جديدة من خلال السعي لبناء سلطات من القاعدة إلى أعلى الهرم وهذا الأمر هو تحدي حقيقي في ظل الظروف الأمنية والمعيشية التي تمر بها سوريا اليوم.
وفي هذا السياق بدأت في الفترة الأخيرة تجربة إنشاء المجالس المحلية في المحافظات وكذلك تشكيل الأحزاب السياسية وسيكون من المؤسف تكرار نفس الأخطاء التي وقع بها الناشطون والسياسيون في الثورة على مدى السنتين الماضيتين، وبالتالي فإني أدعو جميع القائمين على هذه التجارب للاستعانة بأخصائيين في علوم الإدارة والتنظيم الإداري للمؤسسات لتقديم المشورة والنصح كي نضع القواعد السليمة لمؤسسات قائمة على أسس صحيحة وقادرة على الاستمرار والعطاء والابتعاد عن التجريب والمغامرة إذ أن الوقت والظرف لا يتسع لمزيد من التجارب الفاشلة.
المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية
المركز الإعلامي لدعم ثوار حمص
فريق التحليلات والتكتيكات للثورة السورية
أحمد عبد الحكيم - هشام مرسي - وائل عادل
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة