ابحاث ودراسات
المشاهدات : 6959
شـــــارك المادة
أطروحة حول المشهد السوري: طائفية النظام هي ذاتها التي تجعل احتمال لجوئه إلى سيناريو ينتهي بانفصال دويلة علوية مستبعداً
الأطروحة هي نقطة البداية في أي بحث وغير قادرة بالتعريف على أن تحسم أي نقاش. الأطروحة ترسم مساحة للنقاش و لا تفترض أي استنتاج. «لذا وجب التنويه».
مقاربات أولية حول طائفية النظام السوري:
الخطوة الأولى في عرض هذه الأطروحة تبدأ من سؤال بسيط:
ماذا نعني عندما نشير إلى أن نظام الحكم في سورية طائفي أو أن أي مؤسسة من مؤسسات الدولة هي في صلبها مؤسسة طائفية؟
الإجابة على هذا السؤال ليست واحدة في ما إذا كانت «الطائفية» صفة تلحق بنظام حكم، أو دولة، أو مؤسسة بذاتها.
و قد يكون النظام طائفيا ولكن طائفيته لا تتطلب إعادة ترتيب مؤسسات الدولة بشكل طائفي.
من المفيد إذا قبل المضي قدما أن أقترح بعض التمييزات الشكلية حتى نحدد بشكل واضح حدود هذه الأطروحة وشروط تحققها.
الطائفية كعلاقة اجتماعية بدائية والطائفية كصناعة وطنية:
تفترض أغلب الأدبيات السياسية المهتمة بالشأن السوري (الصحفية وحتى الأكاديمية)
أن الطائفية في المشهد السياسي السوري هي في نهاية الأمر رابطة اجتماعية بدائية بمعنى أنها:
(١) قارّة أزلية لا تاريخ لها سابقة للاجتماع السياسي تحت مظلة الدولة الحديثة ومؤسساتها،
(٢) غير عقلانية وغالبا لها تجليات عنيفة ودموية، و(٣) مقابل سياسي لمفاهيم المواطنة في الدولة الحديثة. هذا التوصيف للطائفية يعكس بنية مفهوم محدد للتنمية انتشر خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم كمشروع عالمي لإعادة تعريف العلاقة بين الشمال والجنوب، بين الدول الأوربية ومستعمراتها السابقة في سياق الحرب الباردة.
تقوم فكرة التنمية هذه على التمييز بين التراث والتقليد من جهة والحداثة والعقلانية من جهة أخرى وترى أن مسار تطور المجتمعات يكون حتما بالتخلص من رواسب التقليد والانتقال إلى مؤسسات الدولة الحديثة التي تتجلى في الدول الصناعية ذات الاقتصاد الرأسمالي ونظام الحكم الليبرالي الديمقراطي.
من هذا المنظور، الطائفية ظاهرة مستقلة عن مؤسسات الدولة الحديثة، واستمرارها في المجتمع عائق في سبيل التنمية والانتقال إلى الحداثة.
وهي مرفوضة من قبل الجميع بين النخب السياسية والثقافية على اختلاف اتجاههم السياسي وانتمائهم الثقافي والديني ما داموا مؤمنين بمشروع الدولة التحديثية.
ويعتبر نعت شخص أو موقف بالطائفي ضمن هذا الوسط دائما مذمة.
لن أدخل أكثر من ذلك في هذا الموضوع من أجل نقد هذا التوصيف للطائفية وعلاقتها بالدولة وخصوصية المنظور الذي يمثله وخاصة انه هناك نصف قرن من الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي في نقد هذا المفهوم للتنمية.
ولكنني سأستخدم هذا التوصيف المهيمن للطائفية كنقطة علام لتمييزه عن مفهوم الطائفية الذي أفترضه في عرض هذه الأطروحة.
بمقابل الطائفية كرابطة اجتماعية بدائية أود أن أطرح مفهوما للطائفية كصناعة وطنية.
الفكرة الأساسية في هذا المفهوم للطائفية هو أنها مُكَوِّن من مكونات الدولة وأساليب الحكم الحداثية و ليست تقليدا مستقلا عنها ورافضا لها.
وهي صناعة لأنه وبكل البساطة الطائفة والطائفية لا يعنيان شيئا خارج مجتمع متعدد سياسيا وثقافيا، ولأن مضمون الهوية الطائفية الذي سيتخذ أهمية رمزية تبرر تناقلها عبر الأجيال وطريقة تمثيل جوهر الاختلاف بين الجماعات في مجتمع ما وطبيعة العلاقة بينها، كل هذه يحددها فعل سياسي من خلال مؤسسات الدولة، ونظامها القانوني وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية.
طبعاً، الحديث عن الطائفية على أنها «صناعة وطنية» ليس بالضرورة إنكارا للتعددية والاختلاف المكونين للمجتمع السوري، أو رفضا لاعتبار دعم حقوق الجماعات المهمشة تاريخيا بمقابل الدولة جزء أساسي من أي مشروع وطني للعدالة الاجتماعية.
الحديث عن الطائفية كـ «صناعة وطنية» يعني فقط التركيز على نمط العلاقة بين كل الجماعات المكونة للمجتمع، بدلا عن حقيقة وجودها التاريخي.
من هذا المنظور المواطنة والطائفية لا يختلفان في طبيعتهما وعلاقتهما مع التاريخ والسياسة بل يمثلان خيارين سياسيين مختلفين.
سوريتنا أيضا هي مفهوم مصطنع ومضمونها ناتج عن فعل سياسي من خلال مؤسسات الدولة ونظامها القانوني وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية.
سوريتنا حتى ١٥ آذار ٢٠١١ كانت تعطي أهمية كبيرة للاختلاف الطائفي بشكل يغرّب السوريين عن بعضهم.
والبعد الطائفي في سوريتنا لم يكن من بقايا علاقات اجتماعية بدائية بل كان نتيجة لفعل سياسي.
طبعا ليس هناك مفر من أن نخوض كمجتمع في عمق السؤال الصعب: كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تبلورت سوريتنا بالشكل الذي يكون فيه للاختلاف الطائفي دور سلبي في السياسة؟
ولكن هذا خارج سياق هذه الأطروحة.
الطائفية كصناعة وطنية والطائفية كرابطة أممية:
تتناول الأدبيات السياسية المهتمة بالشأن السوري المسألة الطائفية في سياقين مختلفين.
فهناك أولا إشارة إلى الطائفية كظاهرة سورية لها تاريخ وتجليات مرتبطة بتطور الدولة السورية خلال مرحلة ما بعد الاستعمار.
وهناك أيضا إشارة إلى الطائفية كرابطة أممية، أي أنها تتجاوز في تاريخها وتجلياتها الإطار السياسي التاريخي للدولة الوطنية السورية ليكون لها بعد إقليمي، كأن نقول مثلا أن هناك مد شيعي في المنطقة يصل النظام الحاكم في إيران، بالنظام السوري، بحزب الله في لبنان.
وتتسرع هذه الأدبيات في التعامل مع هذه التجليات المختلفة للطائفية وكأنها وصف لظاهرة واحدة، بمعنى أن الطائفية في السياسة السورية ليست سوى تجلي لتناقض أوسع، وأقدم بين السنة والشيعة من أو للتناقض بين الإسلام والمسيحية.
الطائفية كرابطة أممية ظاهرة سياسية موضوعية لا يمكن إنكارها– بمعنى أن هناك اليوم بعض الأطراف الفاعلة سياسيا وعسكريا في المشهد السوري التي تنظر إلى السياسية الإقليمية من منظور يعتبر التناقض السني/الشيعي العابر للدول الوطنية محورا مركزيا للتحولات السياسية وعاملا أساسيا في تقييم مصالحها الإستراتيجية وتحديد أولوياتها.
وقد نختلف جذريا مع هذا المنظور من حيث أنه ضرب من جنون الارتياب وقعت به حكومات دول الخليج العربي خاصة، ولأنه يقلل من أهمية تطور الدولة الوطنية ومؤسساتها في تشكيل هوية الشعوب، ويتجاهل البعد الجيوستراتيجي العالمي وأثره على تطور مجرى السياسة الإقليمية والوطنية لدول المنطقة، ويتعامل مع الهوية الطائفية كواقع خارج التاريخ والسياسة.
ولكن هذا نقاش آخر. ما يهمنا من هذا النقاش في تقييم المشهد السوري انه يجب عدم التسرع في الخلط بين الطائفية كظاهرة سورية لها تاريخ وتجليات مرتبط بتطور الدولة السورية خلال مرحلة ما بعد الاستعمار، والطائفية كرابطة أممية عابرة للدول الوطنية.
وعندما أتحدث عن طائفية النظام في سياق عرض هذه الأطروحة، فأنا أشير حصرا إلى ظاهرة مرتبطة بالتاريخ والسياسة في سورية منذ الاستقلال.
الطائفية كعصبية والطائفية كمنظور وتقنية للحكم:
تعتمد الكثير من الأدبيات السياسية المهتمة بالشأن السوري على تصور سطحي لطائفية النظام وأثرها على مؤسسات الدولة كأنها انحياز ممنهج في توزيع مراكز القوة والنفوذ أو الامتيازات في الدولة ومؤسساتها لمصلحة طائفة معينة بذاتها.
البنية الأساسية لهذه الصورة السطحية، هي التمييز بين طائفة أقلية تستولي على الدولة ومواردها وطائفة أغلبية تعيش بإذعان ركوداً (وأحياناً تدهوراً تدريجياً) لموقعها الاقتصادي والاجتماعي.
ويفترض هذا التمثيل أيضا مفهوما معينا للعلاقة بين طائفية النظام من جهة، والدولة من جهة أخرى لا يختلف كثيرا عن العلاقة بين «العصبية» والدولة في فكر ابن خلدون.
هذا التصور سطحي لأنه يتجاهل أمرين لا تستطيع فكرة «العصبية» أن تفسرهما.
فمن جهة هذا التصور المُتخيل لطائفية النظام وأثره على مؤسسات الدولة كانحياز ممنهج في توزيع موارد الدولة ومراكز القوة والنفوذ تشترك به كل الجماعات المكونة للنسيج الاجتماعي السوري.
بمعنى أن الانتماء إلى طائفة أو جماعة قومية في سورية يحتوي كأحد عناصره شعور بالغبن التاريخي من قبل الدولة لصالح جماعات وطوائف أخرى.
وهذا الشعور ليس فقط موجود فقط عند الجماعات التي تعتبر أقلية عددية.
حتى الجماعات التي تشكل أغلبية عددية، تتعامل مع الدولة ومع غيرها من الجماعات القومية والطائفية كأنها أقلية. المجتمع السوري بعد أربعين عاما من حكم نظام الأسد أصبح مجتمع أقليات.
أي أن وعي الفرد لهويته وانتمائه لجماعة طائفية أو قومية، يقوم على شعور بالغربة والريبة تجاه الجماعات الأخرى المكونة للمجتمع السوري، وعلى شعور بأن الجماعة التي ينتمي إليها كانت ضحية غبن تاريخي جعلها مهمشة سياسياً واقتصادياً.
الإصرار على أن الشعور بالغبن، الذي أصبح في ظل نظام الأسد مكونا أساسيا لوعي الفرد بهويته وانتمائه لجماعة طائفية أو قومية، مُتخيّل وبنفس الوقت مشترك بين كل الجماعات المكونة للمجتمع السوري لا يعني أبدا.
1) أن الانتماء إلى جماعة طائفية أو قومية هو الشكل الوحيد والمهيمن لوعي الفرد بهويته في المجتمع السوري. هناك أمثلة كثيرة في حياتنا اليومية (قد تكون هي الغالبة في بعض الأحيان) لنوع من العلاقات بين الأفراد وبين سكان الحي الواحد أو بين القرى التي فيها تجاوز واضح للطائفة كمحدد لهوية الفرد وكنقطة البداية في تكوين علاقاته الاجتماعية،
2) إنكارا للاختلاف والتنوع ضمن المجتمع السوري كواقع تاريخي ثقافي
3) إنكارا للغبن كواقع تاريخي وسياسي جعل بعض الجماعات المكونة للمجتمع السوري بالفعل مهمشة سياسيا، اجتماعيا واقتصاديا،
4) أن الغبن التاريخي الذي تدعيه الجماعات الطائفية أو القومية المكونة للمجتمع متساو من وجهة نظر تسعى إلى تحقيق عدالة اجتماعية في المجتمع السوري.
الأمر الثاني الذي لا يمكن لمفهوم العصبية أن يفسره هو أن هذا التصور المُتخيّل لطائفية النظام كانحياز ممنهج في توزيع موارد الدولة ومراكز القوة والنفوذ يحتوي، وبحسب الموقع الاجتماعي الذي تتم منه الملاحظة، على ترتيب طبقي معين للجماعات الطائفية والقومية المكونة للمجتمع السوري:
كأن نقول مثلا انه من وجهة نظر رجل مسلم سني، من دمشق، وفي مستوى اجتماعي متوسط (مهن حرة، تجارة محلية محدودة أو موظف حكومي) في ظل نظام الأسد، فإن الأفضلية في تولي مناصب معينة، أو في الدخول إلى مؤسسات بعينها (كالجيش أو الأمن أو السلك الدبلوماسي) أو في الحصول على منح دراسية من الدولة تكون دائماً أولا للطوائف الأخرى ابتداء بالطائفة العلوية.
العصبية، حسب الفكر الخلدوني، تشير إلى علاقة النخبة الحاكمة مع بعضها بمواجهة المحكومين ككل. العصبية الحاكمة حسب المفهوم الخلدوني لا يقابلها عصبيات متنافسة داخل أسوار المدينة.
أي أنه من الصعب أن نستنبط من مفهوم «العصبية» ودورها في تفسير اختلاف وتعاقب الدول حسب «علم العمران» الخلدوني أي إطار نظري يسمح لنا بفهم علاقة الدولة بالطائفة وعلاقة الجماعات الطائفية والقومية المكونة للمجتمع في ما بينها ومع الدولة وخاصة في مجتمع شديد التنوع كالمجتمع السوري.
وعليه، وبمقابل فهم لطائفية النظام وأثرها على مؤسسات الدولة كعصبية، أود أن أطرح مفهوما لطائفية النظام كمنظور وتقنية للحكم.
الخطوة الأولى للخروج من مفهوم الطائفية – العصبية لن تكون بإنكارها، بل بمحاولة النظر إليها كعَرَض والتركيز على فهم الشروط الموضوعية التي تجعل العصبية أحد تجليات طائفية النظام وأثرها على الدولة ومؤسساتها.
من هذا المنظور فإن طائفية النظام تفترض منظورا للحكم يبدأ من تقسيم المجتمع إلى طوائف واستخدام هذا التقسيم كأداة من أدوات الحكم.
ليس ضروريا أن يترجم النظام هذه الطائفية إلى لامركزية إدارية تساير خطوط التقسيم بين الطوائف الجغرافي والشخصي والوظيفي، بل العكس من الممكن لطائفية النظام هذه أن تترسخ في سياق نظام إداري مركزي.
وليس من الضروري أن يترجم النظام هذه الطائفية إلى انحياز ممنهج في توزيع موارد الدولة والامتيازات السياسية والاقتصادية لمصلحة طائفة معينة بذاتها.
المهم أن النظام يستطيع استخدام التقسيم الطائفي، لضرورات سياسية أو أمنية لها أولية في حساباته كمعيار آني (يتغير بتغير أوليات النظام السياسية) لتفضيل طائفة ما على غيرها في توزيع موارد الدولة والامتيازات السياسية والاقتصادية.
وليس من الضروري أن تنتمي الفئات الاجتماعية الحاكمة إلى طائفة واحدة معينة بذاتها، وليس من الضروري حتى يكون النظام طائفياً أن يكون وعي هذه الفئات المسيطرة على أجهزة الدولة بانتمائها الطائفي على شكل عصبية.
المهم أن الفئات الاجتماعية الحاكمة تستطيع استخدام العصبية لأغراض سياسية أو أمنية لها أولوية في حساباتها.
باختصار يكون النظام الحاكم طائفيا، عندما تصبح التقسيمات الطائفية هي المحاور الإحداثية التي يعتمد عليها في فهم المجتمع.
يكون نظام الحكم طائفيا عندما تصبح الطائفة موضوعا أساسيا للحكم، وعندما تصبح إدارة التقسيم الطائفي للمجتمع أحد أبرز أساليبه.
وأخيراً، ليس من الضروري أن تترافق طائفية النظام كمنظور وتقنية في الحكم، مع حضور التقسيمات الطائفية بصراحة في المجال العام وفي الخطاب الرسمي للسلطة.
المهم أن النظام يستطيع أن يتحكم كيف يتم تمثيل الطائفة والفوارق الطائفية في المجال العام وفي الخطاب الرسمي للدولة.
حضور الطائفية الصريح في المجال العام وفي الخطاب الرسمي للدولة أو غيابها ليس سوى أحد أدوات النظام في إدارة التقسيم الطائفي في المجتمع يستخدمها لضرورات سياسية أو أمنية لها أولية وإن كانت آنية.
قبل المضي قدما في عرض هذه الأطروحة لا بد من التنويه إلى الأمور التالية:
أولاً، الطائفية كمنظور وتقنية في الحكم لها تاريخ يتجاوز في الزمان والمكان حدود نظام الأسد.
فالإمبراطورية البريطانية مثلا، في أوجها خلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر ابتكرت أسلوب التعامل مع المجتمعات التي تحكمها من خلال تصنيف الشعوب المُستعمَرة إلى طوائف وجماعات محولة بذلك إشكالية الحكم في المستعمرات من التبشير ونقل الحضارة (civilizing mission) إلى مسألة ترسيم وإدارة الحدود السياسية، الثقافية والإدارية بين هذه الطوائف والجماعات ضمن ما كان يسمى بالـحكم غير المباشر (indirect rule ).[1) أي أن الحكم من خلال تصنيف المحكوم في جماعات طائفية وإثنية كان، من منظور المجتمعات المُستعمَرة، بداية اتصالها مع الدولة الحديثة وأساليبها في السيطرة.
ولم يكن الانتداب الفرنسي مختلفا في هذا الصدد إذا أخذنا بعين الاعتبار مواظبته على التشريع بشأن الطوائف، وخاصة بعد انهيار مشروع اتحاد الجمهوريات السورية، بدأ من نظام الطوائف الدينية في عام 1936(قرار المفوض السامي رقم 60 ل.ر. تاريخ 3/3/1936 مع تعديلاته).
هذا يعني أيضا، أنه من الممكن أن نظام الحكم في سورية بعد الاستقلال لم يكن بريئاً من الطائفية كتقنية للحكم وأن نظام الأسد لم يخلق طائفية النظام من عدم.
أي أن نظام الأسد استخدم منظور وأدوات للحكم كانت موجودة ومترسخة في بنية الدولة وفي فهم النخب الحاكمة لطبيعة الحكم وأساليب السيطرة ولكنه أعطاها دورا مركزيا في تمكين سطوة نظامه على المجتمع السوري وفي ترسيخ لسلطة الأسد داخل النظام وضمان استمرارها.
ثانيا، استخدام الطائفة كأداة من أدوات الحكم يفترض أن سلطة الدولة تمتد لتأخذ على عاتقها تحديد ما هي الطائفة وما هو جوهر الاختلاف في المجتمع الذي سيكون له معنى سياسي.
هذه السلطة في الواقع هي سلطة إعادة تشكيل هوية الفرد وما يعنيه انتماءه إلى الطائفة وفقا لاعتبارات عملية آنية أو لأوليات سياسية؛ هي سلطة تحديد ما هو ثابت وما هو متحول، ما هو عضوي وأزلي يسبق الاجتماع السياسي وما هو مصطنع وتاريخي في هوية الفرد.
2- طائفية النظام السوري:
إذا فهمنا طائفية النظام في هذا المعنى الضيق، كصناعة وطنية وكمنظور وتقنية في الحكم، فسنكون قادرين أن نقترح توصيف مبدئي مبسط للغاية لطائفية النظام السوري من خلال التركيز على ثلاث تناقضات جوهرية في بنية النظام السوري.
الطائفية والوحدة الوطنية:
الطائفة في الخطاب الرسمي للسلطة موضوع محرم، بمعنى أن أجهزة النظام القمعية تعتبر الحديث في المجال العام عن الهوية الطائفية والفوارق الطائفية وعن العلاقات بين الطوائف ومؤسسات الدولة من الخطوط الحمر التي تستدعي تدخل فوري وصارم.
الطائفية في خطاب النظام الرسمي هي داء موجود في لبنان، وهو مظهر من مظاهر التخلف التي تجاوزها المجتمع السوري تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي منذ آذار 1963.
كل حديث عن العلاقات بين الطوائف في المجتمع المدني عليه مشبوه سياسياً من منظور النظام ومن الممكن أن تعتبره أجهزة النظام جريمة موصوفة في قانون العقوبات السوري (المادة 307).
والواقع أن النظام استخدم مرارا تهمة «إثارة النعرات الطائفية»، لتعزير المعارضة السياسية وحجبها عن المجال العام من خلال الاعتقال والحبس العقابي والتشهير وخاصة في سياق ما سمى بـ «ربيع دمشق»، أو في سياق ملاحقة شخصيات قيادية في إعلان دمشق.
نجح النظام، منذ الحركة التصحيحية، في استخدام خطاب الوحدة الوطنية في سورية من أجل ترسيخ الطوائف كموضوع ومجال للحكم وكأحد أدوات إدارة الاختلاف الطائفي بما يستجيب لأولياته الأمنية.
من الممكن حتى القول أن استخدام خطاب الوحدة الوطنية بشكل يجعل الحديث العام عن واقع التنوع داخل المجتمع السوري محرما، كان أحد الشروط الأساسية التي سمحت للنظام بمباشرة الحكم من منظور طائفي.
عندما يجرم النظام أي حديث في المجال العام عن التنوع الطائفي المكون للمجتمع السوري أو عندما يتدخل بصرامة لقمعه، فإنه في واقع الأمر لا يحمي سوى احتكاره سلطة تعريف ما هو الخطاب الطائفي وهو بذلك يؤسس لفكرة وحدة وطنية تقوم على الطائفية كمنظور وتقنية للحكم. فسورية المتخيلة عندما يحتكر النظام سلطة تعريف الخطاب الطائفي ويحول التنوع الطائفي إلى موضوع محرم، هي سورية مؤلفة من طوائف متنافسة تحاول دائما أن تنتهز الفرصة لتعبر عن خصوصيتها بشكل عنيف؛ هي سورية مهددة دائما بالتقسيم على أساس طائفي.والوحدة الوطنية التي يحميها هذا النظام تصبح رديفة للدولة الأمنية التي تتعامل مع التنوع الطائفي المكون للمجتمع السوري كمصدر للتهديد، وهي التي تنطلق من منظور تصبح فيه العلاقة بين الطوائف المكونة للمجتمع السوري مسألة أمن دولة.
تفتت الهوية ومركزية الإدارة:
من منظور الفئات الاجتماعية الحاكمة الشريكة في النظام، لا يوجد هناك شعب سوري بل مجموعة من الطوائف تعيش ضمن حدود سياسية معترف بها دوليا.
بالمقابل حرصت هذه الفئات الحاكمة نفسها على بناء مؤسسات الدولة خلال أربعة عقود على أساس مركزية إدارية صارمة بين الريف المدينة في المحافظات، ولصالح العاصمة بين المحافظات.
العلاقة بين تفتت الهوية من منظور النظام ومركزية الإدارة كانت دائما إشكالية، ولكنها جوهرية لفهم طائفية النظام وعلاقته بمؤسسات الدولة ولفهم قدرته على المحافظة على سطوته داخل الدولة والمجتمع.
اعتمد نظام الأسد المركزية الإدارية كأسلوب في الحكم على مستويين مختلفين وإن كانا مرتبطين.
هناك أولا مركزية على المستوى الجغرافي، وتتعلق بمجال اختصاص هيئات الدولة ومؤسساتها من حيث المكان وبكيفية توزيع نفقات الدولة الاستثمارية على كافة المحافظات.
المركزية على هذا المستوى كانت تتجلى في تقليص مجال اختصاص سلطات الإدارة المحلية في المكان لمصلحة الهيئات والإدارات المركزية في العاصمة وفي التفاوت الكبير في إنفاق الدولة لأغراض استثمارية لمصلحة العاصمة على حساب المحافظات.
هناك أيضا مركزية على المستوى الوظيفي، تتعلق بمجال اختصاص هيئات الدولة ومؤسساتها من حيث الموضوع وبالأهمية النسبية لبعض أجهزة الدولة ومؤسساتها.
المركزية على هذا المستوى كانت تتجلى في مجال الاختصاص الواسع للمؤسسات الأمنية إلى الحد الذي يمكننا فيه القول أن الكثير من سياسات الدولة في المواضيع الخدمية هي أولا سياسات أمنية.
بمعنى لم يكن النظام السوري يعتمد مثلاً سياسة تعليمية، أو سياسة صحية بل كان يعتمد سياسة أمنية للمجال التعليمي، وسياسة أمنية للمجال الصحي.
إن قدرة النظام على استخدام الطائفية كمنظور وتقنية في الحكم تعتمد على قدرته على إقحام الطوائف في مساحة تنافسية واحدة وهذا ما تحققه المركزية الإدارية.
اعتماد المركزية الإدارية من منظور يفترض أن الشعب السوري مفتت الهوية، سمح للنظام السوري أن يحكم سطوته الأمنية في مختلف مستويات الإدارة.
الأهم من هذا بالنسبة لموضوعنا أن المركزية الإدارية أعطت النظام مساحة سمحت له بأن يؤسس لنمط معين لعلاقة الطوائف فيما بينها ومع مؤسسات الدولة يقوم على:
1) خلق تصور لدى كل سوري يحدد هويته على أساس انتماءه لإحدى الطوائف المكونة للمجتمع السوري بأنه على علاقة تنافسية في كل ما يتعلق بتوزيع الموارد والخدمات العامة ومراكز النفوذ مع الطوائف الأخرى إلى الحد الذي يشعر فيه بأن كل امتياز تحصل عليه أي طائفة غير التي ينتمي إليها خسارة صافية له.
2) ترسيخ دور الأجهزة الأمنية كحكم فيما بينها تحتكر سلطة توزيع الموارد والخدمات العامة ومراكز النفوذ.
لا بد من التنويه في هذا الصدد، أن هذه العلاقة التنافسية تلعب دورا مكونا للهوية الطائفية. بمعنى أن ما يعنيه الانتماء الطائفي بالنسبة للفرد في ظل نظام الأسد هو نتيجة لفعل سياسي يشمل تحديد الميدان السياسي والمؤسساتي لتنافس الطوائف فيما بينها، وتحديد المكتسبات موضوع المنافسة، واحتكار سلطة توزيع هذه المكتسبات.
القاعدة والاستثناء:
من الصعب على نظام حكم أن يحافظ عمليا على مركزية الإدارة وسيطرته على مؤسسات الدولة دون منظومة قوانين مفصلة ومتبعة بشكل صارم.
التطبيق الصارم للقوانين والأنظمة ينظم إيقاع العمل الروتيني لمؤسسات الدولة ويشكل سقف ما يمكن للمواطن السوري أن يتوقعه في معاملاته سواء مع الغير أو مع الدولة ومؤسساتها.
ليس من الضروري أن تكون هذه القوانين والأنظمة مرتبطة بالتنظيم السياسي للدولة أو حتى بمسائل مرتبطة بحفظ النظام العام.
ولكنها في أغلب الأحيان تخص كل الأمور التفصيلية في الحياة اليومية من القوانين التي تنظم المرور، إلى قوانين التنظيم العمراني، والقوانين الناظمة لمناقصات القطاع العام، إلى التشريعات الضريبية والجمركية. وبغض النظر عن ما إذا كانت صياغة هذه القوانين والأنظمة تخدم موضوعيا المصلحة العامة، فإن كل طرف فاعل في تطبيق هذه القوانين والأنظمة يتعامل معها بشكل صوري[2] على أنها تحتوي على قواعد عامة ومجردة تطبق بشكل متواتر ومتساو على كل المواطنين دون استثناء.
أما الواقع المستتر الذي تعيه كل الأطراف الفاعلة في تطبيق هذه القوانين وتتنافس على الاستفادة منه أو تجتهد لتجنب آثاره، فهو أن سلطة التطبيق الصارم والمتواتر تفترض أيضا سلطة إقرار الاستثناء.[3]
استخدم نظام الأسد الصورية، وازدواجية الوعي القانوني التي تنتجها، والاتفاق الضمني بين صانع القرار والمسؤول عن تنفيذه والمحكومين به على استمرارها، بشكل فاعل لترسيخ طائفيته. بين القاعدة والاستثناء في سياق نظام مركزية إدارية ومن منظور لا يرى المحكومين إلا كأفراد تنتمي إلى طوائف، وجد النظام المساحة التي تسمح له بأن
1) يؤسس لعلاقة تنافسية بين السوريين الذين يحددون هويتهم بانتمائهم الطائفي.
2) يرسخ دور الأجهزة الأمنية كحكم تحتكر سلطة توزيع الموارد والخدمات العامة ومراكز النفوذ بينهم.
سلطة إقرار الاستثناء في الواقع هي سلطة خلق «ريع» كما هو مفهوم في علم الاقتصاد السياسي، وإقراره في حالة معينة لاعتبارات آنية هو في الواقع توزيع لهذا الريع. ومن الممكن للنظام بأجهزته القمعية أن يخلق ريعاً ويوزعه من منظور طائفي منتجاً بذلك علاقة التنافس بين السوريين على أساس انتمائهم الطائفي، ولكنه كان أيضا يوزعه لاعتبارات أخرى قد تكون أكثر ارتباطا بمصالح شخصية.
3- طائفية النظام السوري مستحيلة في دويلة علوية:
بناء على ما تقدم من الممكن أن نصل إلى عدة استنتاجات أولية حول الطبيعة الطائفية للنظام السوري:
i. - طائفية النظام السوري ليست مرتبطة بعلاقة عصبية مع الطائفة العلوية. ولكنها مرتبطة بخلق مناخ سياسي ومؤسساتي يستطيع فيه النظام أن يستخدم عصبية علوية بمواجهة طوائف أخرى في سبيل المحافظة على استمراره.في الواقع، تبدو علاقة النظام بالطائفة العلوية علاقة طبقية، قائمة على ترسيخ سطوة الفئات الاجتماعية الموالية وأجهزة الدولة.
ii.- طائفية النظام السوري لا تهدف إلى إعادة توزيع الموارد والنفوذ بين الطوائف لمصلحة طائفة معينة. الهدف من طائفية النظام كمنظور وتقنية في الحكم هو توزيع الموارد والنفوذ لمصلحة الفئات الاجتماعية المكونة له أياً كان انتماءها الطائفي، ولمصلحة أجهزته القمعية.
iii. - طائفية النظام السوري كمنظور وتقنية في الحكم مكون أساسي لأسلوبه في الحكم وأحد الأدوات التي لا يمكن الاستغناء عنها والتي ساعدته بالاستمرار وإعادة إنتاج سلطته منذ الحركة التصحيحية في عام 1970.
iv. - طائفية النظام السوري غير ممكنة إلا في نطاق جغرافي واجتماعي وسياسي متعدد طائفيا ويسمح للنظام أن يقحم الطوائف المختلفة في ساحة تنافسية يسيطر عليها. النظام لا يمكن أن يستمر في أي وحدة سياسية جغرافية غير متعددة طائفيا.
v. - عندما يهتف الشبيحة «الأسد أو نحرق البلد» فإن «البلد» التي يعنيها هذا الشعار هي كامل الأراضي السورية.
والخيار الوجودي الذي يطرحه هذا الشعار هو إما استمرار سيطرة نظام الأسد على كامل الأراضي السورية أو «إحراق البلد.» الانسحاب إلى دويلة علوية خيار غير مرغوب وغير مُتصور لدى شبيحة النظام.
لن يستطيع نظام حكم العائلة أن يبسط سيطرته على الطائفة التي استخدمها خلال أربعة عقود كرهينة لضمان استمرار سطوته.
-----------------------------
[1] في هذا الخصوص راجع: Mahmoud Mamdani, “Define and Rule: Native as Political Identity”, 2012
[2] الصورية في القانون مفهوم خاص لا بد من بيانه وهو المقصود قياسا في متن النص. الصورية في المعاملات المدنية والتجارية هي ترتيب متفق عليه بين متعاقدين، يقتضي تنظيم علاقاتهما على أساس عقد ظاهر للغير صحيح و ينتج آثارا قانونية معينة ولكن ليست مرغوبة لذاتها، وعقد مستتر يختلف عن العقد الظاهر وقد يلغي آثاره ويكون هو حقيقة موضوع الاتفاق بينهما.
الصورية في القانون لها إذاً عناصر محددة:
١) ازدواجية الواقع القانوني وانفصامه إلى علاقة ظاهرة وعلاقة حقيقية باطنة؛
٢) اتفاق الأطراف المعنية على إنتاج هذه الازدواجية وعلى استمرارها؛
٣) الغير في العلاقة الصورية طرف أساسي في العلاقة على الأقل من حيث أن الأطراف يلجؤون إلى الازدواجية من أجل تجنب أي نتائج قد تنجم عن معرفة الغير بالطبيعة الحقيقية للعلاقة.
[3] الإشارة إلى «الاستثناء» هنا لا تحيل إلى نظرية السيادة للقانوني الألماني كارل شميت. الاستثناء في نظرية كارل شميت للسيادة هي افتراض نظري يستعمله من أجل مقاربة علاقة العمل السيادي بالنظام القانوني للدولة من خلال الإشارة إلى الحالة التي يكون فيها وجود الدولة وسيادتها محل تهديد التي يبرر للسلطة التنفيذية أن تباشر الحكم من دون التقيد بفصل السلطات وبالإجراءات القانونية والبرلمانية الروتينية.
من هذا المنظور فإن قدرة السلطة التنفيذية على إعلان حالة الطوارئ لا تستغرق ما يعنيه شميت بحالة الاستثناء. «
حالة الطوارئ» هي حالة دستورية ومحكومة بقاعدة قانونية.
حالة الاستثناء، بالنسبة لشميت لا يمكن وصفها وتقنينها بنص دستوري لأن النظام القانوني لا يمكن أن يتصورها.
وعندما يعرف شميت صاحب السيادة بأنه «هو الذي يقرر الاستثناء»، فإنه يشير إلى «قرار» بالمعنى «الحقيقي» للكلمة، بحسب تعبير شميت، لأنه قرار يتم بشكل مجرد دون أن يكون محكوما بأية قواعد قانونية ترخص به وتحدد نطاق تطبيقه.
راجع Carl Schmitt, Political Theology:Four Chapters on the Concept of Sovereignty, 2005.
أما الاستثناء المشار إليه في متن النص فهو ليس عمل سيادي بمواجهة تهديد لوجود الدولة، بل ممارسة روتينية مرتبطة بوجود هامش من السلطة التقديرية والقدرة على تقرير قواعد خاصة لاعتبارات آنية.
والاستثناء في هذه السياق يفترض القاعدة ويرتكز على وجودها ونطاق تطبيقها.
والدور السياسي الذي يلعبه الاستثناء في النظام القانوني والإداري في سورية يعتمد على المفاضلة بين أغلبية تتبع القاعدة، والفئة المختارة التي تخضع للاستثناء سواء أكان ذلك وبالا عليها أم امتياز.
الجمهورية
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
تعليقات الزوار
أضف تعليقًا