عبد الرحمن أبو الفتوح
تصدير المادة
المشاهدات : 5716
شـــــارك المادة
يقوم مديرو أجهزة الإعلام حول العالم بوضع أسس عملية تداول “الصورة والمعلومات”، ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، وتكمن خطورة سيطرتهم عليها أن تلك الصور والمعلومات تساهم في تحديد معتقدات ومواقف الجمهور.
ولذلك يمكن تشبيه كثير من المتحكمين في أجهزة الإعلام حول العالم، بأنهم سائسو عقول، لطرحهم أفكارًا لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، بهدف صناعة وعي مزيف ونشره، ويصف الفيلسوف “باولو فريري” عملية تضليل عقول البشر بأنها أداة للقهر، تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.
وتناول “هربرت شيللر” أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا، في كتابه “المتلاعبون بالعقول“، خمس أساطير، تستخدمها وسائل الإعلام لتضليل الجمهور، من أجل أن تضمن استمرار التأييد الشعبي لنظام اجتماعي لا يخدم في المدى البعيد المصالح الحقيقية للأغلبية، وفي هذا التقرير شرح لتلك الأساطير الخمسة. 1- أسطورة الفردية والاختيار الشخصي من وجهة نظر المؤلف فإن أعظم انتصار أحرزه التضليل الإعلامي تمثل في الاستفادة من الظروف التاريخية الخاصة للتطور الغربي من أجل تكريس تعريف محدد للحرية تمت صياغته في عبارات تتسم بالنزعة الفردية، وهو ما يؤدي في النهاية بهذا المفهوم أن يؤدي وظيفة مزدوجة، فهو من ناحية يحمي حيازة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وفي نفس الوقت يطرح نفسه بوصفه حارسًا لرفاهية الفرد.
وتعمل وسائل الإعلام الأمريكية على إقناع جماهيرها بأن حقوق الفرد المطلقة هي حقيقة يعيشونها، رغم أن الواقع يختلف اختلافًا كليًّا، فهناك العديد من الشواهد التي تؤكد على أن حقوق الفرد ليست سوى أسطورة، وبأنه لا يمكن الفصل بين الفرد والمجتمع.
وتعمل وسائل الإعلام ظاهريًّا على تأكيد طابع الخصوصية في كل مجالات الحياة الأمريكية، من أدق تفاصيلها حتى أعمق معتقداتها، فالحلم الأمريكي من أبرز ملامحه امتلاك وسيلة انتقال خاصة، ومنزل مستقل للأسرة، والعمل في مشروع لا يملكه الغير.
ولكن في واقع الأمر لا تقوم وسائل الإعلام بالمساعدة في توفير المناخ الملائم للفردية والاختيار الشخصي، فعلى سبيل المثال قام “فرانك ستانتون” والذي كان يشغل منصب نائب رئيس (CBS) أهم مجموعة شركات للإرسال الإذاعي والتلفزيوني في أمريكا خلال فترة السبعينات، بالاعتراض على حق الأمم المتحدة في تولي عملية إنشاء نظام عالمي للاتصالات عن طريق الأقمار الصناعية، بالرغم من أن نظام الأقمار الصناعية سيوفر إمكانية بث البرامج مباشرة إلى أي بيت في أي مكان في العالم، وتحجج “ستانتون” بأن حق الأمريكيين في التحدث إلى من يشاؤون في أي وقت سيتم إهداره من خلال هذا النظام، ولكن في الواقع ما يهمه هو حقوق شبكة (CBS) فيما يتعلق بالاتصال بمن تشاء، أما المواطن الأمريكي العادي فلا يملك الوسيلة، ولا التسهيلات المطلوبة للاتصال عالميًّا على أي نحو ملموس. 2- أسطورة الحياد
لا يوجد هناك تضليل إعلامي ناجح دون أي يقوم القائمون عليه بإخفاء شواهد وجوده، ويقتضي ذلك واقعًا زائفًا بإنكار وجوده بشكل مستمر، في ظل شعور المضلَلون بأن الأشياء التي يشاهدونها هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. ويرى “هربرت” أنه لنجاح ذلك لا بد أن يؤمن الشعب الذي يُجرى تضليله، بأن الحكومة والإعلام والتعليم بعيدون كل البعد عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة، وينظر إلى وقائع الفساد المختلفة عند حدوثها من وقت لآخر على أنها ناتجة عن الضعف الإنساني، أما المؤسسات نفسها فهي بعيدة تمامًا عن دائرة الاتهام.
ومن أدوار الإعلام المؤثرة إظهار جميع الإدارات الحكومية المتعددة على أنها أداة وظيفية محايدة لا تبتغي سوى المصلحة العامة، تخدم الجميع دون تحيز أو محسوبية، والدليل على ذلك مشاركة وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة لمدة نصف قرن في الترويج لأسطورة المباحث الفيدرالية على أنها وكالة لا سياسية عالية الكفاءة لتنفيذ القانون، إلا أن جهاز المباحث استخدم في الواقع طوال الوقت، في إرهاب وتطويق أي سخط اجتماعي.
وينتج عن هذه الأسطورة فرضية حيادية جميع أجهزة الإعلام، وعلى الرغم من أن الصحافة تعترف أحيانًا بأن العديد من التحقيقات الصحفية لم تتوخَ الإنصاف والموضوعية، إلا أنها تؤكد للقراء على أن ذلك ليس سوى خطأ إنساني، يستحيل تفسيره بكونه ناتجًا عن عيوب جوهرية في نظم نشر المعلومات السليمة بصفة أساسية. 3- أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة
“تؤثر ماهية الطبيعة الإنسانية كما يفهمها الناس في الطريقة التي يتصرفون بها، ليس نتيجة لأنه يتعين عليهم أن يتصرفوا على هذا النحو، ولكن لأنهم يعتقدون أنه يتوقع منهم أن يتصرفوا على هذا النحو”.
لذلك يرى “شيللر” على أنه من المتوقع أن تجد النظرية، التي تؤكد على الجانب العدواني في السلوك الإنساني وعدم قابلية الطبيعية الإنسانية للتغيير استحسانًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتم نشرها على نطاق واسع من خلال وسائل الإعلام، لأنه من المؤكد أن الاقتصاد المبني على الملكية الخاصة والحيازة الفردية، والُمعرضّ دائمًا للصراعات الشخصية، سيساعده هذا التفسير على إضفاء المشروعية على مبادئه الأساسية المؤثرة في الواقع، وسيكون مُطمئنًا عندما ينظر إلى العلاقة القائمة على الصراع على أنها كامنة في الوضع الإنساني، وليست مفروضة نتيجة ظرف اجتماعي.
ومن الأمثلة الواضحة على تورط وسائل الإعلام في الترويج لتلك الأسطورة قيام مجلة “فورشيون” بالإعراب عن سرورها بأن بعض العلماء الأمريكيين أكدوا على عدم قابلية الطبيعة الإنسانية للتغير، في تفسيرهم للظواهر الاجتماعية.
وتكمن خطوة ترسيخ تلك النظرية في أذهان الجماهير أنها ستساهم في تبرير ما هو قائم على أنه ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية، وهكذا يصبح القهر الاجتماعي رد فعل، بدلًا من أن يكون السبب الأساسي للعنف الإنساني.
وسيبقى العالم باستثناء بعض التجديدات الديكورية الباهرة كما هو تمامًا، وستبقى العلاقات الأساسية دون تغير، لأنها على حد زعمهم شأنها شأن الطبيعة الإنسانية غير قابلة للتغير، أما فيما يتعلق ببعض الأجزاء من العالم التي شهدت علميات إعادة تنظيم اجتماعي بعيدة الأثر، فإن ما يكتب عنها سيركز على العيوب والمشاكل والأزمات التي يتلذذ بالتشبث بها مضللو الوعي. 4- أسطورة غياب الصراع الاجتماعي
ينكر المتحكمون في الوعي إنكارًا مطلقًا وجود الصراع الاجتماعي، ويصف المؤلف ذلك بأنه في ظاهر الأمر مهمة مستحيلة التحقيق، فالعنف من وجهة نظره رغم كل شيء “أمريكي مثله مثل فطيرة التفاح”، ليس في الواقع فحسب بل في الخيال أيضًا، ففي السينما والتليفزيون وعبر موجات المذياع تخصص يوميًّا لسيناريوهات العنف مساحة مذهلة، فكيف يتفق هذا الكرنفال من الصراع والعنف مع الهدف الأساسي لمديري وسائل الإعلام، والمتمثل في تقديم صورة للانسجام والتآلف الاجتماعي؟ الواقع أنه تناقض يتم حله بسهولة.
فالصراع كما تصوره الأجهزة القومية لصنع الأفكار والتوجهات العامة، هو في الأساس مسألة فردية، سواء في تجلياته أو في أصوله، إذ إنه لا وجود أصلًا للجذور الاجتماعية للصراع في رأي مديري أجهزة الثقافة والإعلام.
والواقع أن تفاهة وسطحية معظم البرامج، وخاصة فيما يتعلق منها بتغطية الأحداث الاجتماعية الجارية، تعودان أساسًا إلى عدم تسليم وسائل الإعلام بوجود صراع اجتماعي، وعن إغفال تحديد طبيعة أسس هذا الصراع، وليس الأمر بالخطأ غير المقصود، بل هو نتيجة مترتبة على سياسة متعمدة يقبلها معظم المسيطرين على الإعلام دون تحفظ.
فعلى الصعيد التجاري البحت، يؤدي عرض القضايا الاجتماعية إلى إثارة القلق في نفوس الجماهير، أو هكذا يعتقد الدارسون لسيكولوجية الجمهور، لذا يحرص رعاة البرامج التلفزيونية أو ممولوها عملًا بمبدأ السلامة، ومن أجل الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من جمهور المشاهدين، على استبعاد أي برنامج يشتبه في احتوائه على مادة “خلافية” أو مثيرة للجدل.
ولهذا السبب نجد أن ألوان الترفيه والإنتاج الثقافي التي حققت نجاحًا أكبر في الولايات المتحدة، ولاقت دعمًا من الجهاز الإعلامي، هي الأفلام والبرامج التلفزيونية، والكتب، والتسلية الجماهيرية (ديزني لاند على سبيل المثال)، التي رغم تقديمها حصة عنف كبيرة إلا أنها لا تتبنى بأي شكل قضية الصراع الاجتماعي. 5- أسطورة التعددية الإعلامية
توجد صورة شائعة على مستوى العالم أن الحياة في أمريكا تتوفر بها حرية الاختيار في بيئة متنوعة ثقافيًّا وإعلاميًّا، وتتغلل هذه النظرة في أعماق أغلبية كبيرة من الأمريكيين وهو ما يجعلهم سريعي التأثر بالتضليل الإعلامي، ورغم أن حرية الاختيار والتنوع يمثلان مفهومين مستقلين فإنهما لا ينفصلان في الواقع، فحرية الاختيار لا تتوافر بأي معنى من المعاني دون التنوع.
ويؤكد “هربرت شيللر” على أن المسيطرين على الإعلام يعمدون إلى الخلط بين وفرة الكم الإعلامي، وبين تنوع المضمون، ففي أمريكا يسهل على المرء بطبيعة الحال أن يعتقد أن الأمة التي تمتلك 6700 محطة إذاعية تجارية، وما يزيد على 700 محطة تلفزيونية، و1500 صحفية يومية، ومئات الدوريات، وصناعة سينما تنتج مائتي فيلم جديد سنويًّا، لا بد من أن توفر تشكيلة شديدة التنوع من الإعلام.
ولكن حقيقة الأمر أنه باستثناء قطاع صغير جدًّا من السكان يحسن الانتقاء، ويستطيع أن يستفيد من التدفق الإعلامي الهائل، فإن معظم الأمريكيين محصورون أساسًا وإن لم يعوا ذلك، داخل نطاق مرسوم من الإعلام، لا اختيار فيه، فتنوع الآراء فيما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية، أو بالنسبة لشؤون المجتمعات المحلية، لا وجود له في المادة الإعلامية، فعلى الرغم من كثرة البرامج التلفزيونية والإذاعية، فإننا لا نجد أي فارق كيفي ملموس بينها، ويمكن تشبيه الأمر بـ”سوبر ماركت” يعرض ستة أنواع متماثلة من الصابون بألوان مختلفة.
وهذا ما يجعلنا نذهب إلى صحة النظرية القائلة بأن كل ما يقدمه الإعلام من أفكار يجري انتقاؤها من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه، من جانب “حراس” للبوابة الإعلامية، تحركهم دوافع تجارية لا يمكن التخلي عنها. وقد لاحظ “جورج جيربنر” في مقال له بمجلة “سينتفيك أمريكان”، أن “السؤال الحقيقي لا يتمثل فيما إذا كانت أدوات الاتصال الجماهيري حرة أم لا، وإنما يتمثل في كيف ولأي هدف، وعن طريق من وبأي نتائج مترتبة تتم ممارسة عمليات التوجيه والسيطرة التي لا محيد عنها؟”.
ساسة بوست
أحمد أبو مطر
محمد بسام يوسف
عبد العظيم عرنوس
حسان الحموي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة