..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

يوم أصبح بشار المهدي المنتظر

غربة

١٩ سبتمبر ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2920

يوم أصبح بشار المهدي المنتظر
-يلي-بيقتل-شعبه-300x3002.jpg

شـــــارك المادة

بينما حسمت الثورة خيارها منذ زمن بقي الجدل النظري حول طبيعتها قائما حتى اليوم وفي خِضَمِّه تُستحضر دراسات وإحصاءات لإثبات صحة الخيار السلمي الخالص، إلا أن من يدافعون عن ذلك الخيار يَغفلون أو يتغافلون عن عامل يميز الثورة السورية عن النماذج المـَسُوقة للثورات السلمية، لا من ناحية إجرام النظام السوري كما يحاجج البعض ولكن في أن أياً من تلك النماذج لم يحوِ أقلية دينية أو إثنية ذات كتلة عددية مؤثرة متماهية مع السلطة الحاكمة ومدافعة عنها في وجه بقية الشعب ضمن نظام أمني متغول كما هو حال عموم الطائفة العلوية اليوم.

 

 

وإذا قبلنا بهذه الفرضية فإن الإحصاءات والأرقام تغدو غير ذات صلة بالقضية المطروحة.
ومن ناحية منهجية لا يعني ذلك عدم صلاحية النموذج السلمي لسورية وإنما عدم إمكانية الاحتجاج بأمثلته الناجحة في هذا النقاش.
إذا حاولنا تفكيك آليات النموذج السلمي بعيدا عن الرؤية الحاكمة سنجد أنها حققت نجاحا باهرا في الحالة السورية والتهجم على العمل المدني لا يمكن وصفه إلا بأنه حماقة ثورية ونكران لتضحيات مئات الشهداء وآلاف الناشطين في مراحل الثورة الأولى، فقد نجحت تلك الآليات في تفكيك تحالفات النظام والتوازنات التي بناها مع أغلب أطياف المجتمع وتمكنت من كسب تعاطف السوريين وإبراز الصورة الحقيقية للثورة وقيمها بعيدا عن الدعاوى التي كان النظام يحاول إلصاقها بها، كما أنها تمكنت من إشراك جميع قطاعات المجتمع في الحراك الثوري، وهم الضامن الوحيد لحماية بوصلتها والحفاظ على مكتسباتها من طغيان أي فئة لاحقا.
إلا أن تلك الآليات التي تعتمد على التداخل القائم بين المجتمع ومكونات الدولة وقفت عاجزة أمام الطائفة العلوية التي تعيش حالة فصام تعاني فيها استعباد النظام لها بينما ترى نفسها مالكة البلاد وصاحبة السيادة عليها وترى الثورة خروجا على سلطتها وهيمنتها، ولم تفلح تلك الآليات إلا في اجتذاب أعداد هامشية من ذوي الاستعداد المسبق لتجاوز الأطر الطائفية الضيقة.

وهكذا حافظ النظام على نواة صلبة ربطت مصيرها به وشكلت مع مجموعات مصلحية أخرى من بقية أطياف المجتمع السوري خط دفاع منيعا يبدو من السذاجة الظن بأن اختراقه ممكن بالاستسلام للذبح ونداءات الأخوة والأخلاق. الحل السلمي الخالص كان يعني ببساطة -وفيما يبدو أقرب التصورات إلى التحقق- امتداد الثورة إلى أغلبية المجتمع السوري ثم موتها ببطء، وحماة تمنحنا نافذة لاستشراف حال الثورة لو لم يتم حمل السلاح. 

ففي بدايات الثورة ومع المظاهرات الهائلة التي عمت المدينة خرج أغلب سكانها من الطائفة إلى الريف لكنهم عادوا مع الهجمة الغاشمة التي شُنت عليها ولم يكتف أكثرهم بالعودة بل تجاوزوا إلى طرد بعض الأهالي من دُورهم والاستيلاء عليها كغنائم وشُنَّت حملة أمنية عنيفة اعتقل فيها الناشطون وقُمع الأهالي وكادت مظاهر الثورة تختفي إلا من مظاهرة طيارة هنا أو هجمة محدودة للجيش الحر هناك، وبلغت صعوبة الحال مبلغا وصفه صالح الحموي قبل أيام في نداء للمغتربين بقوله: ((اليوم الحواجز بحماة عم ياخدوا إتاوات من الناس ع طالع والنازل.. وصار ولاد الخلق والعالم تشحد ع أبواب المساجد..الفقر يأكل الناس”، وكل ذلك تم بكلفة أمنية محدودة.))
وهنا تفريق دقيق جدا لا ينبغي تجاوزه، فالتفاف الطائفة حول النظام يجعل إسقاطه متعذرا بالأساليب السلمية وحدها لكنه لا يجوز أن يقود إلى نقل وجهة المعركة من النظام إلى الطائفة، على الأقل لدى من يؤمن بأن الثورة قامت لإنقاذ الإنسان وبناء وطن كريم. الحالة العلوية على درجة عالية من التركيب وفهمها يقود لقناعة بأن التعايش وخروج الطائفة من ضيق سجنها إلى رحابة الوطن ممكن وضروري لكن تحقيقه مشروط بإسقاط النظام ولا طاقة للثورة بإنجازه قبل ذلك وخاصة مع مستوى العنف الذي ووجهت به منذ انطلاقتها.1
لو استمرت الثورة على سلميتها لربما بلغت دمشق وحلب بعد حين وتمكنت حتى من تحقيق انتصارات جزئية من إضراب وعصيان مدني.. كان النظام سيعترف بخسارة المعركة.. لكن الحرب ستستمر.
كان سيتم غض النظر عن القرى والمناطق الطرفية بعد تقطيع أوصالها ويعاد انتشار الجيش في المدن الرئيسية وعلى الحدود، الشمال والشرق سيوزع بين عصابة آل بري وحزب العمال الكردستاني والعشائر المتعاونة مع النظام، مع دعم أمني محدود، في حين يترك الساحل لشبيحة القرى، سيتم تهجير أهل حمص، وتقطيع أوصال دمشق، وخنق أشكال التظاهر والعمل المدني قدر المستطاع، بينما تنسحب الدولة من مسؤولياتها في عملية عقابية وتحصر اهتمامها بالأحياء والمناطق المؤيدة.
العامل الفارق هنا هو أن تركز الطائفة في الأجهزة الأمنية وأجهزة الدولة سيضمن مع المنتفعين من بقية الطوائف استمرارها ولو بشكل جزئي، خاصة وقد تخففت من حِمل القطاع الأكبر من الشعب، وستُترك دمشق وبقية المدن الرئيسية لتذبل تدريجيا فيموت اقتصادها ويعتقل نشطاؤها وتنتشر فيها الأمراض والأوبئة، ستضمن روسيا والصين الدعم السياسي للنظام طالما بقي عدد القتلى اليومي دون مستوى معين في حين توفر إيران وحلفاؤها الدعم العسكري والمالي، وإن تعسرت الأمور فأيدي الشبيحة مطلقة في نهب الدور والمتاجر واختطاف المدنيين والمساومة عليهم، وستعم “أسواق السنة” الشطر الغربي من البلاد، سنخسر نفس عدد الشهداء وربما أكثر لكنهم سيكونون ضحية إعدامات جماعية منتظمة وغير معلنة في المعتقلات، تماما كإعدامات تدمر، ستُدبّج البيانات، وتتالى الإدانات، وربما يمنع الكافيار، لكن أحدا لن يحرك حجرا ما دام العرب سيَدفِنون قطار الثورات المرعب والغرب سيحظى بسورية أضعف ووعود بحماية إسرائيل.
بعد عامين أو أكثر قليلا سيلتفت الناس ليجدوا أنفسهم يعيشون حالا أمر من أهل العراق حين كانوا بين مطرقة الطاغية وسندان الحصار، النظام مستمر ككائن استعماري طفيلي بينما هم لا يجدون لا المأكل ولا المشرب ولا الدواء، ولا يأمنون على أنفسهم إن ناموا ألا يستيقظوا في أحد المعتقلات، سيفقدون الأمل، سيكفرون بكل دعايات العصيان والكفاح السلمي..سيلعنون من ورطهم في هذه المغامرة المجنونة.. وسيستسلمون.. لا في قرار جماعي بالضرورة، لكن على دفعات متتالية، سيضرب النظام حينها ضربته النهائية في المدن ليضمن اجتثاث كل من قد يفكر في التمرد لاحقاً ثم سيفرغ لبقية المناطق، تلك المناطق التي غرها ما ظنته من ضعف فتمردت وربما كونت إدارات ذاتية خاصة بها، سيفرغ لها بعد أن رأت ما حل بأخواتها الأكبر وبعد أن عانت ولو جزئيا تخلي الدولة وموت الاقتصاد، وسيحل بها ما حل بغيرها، سيعيش الناس أعواما من الرعب لم يعرفوا مثيلها حتى في أيام الأسد الأب، وسيفر مئات الآلاف هربا من المصير المحتوم،
سيصحو البوطي يوما ليقول للناس أنه رأى النبي في المنام، جالسا في الفردوس بين باسلَ وأبيه، أنه رضي صنيع بشار وصموده في وجه أعداء الأمة والإنسانية وأنه..المهدي المنتظر، سيزعم أنه أوصاه بأن يُنصب ملكا وتغدو البلاد إرثا لذريته المباركة، ستصبح سورية مملكة الأسد، ولن تعرف ثورةً أو صوت معارضة إلا بعد قرن من زمان، حين يخرج بوعزيزي جديد في جيل لم يعرف الرعب الذي نزل بأجداده.. كل ذلك لأن الناس توهمت أنها أمام دولة، لا عصابة قذرة تدعمها دول وطائفة ومجموعات نفعية عدة.
قبل سنة تقريبا كتبت أن من لا يرى يد الله في الثورات العربية عموما والسورية خصوصا فليستعذ به من عمى البصيرة، هذه الثورة ثورة مأمورة، تسير بهدي الله، جاءت ثورتا تونس ومصر لتشعلا فتيلها وتمنحا الناس الأمل في تحقيق المستحيل، ثم ضربت ثورة اليمن المثل في ضبط النفس وتحييد السلاح، ولعبت ثورة ليبيا دورا ثنائيا عجيبا، فعلى مدى أشهر كبح حجم خسائرها لجام العسكرة في سورية وأعطى فرصة لتمكن العمل المدني وانتشاره، وحين انتصرت كانت إيذانا ببدء مرحلة جديدة في حياة الثورة السورية بات فيها السلاح جزءا أصيلا في المعادلة.

في الطريق ارتُكبت أخطاء كثيرة على مختلف الصعد، المدني منها والعسكري والسياسي، وبعضها كان كارثيا وعاد بخسائر فادحة، لكن عظمة الثورة كانت في مجالها المفتوح وديناميتها التي استوعبت الصدمات المتتالية وتفاعلت معها لتتأقلم مع الواقع المتغير باستمرار وتبدع آليات ووسائل جديدة في مواجهته.
هذه ثورة تأبى القولبة والأطر الجاهزة، وترفض الكسل الفكري الذي يصر على حصرها تحت أحد العناوين المتعارف عليها، هي ثورة تكاملية، تعيد بناء مفهوم الثورات وتقيم جسورا بين آلياتها، وتبدع توازناتها الخاصة بين تلك الآليات بحيث لا يطغى منها شيء على آخر وتمضي كلها في تناغم بديع نحو النصر والحرية. هي وردة تتفتح أوراقها لترسم لوحة بديعة تسر الناظرين، وجنينٌ يتخلق في رحم التاريخ، يتحول خَلْقا من بعد خَلق، في جيناته رُسمت ملامح صورته الجميلة، لكن من اكتفى بمشهد سطحي يعود بعد مدة لينكر ما يرى ويزعم أن ذلك الجنين الذي يعرف قد ضاع وضل السبيل، أو أنه مات بلا عودة، بينما هو هو، لم يزدد إلا بهاء ونضجا وقوة..
الثورة اليوم بحاجة لرؤية منفتحة تخرج بها من حالة التأزم ومناكفات الرؤى الحدّية نحو أفق أوسع تتكامل فيه العناصر ولا تتنافر، يتفاعل مع الواقع ضمن إطار حاكم من القيم والأخلاق، يبقى فيه السلاحُ أداةً لا هدفا، والحراكُ المدني الأصلَ والموجه والضابط، ويظل مساحةً حرةً للنقاش والتفكر في الحلول والآليات، أفق يستشرف المستقبل وعينه دوما على الإنسان..
ثورةُ الشام ثورةٌ قد تكفل الله بمسارها، وعهد إلينا بالتفاصيل، لنخطئ ونتعلم ونبدع، لنعيد اكتشاف أنفسنا، لنعود كما أراد الله.. أمة الوسطية والشهود ..
وفي التفاصيل يتحدد الشكل النهائي للمشهد.. فهل نكون على قدر الأمانة؟
(إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع