حسان جركس
تصدير المادة
المشاهدات : 7498
شـــــارك المادة
بعض المدن في هذا العالم الواسع تتعدى التعريف التقليدي للمدينة كتجمع بشري وحسب، بل تتجاوز ذلك لتكون سجلاً روحياً وفكرياً وتاريخياً للإنسان. وتغدو هذه المدن مدرسة ملهمة لأبنائها، والذين يتلمسون في ثنايا أحجارها وحواريها القديمة نكهة الماضي بحلوه ومره، ويستشرفون رسم مستقبلهم من تجاربها الوافرة.
هكذا كانت حلب الشهباء لي، مدينتي التي أنتسب إليها وإلى قلب مدينتها القديمة على وجه التخصيص. في أزقتها الضيقة ومن شرفات قلعتها ومن رائحة التوابل العبقة المنبعثة من أسواقها، نسجت أول خيوط اهتمامي بالتاريخ والجوانب الحضارية للإنسان.
حلب، المدينة الأكبر في بلاد الشام وسوريا، نشأت على ملتقى طرق تجارية في قلب الشرق الأوسط حيث مهد الحضارة الإنسانية. تقع شمال غرب سوريا على بعد 310 كم من دمشق. تمنح الكثير من الدراسات مدينة حلب لقب المدينة الأقدم في التاريخ. إذ يعود تاريخ الاستيطان البشري فيها إلى ستة آلاف عام قبل الميلاد. وقد بينت دراسات متقدمة على أن تجمعات بشرية أقامت مخيمات لها في منطقة حلب قبل ذلك حتى بخمسة الاف عام.
هذه الأرقام تجعل حلب أقدم تجمع بشري معروف، تسبق في ذلك حتى توأمها دمشق التي تعد أقدم عواصم الدنيا، ويرد ذكرها قبل بناء أهرامات الجيزة وظهور سلالات الفراعنة بفترة طويلة. تعاقبت على حلب منذ ذلك الزمن السحيق حضارات وعهود مختلفة. كانت عاصمة لمملكة يمحاض التي ازدهرت قبل ما يقرب من أربعة آلاف عام. ومنذ ذلك الوقت تبين أن لحلب دوراً سياسياً واستراتيجياً في المنطقة وأصبحت محط نظر وموقع تأثير في الشرق الأوسط.
توالت على حلب ثقافات مختلفة، و أصبحت لاحقاً محل المد والجزر بين القوى المتصارعة على النفوذ في الشرق الأوسط بموقعها المتميز على طريق الحرير. فشهدت المدينة حكماً فارسياً وهيلينياً ورومانياً، إلى أن وصل إليها مد الفتح الإسلامي في بداية القرن السادس الميلادي. حين دخلها المسلمون بقيادة الصحابي أبي عبيدة بن الجراح فاتحين سنة 637 للميلاد. و منذ ذلك الحين بدأ يكبر دور حلب ويتسع أثره، إذ أصبحت كبرى المدن الإسلامية في شمال دولة الإسلام الناشئة، وقاعدة الثغور الكبرى على خطوط التماس مع الإمبراطورية البيزنطية، وتواصل ذلك خلال العهدين الأموي والعباسي.
كان القرن العاشر للميلاد مفصلياً لحلب ودورها الإقليمي حين أصبحت عاصمة ومقر ملك الدولة الحمدانية. وأطلقت المدينة العنان لازدهار تجاري وثقافي كبيرين. فغدا بلاط حلب محل الأدباء والشعراء والعلماء. يكفي لنا أن نعلم بأن بلاطها كان منصة نزال شعرية بين المتنبي وأبي فراس الحمداني وغيرهم من جهابذة الشعر العربي. كما نبغ من أبنائها علماء كثر وكان للنساء دور في الحركة العلمية. ومن بين الأسماء اللامعة كانت مريم الإسطرلابي، التي اخترعت الإسطرلاب المعقد وهو ما يشبه نظام الملاحة العالمية في أيامنا.
تنامى دور حلب السياسي وأصبح رئيسياً جداً مع اكتساح الحملات الصليبية لبلاد الشام في نهاية القرن الحادي عشر للميلاد. وتعرضت المدينة لحصار صليبي عنيف مرتين إلا أن الصليبيين فشلوا في دخولها. ومنذ ذلك الوقت تبين أنها قاعدة الانطلاق لصد الحملات الصليبية ودحرها عن المشرق. حيث انطلق منها ال زنكي بقيادة الأتابك عماد الدين ليحرروا أول إمارة صليبية وهي الرها. ثم جاء بعده الملك العادل نور الدين زنكي ليوحد منها الشام ويمد العون لمصر.
و كانت حلب المحطة الأخيرة لصلاح الدين قبل انتصار حطين التاريخي ليوحد الشام ومصر بالكامل ويتفرغ للمعركة حتى قال فيها الشاعر:
وفتحكم حلب الشهباء في صفر ... قضى لكم بافتتاح القدس في رجب
ازدهرت حركة العمران والتجارة في عهد الأيوبيين في حلب. بدأ أول تواصل رسمي تجاري بين أوربا و الشرق بقنصلية البندقية في حلب عام 1208 للميلاد. و زادت الوتيرة بشكل أكبر في عهد المماليك، الذين عاشت حلب في أيامهم دوراً عظيماً لإدارة التجارة في الشرق. فأصبحت المدينة قبلة التجار الأوربيين من البندقية وفلورنسا وجنوى وقبرص وغيرها. وقد شهد العهدان الأيوبي والمملوكي كارثة عظيمة لحقت بالمشرق الإسلامي. حيث تعرضت حلب لغزو التتار عدة مرات كان أولها بقيادة السفاح الشهير هولاكو خان والذي دمر المدينة عن بكرة أبيها وتركها أثراً بعد عين. وكان أخرها اجتياح تيمورلنك عام 1400 للميلاد وتدميره المدينة بالكامل وقتل معظم سكانها. ولكون هذه المدينة ذات إرث تاريخي ومكانة كبيرة، استطاعت التعافي بسرعة واستعادة ألقها واهتم السلاطين المماليك بإثرائها بالمباني والأسواق والمساجد والحمامات لتعود إلى سابق عهدها.
مع بداية القرن السادس عشر للميلاد شهدت حلب الكثير من التطورات الكبرى. إذ انتقلت طرق التجارة العالمية من العالم الإسلامي إلى أيدي الأوربيين. وذلك بعد أن تم اكتشاف رأس الرجاء الصالح والالتفاف حول إفريقيا. والحدث الأخر كان انتقال حلب إلى سلطان الدولة العثمانية الصاعدة بقوة، والتي أنهت سلطنة المماليك في مصر والشام وذلك بين عامي 1516-1517 للميلاد.
تابعت حلب لعب أكبر الأدوار التجارية في العهد العثماني وتزايد عدد سكانها بشكل مطّرد. وغدت المدينة الثالثة في الأهمية في الدولة المترامية الأطراف على ثلاث قارات، لا يسبقها في ذلك إلا العاصمة إسطنبول نفسها والقاهرة. ويصف الكثير من المستشرقين حلب في العهد العثماني وما تتميز به من هواء نقي ونظافة رائعة وأبنية جميلة بيضاء مبنية من حجرها الكلسي المتوافر بكثرة. ولم تتنازل حلب عن مكانتها التجارية الكبرى إلا بافتتاح قناة السويس، والتي وجهت ضربة كبيرة للتجارة البرية، وتحولت الطرق عن المرور بحلب كسابق عهدها.
وجدت المدينة في الصناعة بديلاً كبيراً وأوجدت حلاً جذرياً لتحول الطرق التجارية، فازدهرت صناعات النسيج فيها وغدت من كبرى المدن المصدرة للشرق الأوسط وأوربا. وبقيت حلب عاصمة اقتصادية لبلاد الشام حتى دخول الحلفاء إليها وبدء الانتداب الفرنسي عام 1920.
ورغم فقدان المدينة لمجالها الحيوي التجاري شمالاً بضمه لتركيا، أو غرباً بخسارة مينائها البحري في إسكندرون، إلا أنها حافظت بشكل غريب على زخمها كأكبر المدن السورية وأكثفها سكاناً وأهمها اقتصادياً. ولعل هذه الأسباب كانت عاملاً سيئاً اجتذب لها الدمار الكبير في الحرب القائمة حالياً وجعلها في وسط دوامة الصراع بين القوى المتحاربة.
هافينغتون بوست
أسرة التحرير
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة