أحمد نظير الأتاسي
تصدير المادة
المشاهدات : 2566
شـــــارك المادة
في شباط عام 2011 وقبل أن تبدأ الثورة السورية كتبت مجلة فوغ الأمريكية مقالة مطولة عن أسماء الأخرس عقيلة بشار الأسد عنوانها "أسماء الأسد: وردة في الصحراء". السيدة الأولى لسوريا سيدة جميلة، طويلة، رشيقة تتناقل وسائل الإعلام العالمية صور أزيائها المنتقاة ببراعة وذوق والتي صممتها أشهر دور الأزياء في العالم. إنها تتكلم الإنكليزية بطلاقة باعتبار أنها نشأت وترعرعت في بريطانيا، وتعرف كيف تحاور الصحفيين، ولها العديد من النشاطات الخيرية. طبعاً عندما بدا واضحاً خلال الأسابيع الأولى للثورة أن نظام بشار الأسد ليس إلا نسخة شابة عن نظام أبيه خجلت المجلة من نشر هذه الصورة المشرقة لعقيلة ديكتاتور دموي فألغت ظهور المقالة من موقعها على الإنترنت.
هذه الحادثة ليست حالة منفردة لمجلة أزياء تُعنى بأخبار الأغنياء والمشاهير وجدت ضالتها في فتاة غنية مترفة تعيش حياة أميرة شرقية لكن بصورة أوروبية. هذه المقالة في الحقيقة كانت جزءاً من حملة علاقات عامة ضخمة استمرت عدة سنوات لخلق صورة باهرة لبشار الأسد ونظامه. في حالة مقالة فوغ كانت شركة براون لويد جميس الأمريكية للعلاقات العامة هي صاحبة الفكرة. وذكرت بعض الصحف أن أستاذ تاريخ الشرق الأوسط ديفيد ليش المختص بسوريا والذي قابل الأسد الابن عدة مرات نصح الأخير باستخدام شركة علاقات عامة لتحسين صورة النظام في العالم. وليس من المستبعد أن السوق الأوروبية التي حاولت لسنوات جذب سوريا إلى الشراكة الاقتصادية معها وإلى مبادرة المتوسط قد لعبت دوراً هاماً في تلميع صورة الأسد في العالم تمهيداً لمشاركته اقتصادياً. بدايةً لا بدّ من التنويه إلى أن السوريين كانوا مستعدين نفسياً لقبول أية صورة إيجابية لرئيس سوريا الجديد بعد عقود من حكم أبيه الخانق. لقد استبطن الكثير من السوريين تماهي الدولة مع رئيسها. الدولة في نظر كثير من السوريين هي النظام نفسه الذي يقوده شخص واحد. ولا يختلف نظام الحكم حسب هذه الصورة عن أي نظام ملكي استبدادي. لكن ثلاثين سنة من بطش الأب الديكتاتوري الحاكم الأوحد والمطلق أدت إلى اختزال الدولة في أذهان السوريين وفي واقعهم إلى شخص الرئيس وحده. ولذلك لم يحتج النظام من أجل تلميع صورته داخلية أكثر من تلميع صورة الرئيس وحده. وصل كثير من السوريين إلى قناعة مفادها أن عائلة الأسد وحكمها المخابراتي هي قدرهم الذي لا مفر منه، وأن التأقلم معه أسهل بكثير من تغييره. وهذا المنطق هو الأساس في قبول السوريين بصورة الأسد الجديدة على أنها صورة سوريا الجديدة. لا بل إن العديد منهم ظل متمسكاً بإنكار حقيقة الاختلاف بين الواقع والصورة حتى بعد أشهر من قمع النظام لثورة الشعب. فما هي معالم هذه الصورة البراقة التي نجح النظام في رسمها لرئيسه وسوقها على أنها صورة سوريا الجديدة، والتي أعطت بشار الأسد زخماً من الشرعية والولاء الشعبي حتى بعد أشهر من سفك الدماء؟ الشاب المتحضّر: إنه لمن المؤسف أن عقوداً من القومية العربية لم تعطِ السوريين أياً من الثقة بثقافتهم واعتبارها أنها ثقافة "متحضرة" تضاهي الثقافات الأوروبية والغربية، وتستطيع التحاور معها على قدم المساواة والندّية. ولذلك كان من السهل تسويق صورة الشاب المتحضّر (عكس الهمجي الشرقي) لمجرد أن بشار الأسد سكن في بريطانيا. ابن "بطل القومية العربية" يتخلص من وحشية أبيه الشرقية (أو الجبلية) لمجرد أنه سكن في بريطانيا ورأى الغربيين وسمعهم وطبعاً تعلم منهم. علماً أن بشار الأسد سكن في بريطانيا لسنتين فقط، فلو اعتبرنا فرضاً أن بريطانيا هي بلد التحضر وأن قاطنها سيتشرب حضارتها فهل يا ترى تكفي سنتان ليتحول من متوحش إلى متحضر؟ وهل يكفي أنه تكلم الإنكليزية لسنتين حتى تتغير عقليته وعقلية وسطه؟ وهل من المعقول أن زواجه من بريطانية سيجعله حكماً من "عشيرة البريطانيين"؟ طبعاً لم يكن من المعقول أن يتزوج زعيم "القومية العربية" من بريطانية "قحة"، فوجد لنفسه بنتاً "سورية" أو "من أصول سورية" وكأن الأصل لا يترك الإنسان ولو عاش حياته كلها في مجتمع آخر. السوريون يتعلقون بقشة ومستعدون للاقتناع دون كثير عناء بأن ابن حافظ الأسد المتوحش لو فقد 20% من وحشية أبيه خلال سنتين من الاحتكاك مع "المتحضرين" الأوروبيين فسيكون من الممكن العيش تحت حكمه. طبيب العيون: ذكر بشار الأسد في عدة مقابلات أنه اختار طب العيون لأنه علم دقيق ولا دم فيه. لا أحد يعلم كيف وصل بشار الأسد إلى كلية الطب ولا كيف نجح في امتحاناتها، لكن لا أحد يريد أن يعرف أيضاً. الكل قبِل بأن الطبيب يساوي الذكاء والرقيّ والحضارة. أضف إلى ذلك أنه ليس طبيباً جراحاً متعود على التعامل مع الدم وشق الجلود وكسر العظام، لأن صورة الطبيب الجراح ستُعيد إلى الأذهان صورة الأسد الأب الدموي الذي لا تهتز مشاعره لرؤية الموت والدماء والأشلاء المقطعة. ويبدو أن بشار الأسد قد أقنع حتى نفسه بهذه الصورة وأراد نشرها. إنها صورة الشاب الذكي المنطقي الذي دخل كلية الطب وأتم سنواتها الستة بجهوده وخرج للتخصص في بريطانيا ككل السوريين، لا بل اختصار الاختصاص الأبعد عن الدم كي لا تتم مقارنته بأبيه الدموي حتى في اللاوعي. طبعاً كلنا يعرف بشار الأسد المتحذلق المتفلسف الذي يعتقد بقدرته العجيبة على التحليل والإقناع والتفكير المنطقي. هذا هو تصوّره عن نفسه، وهذه هي الصورة التي أراد أن يُقنع بها العالم. زعيم الإصلاح: منذ خطاب القسم بعد أشهر من وفاة الأب وحين تولى الابن بمسرحية دستورية مهزلية وعد بشار الأسد بالإصلاح. رفع صور الأب من الشوارع ورفض وضع صوره (طبعاً لفترة لم تزد عن سنة قبل أن يقضي على ربيع دمشق). هذا الرئيس المصلح اعترف بأن عهد الأب كان مليئاً بالأخطاء وأن الإصلاح حاجة ماسة لسوريا، لكن دون تسرع لأن البلد فسيفساء معقد ولم تعتد على الديمقراطية فلا بدّ إذن من الحقن البطيء لعقار الديمقراطية في هذا الجسد "المتخلف" و"الطائفي بطبعه". منذ بداية ولايته أحاط بشار الأسد نفسه بعدد لا يستهان به من المستشارين المختصين واللامعين من أبناء سوريا الذي قضوا شبابهم في المغترب يحصلون العلوم والخبرات المختلفة، وطبعاً بسبب بطش أبيه، وكعادة النظام السوري المخابراتي فإنه يحول هواء التنفس إلى إشاعات إيجابية أو سلبية حسب الحاجة. السوريون يقنعون بالإشاعات فكيف إذا بدت وكأنها حقيقة؟ فريق الخبراء لم يلبث أن انفض عنه. وحتى العمل الهائل الذي وضعوه في رسم خطط مستقبلية انتهى في سلة المهملات. لكن الناس لم تستفق من الحلم لأن سوريا انتعشت اقتصادياً منذ هجرة العراقيين بدءاً من عام 2004 إليها ومن تدفق الرأسمال الخليجي والمغترب كما بينا سابقاً. ابن المدينة وخريج اللاييك والسني بالزواج: صحيح أن حافظ الأسد كان طائفياً في كل فكرة من أفكاره إلا أنه لم يكن فخوراً بأصله الجبلي العلوي. كان ما يعتقده "التفوق السني" يؤرقه، لكن "الريفية العلوية" لم تكن البديل عن التفوق السني لأن حافظ الأسد كان يكره ثقافته الريفية العلوية. لقد أجبر العلويين على التخلي عن كثير من مقوماتها، فهو لم يعترف بهم كمذهب مستقل فاستجدى الاعتراف من موسى الصدر اللبناني بأن العلويين مجرد فرقة من الشيعة الاثني عشرية (رغم أن الشيعة الجعفرية كفّرت العلويين مرات عديدة). وهو ألغى أوقافهم المستقلة ومحكمتهم الشرعية المستقلة ودمجهما بوزارة الأوقاف. لم يكن أحد طوال حياة الأب يجرؤ على ذكر اسم العلويين، حتى العلويون أنفسهم كانوا يتحرجون من ذكر اسم طائفتهم. وتابع الابن على نفس الطريق فهو "ابن المدينة" وخريج "مدرسة اللاييك" المتفرنسة، وكل أصدقائه من أبناء العائلات الشامية السنية المعروفة، وحتى زوجته انتقاها من عائلة سنية حمصية مما أغضب كثيراً من العلويين. لكن لأسماء الأسد ما يشفع "سنيتها"؛ فهي "بريطانية" أي أن "حدية سنيتها مكسورة" بسنين من العيش في بلد "الحضارة والتسامح". إله التكنولوجيا ورب الإنترنت: ربط الأسد الأب ابنه منذ بداية تحضيره للوراثة بالإصلاح والتجديد (أي بوعود الإصلاح والتجديد، على طريقة الشائعات). شائعات الأمل تعطي السوريين ما يصبًرهم لسنوات. وليس أفضل من التكنولوجيا صورة للأمير الشاب المصلح. ارتبط اسم بشار الأسد بالجمعية المعلوماتية السورية، بوابة التكنولوجيا في مملكة الصمت والانغلاق. وباسمها وباسم بشار الأسد بدأ تشغيل شبكة الإنترنت في سوريا حوالي عام 1998، طبعاً بعد حصرها بالدولة وشراء برامج التجسس المناسبة. رجل الأسرة: قال بشار الأسد في إحدى المقابلات التي أجراها وهو يقود سيارته بنفسه في شوارع دمشق بأنه يخرج مع الزوجة الأولاد للعشاء خارج البيت بعد استشارة الأولاد، فالقرارات في بيته ديمقراطية تتخذ بالاستفتاء والتصويت. طبعاً الرئيس لا يختلف عن أي مواطن سوري فهو يقود سيارته بنفسه وزوجته إلى جانبه ولا تصاحبه سيارات الحراس، ويخرج للعشاء مع من أراد وبطلب من أسرته أيضاً؛ لأنه يملك الوقت الكافي ليكرسه لهم. ونرى طبعاً صورته وهو يقود الدراجة الهوائية مع الأسرة، وصورته وهو يلعب مع أطفاله، إنه مجرد إنسان عادي. الافتراض الذي يقبله الجميع هنا في هذه المقولة هي أن التوريث الذي رسم له الأب مصير لا يمكن التراجع عنه وقرار إلهي لا تجوز المجادلة فيه. السيدة الأولى: رغم الإشاعات حول النزاعات الأسرية بين "الحماية العلوية المسيطرة" و"الكنة السنية المتطورة"؛ فإن أسماء الأسد أخذت لنفسها مساحة واسعة تحت الأضواء. إنها الحسناء التي تحجب الوحش وتجعل صورته جميلة وذِكره جميلاً. إن جزءاً هاماً من أسطور الأسد الشاب المصلح تتمحور حول زواجه من هذه الحسناء البريطانية لكن السورية والسنية لكن البريطانية. أسماء الأسد ترعى الأيتام ويتراكضون حولها لعناقها فهم معتادون على زيارتها. وأسماء الأسد "وردة في صحراء" سوريا القاحلة "المشرقية العربية" و"الأسدية". إنها العطر الذي يُخفي رائحة العفونة. أصبحت أسماء الأسد أم السوريين تناديها النساء لتنقذهم حتى من بطش زوجها. إنها أم الأيتام الرحيمة. وحتى بعد أن تحطمت أسطورة الأسد المصلح بقية صورة السيدة الأولى الرحيمة الواقعة تحت سيطرة عائلة الأسد المتوحشة باقية لأشهر عديدة.
المصدر: المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية
عابدة فضيل المؤيد العظم
محمد علي الصابوني
إبراهيم حمامي
خباب الحمد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة