..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

عندما يفسد ضمير الأمة

محمد الغزالي

٢٨ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2662

عندما يفسد ضمير الأمة
8.jpeg

شـــــارك المادة

قد يرتكب الفرد هفوة يسيرة، ثم يقلع عنها وينجو من عقابها، وقد يقع في ورطة تفسد عليه حاضره ومستقبله جميعاً.. والجماعات في ذلك كالأفراد قد ترتكب إثماً خفيفاً فتمر به، وتتخلص من آثاره، وقد تقع في ورطات عسرة تفسد عليها يومها وغدها وتحبط عملها في الدنيا والآخرة.

 


إن الشر مراتب وآثاره متفاوتة، وأقل الأخطاء فكراً ما لحقته يقظة الضمير وسرعة الندم، وما أعقبته توبة ترقع الخرق وتداوي الجرح، وأشدها سوءاً ما صحبه الإصرار العنيد وانضم إليه إخراس الأصوات الناصحة، وإخماد أنفاسها، ثم المضي في طريق الغواية دون الاستماع إلى واعظ يردع أو ناقد يجأر، وقد كان ذلك دأب اليهود قديماً فقال الله فيهم: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}.
وبذور الشر تنبت في أكناف المجتمع أول الأمر مخالفات محدودة الخطر محصورة الشأن، ولكنها مع الإهمال والاستهانة لا تزال تنمو وتغلظ حتى يفسد ما حولها، كالنبات الشيطاني عندما يترك فيكثر فيلتهم ما حوله، وملاحظة تاريخ الأفراد والمجتمعات تنطق بهذه الحقيقة. وذلك هو السر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي بوأد الشر في مهده عندما يقول: ((اتبع السيئة الحسنة تمحها))، أي لا تنتظر ولا تتمهل بعد وقوع الخطأ بل أسرع إلى مداواته قبل أن يستفحل ضرره.
ومع هذا الإرشاد الواعي نجد إنذاراً آخر لمن يؤثرون الاسترخاء والتباطؤ، فإنهم قد يغترون بالإمهال الإلهي فلا يفكرون في متاب أبداً، وهنا نسمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته... وتلا قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102])).
ذكر «ابن كثير» في تاريخه «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له (أرميا) حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون، وأعيناً ولا يبصرون، وآذاناً ولا يسمعون، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم، إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها، وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أخبارهم فأنكروا حقي، وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا عليّ وعلى رسلي، وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيوشاً لا يفقهون ألسنتهم ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب، ومواكب كأمثال الفجاج، كأن خفقان راياته طيران النسور، وكأن حمل فرسانه كر العقبان يعيدون العمران خراباً ويتركون القرى موحشة».
وقد حاول اليهود أن يخدعوا الله ببعض الطاعات المغشوشة، وأن يتخلصوا من الهوان الذي نزل بهم اصطناع توبة سهلة، توبة تجعلهم يلبسون ثياب التقوى على كيان من الكنود.
والمنافق يستطيع أن يقوم ببعض الصلوات والمرائي يستطيع أن يأتي بعض الصدقات، لكن قلبهما بعيد عن اليقين، وفكرهما غريب عن الحق، ولذلك جاء فيما أوحى الله لعيسى بن مريم –عليه السلام- على ما روي ابن كثير: «وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم تقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا، فقل لهم: ولم ذاك وما الذي يمنعني؟ أو ليس خزائن السماوات والأرض بيدي أنفق منهما كيف أشاء؟ أو لست أجود من سئل وأوسع من أعطى، أو أن رحمتي ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي.
ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التي تورث قلوبهم استحباب الدنيا على الآخرة لعرفوا من أين أتوا.
وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، كيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام؟ وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربونني ويستحلون محارمي؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء، ازددت عليهم غضباً»..
إن تاريخ هؤلاء الناس ملآن بالعبر والمثلات، وجدير بنا أن نتدارسه ونستفيد منه.
فنحن العرب الأمة الوارثة للوحي الإلهي الأخير، كلفنا أن نعمل به، وأن ندعو غيرنا إليه، أو بتعبير آخر: كلفنا أن نصوغ أنفسنا في قالبه صياغة جميلة معجبة. وأن نغرى الآخرين باتباعنا واقتفاء آثارنا والنسج على منوالنا... وقد نجح آباؤنا الأوائل في ذلك المضمار فكانوا في العالم الذي لم تنقض ذكرياته طليعة حضارية رائعة.. ثم تسللت إلينا علل الأمم البائدة. فطوت راياتنا بعدم أزدان بها الأفق دهراً طويلا. وانسحبنا من الميدان بغير نظام. وخيم على العالم الإسلامي أجمع سكون البلى والضياع.. ثم بدأت طلائع دورة تاريخية أخرى شق طريقها رجال من أمثال جمال الدين الأفغاني أرادوا أن ينفخوا الحياة في الأمة الهامدة. وأن يذكروها برسالته الخالدة.
وليس عجيباً أن تكثر العوائق أمام هذا النهوض الواجب؛ فإن عداوة الحق قديمة قدم الشيطان نفسه، ومذ خلق الله آدم ومكن في الأرض ذريته، قال إبليس لله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. وهذه الخصومة الأزلية للحق هي التي جعلت أعداء الإسلام يكنون له الحقد الدفين ويثيرون عليه الشر المستطير، وقد أنبأنا الله -تبارك اسمه- بحقيقة هذا الموقف حتى نحسن الإعداد له ولا نؤخذ على غرة من قبله، فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]. والارتداد الشامل قد يكون سوءة مخزية لا يرضاها لنفسه إلا امرؤ مهين يقبل الانسلاخ عن دينه جملة وتفصيلاً. ولا حديث لنا مع هؤلاء..!! إنما الحديث مع نفر آخر من المسلمين تعرف منهم وتنكر! يخلطون البدع بالسنن والحسنات بالسيئات والمعاصي بالطاعات. يأخذون من الدين ما يعجب، ويتركون ما ينبو عن أذواقهم المريضة... مع أصحاب هذه السيرة المضطربة نريد أن نقف طويلاً لنقول للقوم إن الله -جل جلاله- لا يعامل بهذه الطريقة. ولا يؤوي أمة تعبث بوحيه هذا العبث... وقد روي لنا ابن كثير كيف دعا اليهود وبكوا!! وهيهات؛ {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدُخان: 29]. المجتمع المؤمن يعرف معرفة جيدة مثله العليا، ويسير نحوها بثبات، وقد يفرط بعض أفراده في واجباتهم بيد أن هذا التفريط الفردي لا يعدو أن يكون على جزئية لا تظهر حتى تخفي، ثم سرعان ما تغلب روح المجتمع الجاد روح الفرد الماجن.
فتمضى القافلة كلها إلى غايتها المرسومة. إن أجود البيئات صحة لا تخلوا من أفراد قد يصابون بالحميات المهلكة. وهذه الإصابة لا ينكر وقوعها، بل تسجل في إحصاءات متداولة، وتسجل معها كذلك كيف عالجت البيئة السليمة بعض أجزائها حتى صح أو هلك، ليحل محله أقوى وأفضل. إننا نريد أن ندفق في حماية الكيان العام للمجتمع.
وأن نجعل الضمير العام للأمة حساساً بما يؤثر في صفاته من خير أو شر. وقد سقنا من أحوال بني إسرائيل القدامى ما يستحق التقليب والاستنباط، والعبرة المستفادة من هذا التاريخ أن يتيقظ الدعاة والمرشدون إلى بذور الفتنة ومغارس الجريمة.
يقتلونها في مهدها حتى لا تقتلهم عند اشتدادها. إن الحرص على النوافل قد يكون سياجاً للحفاظ على الفرائض. وفي ذلك يروي أبو داود عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهدى.. وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه، وما منكم عن أحد إلا له مسجد في بيت، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم". وشرح هذا الكلام أن ابن مسعود - رضي الله عنه - يخشى أن نتعود ترك الجماعة فيجر هذا إلى ترك الصلاة نفسها، ثم ينتهي الأمر بالنكوص عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الانسلاخ من الإسلام جملة. والذي يلاحظ سير الآداب العامة، وأسلوب الخروج على الفرائض والآداب يتأكد من صدق هذه الملاحظة.
إن المرض المجهز قد يبدأ صداعاً تافهاً.. نسأل الله المعافاة..
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،،،

المصدر: رابطة العلماء السوريين، نقلاً: مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، ذي القعدة 1389هـ، السنة 24.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع