..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

اغتنموا أوقات الأعمار يا أولي الأبصار

حسن السبيكي

٥ ديسمبر ٢٠١٩ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3264

اغتنموا أوقات الأعمار يا أولي الأبصار

شـــــارك المادة

يقول الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ . قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:112-115]. ما أحوج الإنسان إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما بث الله فيها من آيات ربوبيته ووحدانيته وبديع صنعه، وهو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل من الآية:88]، ومن عجائب الخلق، وبديع صنعه؛ هذا الزمن الذي تنطق به حركات الكون كله في دوران الأجرام السماوية في أفلاكها، وفي تعاقب الليل والنهار، وتتابع الفصول، بل حتى في دقات قلب الإنسان كعداد ينطق بقيمة الوقت، ويحصي لحظات عمره بطريقة العد العكسي:

 دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له *** إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثوانِ

إن الوقت من نعم الله العظيمة، يتكرم فيه المولى سبحانه على العباد بفرص العمر الغالية، لعلهم يغتنمون الحياة الدنيا الفانية من أجل الفوز بنعيم الحياة الأخروية الباقية، فالعمر أوقات، أيام، وشهور، وسنوات، والوقت أثمن من الذهب والمال، لأن المال قد يعوض أو يستعاد، لكن الوقت من حيث يمضي لا يعود، إنه وعاء العمر والحياة، من اغتنمه فقد اغتنم عمره وحياته، ومن أضاعه خسر الدنيا والآخرة يقول الحسن البصري رحمه الله: "أيها الإنسان! إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك"، وبلسان الشاعر:

وما المرءُ إلَّا راكبٌ ظهرَ عُمُرِه *** على سفرٍ يُفنيهِ باليومِ والشَّهرِ

يبيتُ ويَضحى كلَّ يومٍ وليلةٍ *** بعيدًا عن الدُّنيا قريبًا إلى القبر

وفي غفلة من الناس، وهم بالآمال متعلقون، وعلى حين غرة؛ يأتيهم الأجل المحتوم، وحينها يتنبهون من غفلتهم، ليدركوا قيمة أوقات الأعمار الضائعة، ويستجدون الفرص الإضافية لعلهم يتداركون، لكن هيهات لما يأملون، فالجواب القرآني جاهز وصارم: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11]، وقوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100]، وتزداد الحسرة والندامة يوم القيامة، وقد أزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين، هنالك يدعو المضيعون لأوقات أعمارهم الدنيوية بالويل والثبور، وهم في النار يصطرخون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر من الآية:37]، أما أهل الجنة فليسوا يتأسفون، وهم في النعيم المقيم، إلا على ساعة من الدنيا لم يكونوا لله تعالى فيها من الذاكرين. إن العمر مهما امتد وطال ليس إلا لحظات زمنية عابرة، ولكنها فرص ثمينة، قد أفلح من اغتنمها وهو حازم عاقل، وقد خاب من أضاعها وهو واهم غافل، يذكر في باب الموعظة أن: "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا أَطْوَلَ النَّبِيِّينَ عُمْرًا كَيْفَ وَجَدْتَ الدُّنْيَا وَلَذَّتَهَا؟ قَالَ: كَرَجُلٍ دَخَلَ بَيْتًا لَهُ بَابَانِ، فَقَامَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ هُنَيَّةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الآخَرِ" (ابن أبي الدنيا؛ الزهد؛ رقم: [358]). إن الوقت في حياة المسلم أغلى وأثمن، لِما يعلم من قيمته في دينه ودنياه، وقد اهتم به الإسلام، وأولاه عناية كبيرة، حسبكم أن الله تعالى أقسم في كثير من الآيات بظواهره المختلفة تنبيهًا إلى عظيم شأنه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ} [الليل:1]،  {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2]، {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2]،  {وَالضُّحَىٰ . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ} [الضحى:1-2]، بل ربط الإسلام كثيرًا من العبادات والقربات بأوقات زمنية مخصوصة في الصلاة والزكاة، والصوم والحج، والنوافل والأذكار وغيرها. والمسلم يعلم أنه لن يدرك الجنة إلا بحسن استثمار فرص العمر بكل أوقاته وأحواله فيما يرضي ربه، لأنه عن كل ذلك سوف يسأل، كذلك يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (جامع الترمذي، عن أبي برزة الأسلمي؛ برقم: [2417]). إنه من السفه والغفلة إتلاف الوقت وتبديده، فذلك أشد وأوخم من إتلاف المال وتبذيره، فكل وقت ضائع هو خسارة لجانب من مطالب الدين والدنيا والآخرة. ومن المؤسف المؤلم أن تجد المسلم اليوم أكثر إهمالًا وتبذيرًا وتبديدًا لأوقات عمره الثمينة، وهو على علم ويقين بما ينتظره ليوم القيامة، تلك حال كثير من المسلمين الذين يبيدون الساعات الطوال في المقاهي والملاهي، وألوان الفرجة في الأفلام والمباريات والسهرات، وحول موائد الورق والشطرنج وغيرها.. لاهين عن ذكر الله، وعن الصلاة، متقاعسين عن صالح الأعمال للدنيا والآخرة، وإذا كان لا مانع من قسط الترفيه والترويح بالضرورة فهو في غير إفراط ولا تفريط (وهذا موضوع آخر)، لكن المسلم العاقل الحازم الذي يتوق إلى رضا الله ورضوانه؛ يعلم أن طريق ذلك جد وعمل، واجتهاد ومثابرة، واغتنام الأوقات بما يرضي الله تعالى من الصالحات، وفعل الخيرات، فيبادر ويسارع قبل انصرام العمر، وحلول الأجل، عاملًا بأمر الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ومدركًا أن الدنيا مزرعة الآخرة:

لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا *** إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَبْنِيهَا

فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طابَ مَسكَنُها *** وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا

ومن النعم العظيمة التي يغفل عنها الغافلون: نعمة الصحة والفراغ، يجهلون قدرها، ولا يؤدون شكرها، وهي فرص الأوقات التي تخلو من المشاغل والمعوقات المانعة من العمل للدين والدنيا والآخرة كما في الحديث النبوي الصحيح: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [6412]). والغبن في التجارة خسران يبعث على الحسرة والندم، لكنه مع ضياع فرص العمر الزمنية أشد حسرة وألمًا، فماذا ينتظر من آتاه الله الصحة والعافية، والفرص الزمنية المواتية، بغير شاغل ولا مانع، كي يغتنم ذلك في جد العبادة والعلم، والعمل وفعل الخيرات، وما أكثر النادمين الذين يعيشون على الحسرة لما ضاع منهم زمن القدرة والاستطاعة، وقد أصبحوا عاجزين مقعدين بالمرض أو الشيخوخة أو الموانع العديدة، ولسان حالهم يقول:

فيَا لَيتَ الشّبابَ يَعُودُ يَوْمًا *** فأُخبرَهُ بمَا فَعَلَ المَشيبُ

إن الفراغ لا يبقى فراغًا أبدًا، فلابد أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، وقد كان السلف الصالح يكرهون للمرء أن يكون فارغًا، لا هو في أمر دينه، ولا في أمر دنياه، وبذلك تنقلب نعمة الوقت والفراغ نقمة وندمًا على كل خامل مضياع، وما أشد خطر الفراغ، والشباب، والمال وعواقبها على عابدي الأهواء والشهوات {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]:

إن الشباب والفراغ والجِدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

إن المسلم العاقل العامل يغتنم فرصة، ويتحرك بجد وحزم وعزم لملء أوقات عمره بالطاعات، والقربات، وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربة وجنات النعيم، كما هو مأمور في كتاب الله، وسنة رسوله، وهذا تحضيض من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع، والمعوقات، والفتن: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْظِرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ، فَشَرُّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» (جامع الترمذي عن أبي هريرة؛ برقم: [2492]). إن استغلال الأوقات يتطلب التخطيط والتنظيم، ومراعاة أنسب الأعمال لأنسب الأوقات، فليست كل الأعمال صالحة لكل زمان. قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما لما استخلفه: "واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار". ومن الآفات القاتلة للأوقات، المانعة من حسن تدبيرها واستغلالها: الغفلة التي تغشى العقول والقلوب والعزائم: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف من الآية:28). والتسويف، وهو مرض التأجيل، وترك المبادرة والتعجيل، وفي الحكمة المشهورة: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وطول الأمل بغير عمل {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]. وتبرير التقاعس والكسل، وسب الدهر والزمان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ» (صحيح مسلم؛ برقم: [2246]). وفي مثل صيني: "أن تشعل شمعة خير من أن تسب الظلام". ويقول ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل". نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وسنة نبيه الكريم، وأجارنا من عذابه المهين.. آمين   الخطبة الثانية: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (المستدرك؛ برقم: [7941]). توجيه حكيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام النعم الربانية الخمس، وهي فرص ثمينة في حياة المسلم الحريص على التزود من دنياه لآخرته: نعمة الشباب، وهو فرصة القوة والحيوية، وطوبى لشاب نشأ في عبادة الله. ونعمة الصحة والعافية، وهي فرصة القدرة والاستطاعة من أجل العمل قبل عوامل العجز. ونعمة الغنى وهو فرصة القدرات المادية لفعل الخيرات. ونعمة الفراغ وهو فرصة الزمن المتاح للعمل قبل المشاغل والفتن. ونعمة الحياة، وهي الفرصة الكبرى في دار الدنيا قبل الرحيل إلى الآخرة، فطوبى لمن تزود منها بخير الزاد {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} [البقرة من الآية:197]. نعم عظيمة، وفرص مواتية، وثروة زمنية غالية، جدير بكل عاقل أن يستثمرها بحسن التفكير والتدبير، والطريق إلى ذلك أربعة أمور: أولها: تنظيم الوقت بحسن التخطيط والبرمجة. وثانيها: تحديد الأهداف بدقة حتى لا تستهلك الأوقات هباء. وثالثها: تحديد الأولويات حتى لا تضيع الأوقات الثمينة في الأمور الثانوية. ورابعها: المراقبة والمحاسبة بشكل دقيق لما يصرف من الأوقات اليومية. فيا أيها الإخوة المؤمنون: اغتنموا فرص أعماركم، واملأوا أوقاتكم بما فيه خير دينكم ودنياكم، واحذروا آفات التبذير للأوقات، وتذكروا أن الدنيا مزرعة للآخرة، وليس بعدها من دار إلا الجنة أو النار، واذكروا قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات:37-41].
 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع