..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

"قل أذن خير لكم"

أمير سعيد

١٠ ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4110

شـــــارك المادة

كسائر المنافقين على مر الزمان، يصم بعضهم أهل الخير بأوصاف مشينة، ويسخرون من شيمهم الرفيعة، محيلين المحامد مذاماً، والمناقب نقائص. وسيظل هذا سلوك المنافقين إلى قرون قادمة من بعد تلك الحادثة، لكن هذه المرة كانت مع خير البشر صلى الله عليه وسلم، ليعلم كل ذي لُب أن ليس للنفاق حدود، وليس له رادع من ضمير أو كابح أخلاقي يردعه خلق صاحب الخلق العظيم، الذي شهد الله له سبحانه وتعالى بعظمة خلقه من فوق سبعة أرقعة.

 

أتى النموذج، لأولئك الأفاقين الذين لا ينتهون أبداً مهما كان الخصم شريفاً بل أشرف خلق الله عز وجل، ليبصر أمة، أن هذا النموذج سيتكرر ويتكاثر، فلا يعجبن أحدٌ من تكراره، ولا يتخذ حياله منهجاً مغايراً. فهذا هو المنهج الحق في التعامل مع أمثال هؤلاء المنافقين يتمحض من خلال هذا المشهد الذي حكاه القرآن وبين فيه منهجه.

﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 61]

 

ففي واحدة من مجالس الشر والنفاق، كان بعض هؤلاء يبثون سمومهم دون خشية من أن يصل صوت نفاقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن إسحاق بن يسار: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا أدلم، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوه الخلقة (أي طويل أسود مسترخي الشفتين يميل لون خده للحمرة والسواد)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث}، وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه، فنقول ما شئنا، ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عطية: "روي عن الحسن البصري ومجاهد أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم: "هو أذن" أنه يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله، أي: فنحن لا نبالي عن أذاه، ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة معه أنهم أرادوا بقولهم: ﴿ هُوَ أُذُنٌ ﴾ أنه يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشكك منه ووصف بأنه تسوغ عنده الأباطيل والنمائم".

 

والحال هذا ديدن المنافقين دوماً، إذ يرون في الرحمة ضعفاً، وفي سلامة الصدر سذاجة، وفي التغافل غفلة، لكن الحقيقة أن المنهج الرباني الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه الخير لكلا الطرفين، أهل الإيمان وأهل النفاق، فالمنافقون كان لهم ذلك فرصة لمراجعة ذواتهم، والنجاة من عقوبة الخيانة وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون كان لهم هذا المسلك طمأنينة ورحمة.

 

ولهذا، كان هذا المنهج نجاة وفلاح لهذه الأمة التي يقودها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فلقد حافظت هذه الطريقة على بنية المجتمع دون تخلخل أو ظنون أو فتح الطريق لكثرة الوشايات والدسائس، وفي ذات الوقت لم تسمح للمنافقين بأن يكونوا أهل قرب وثقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يحاسبهم ولكنه في ذات الوقت لم يقربهم أو ينخدع بهم، وإذ ظنوا أنهم يخادعون الله فكان الله خادعهم، يقول رشيد رضا: "وقد لقنه الله تعالى الرد عليه بقوله: قل أذن خير لكم أي: نعم هو أذن ولكنه نعم الأذن؛ لأنه أذن خير لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الحق وما وافق الشرع، وما فيه الخير والمصلحة للخلق، وليس بأذن في غير ذلك كسماع الباطل والكذب والغيبة والنميمة والجدل والمراء، فهو لا يلقي سمعه لشيء من ذلك، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله، ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه شرعا أو عقلا، كما هو شأن من يوصفون بهذا الوصف من الملوك والزعماء فيستعين المتملقون وأصحاب الأهواء به على السعاية عندهم؛ لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم ، وحمله على إيذاء من يبغون إيذاءه".

 

أي أنه لو كان أذناً يسمع لكل أحد، لكان أولاً قد ضرب أعناق المنافقين، ولكان اشتبه ببعض أهل الخير مما قد يختلقه المتملقون عليهم ثانياً، ولما ترك لمن في قلبه مرض فرصة للتوبة والإنابة ثالثاً، ولكانت الثقة قد اهتزت كثيراً في الصف المسلم برمته رابعاً. يقول أبو حيان الغرناطي: "ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله، ومن آمن بالله كان خائفا منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل، ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، أي: يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون، ويصدقهم لكونهم مؤمنين، فهم صادقون. و﴿ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين؛ لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم. وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية، ومظهرة كونه أذن خير".

 

إن هذا هو لمحض الاعتدال والوسطية في التعامل مع أقاويل كهذه تصل إلى مسامع القائد، وهي محل مدح لا مذمة كما يظن المنافقون المتبجحون، يقول الرازي: "المعنى: أن من كان موصوفا بهذه الصفات، فكيف يجوز الطعن فيه، وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار؟! (أو): هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم؛ لأنه يقبل معاذيركم، ويتغافل عن جهالاتكم، فكيف جعلتم هذه الصفة طعنا في حقه؟!".

 

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الظواهر لا ينخدع بذرائع المنافقين، لكنه يطبق منهجاً فريداً يحد من شرور المنافقين، ولا يرفع مقاماتهم، ويأخذ بشهادات المؤمنين ويعتبرها في ذات الوقت، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: "أخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم".

 

ولقد ظن المنافقون أنهم يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتنقصون منه؛ فكانت الآية التي جمعت بين النبوة والرسالة ﴿النَّبِيَّ﴾ ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ تبياناً لأن هذا الذي يظنونه – استخفافاً وتنقصاً – إنما هو عين الحكمة وعبقرية القيادة وقمة الأخلاق. فالقائد لأي فريق أو حزب أو جيش أو دولة لابد أن يحذو حذو هذا المنهج ويسير بهذا الطريق. هذا الطريق أفرز أبا بكر وعمر في المقدمة، وجعل ابن سلول ونبتل في ذيل السائرين، يخادعون الله وهو خادعهم.

 

وما أروع أن يحتذي كل من يتصدر ركباً هذا الخلق وهذا السلوك، الذي يقود إلى إفراز حقيقي للأنصار، يضع الناس في مقاماتهم الحقيقية، ولا يسمح بتطاول منافق أو تطلعه إلى غير منزلته، كما لا يتجاهل أهمية الاستماع إلى أهل الإيمان والصدور عن مشورتهم. "أذن الخير" هي إذن صفة كل قائد يستمع لأهل الإيمان ويقربهم ولا ينعزل عنهم، ويبعد أهل الشقاق والنفاق ويجنبهم، برغم تعاملهم معهم بظواهر أفعالهم. إن واحدة من أخطر أسباب تراجع هذه الأمة هو في تجاهل هذا المسلك القويم، فطفت بطانات من غير المخلصين وتوارى الأوفياء حين اختلت الموازين.

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع