إبراهيم الحسون
تصدير المادة
المشاهدات : 4006
شـــــارك المادة
في زمن خرج فيه العرب فيما سمي بالربيع العربي يبحثون عن حريتهم، وكرامتهم، ينشدون العدالة التي كانت عماد حضارة أجدادهم، كان لابد لنا من البحث في خصائص هذه الأمة، وماهي القوة التي يمكن أن تنهض بها من جديد.
بدأت فكرة كتابة هذا المقال بعد نقاش في إحدى مجموعات التواصل الاجتماعي حول الانتفاضة الإيرانية، حيث شارك أحد المتحاورين كلاماً لمريم رجوي معرّفاً بها كرئيسة المعارضة الإيرانية، فكان التعليق من أحد الأفاضل: لم لا يكون للثورة السورية قائد كما للمعارضة الإيرانية قائد؟
هذا السؤال كان يتردد على ألسنة كثير من السوريين منذ بداية الثورة، واختلفت التبريرات له بين أن هذا أفضل للثورة بحيث يصعب التحكم بها والسيطرة عليها من خلال القيادة، أو أن هذا التفرّق كان بسبب تدخل المجتمع الدولي، مع حجج أخرى كثيرة ليس هذا مقامها.
لكن طرح هذا السؤال بعد الحديث عن المعارضة الإيرانية في معرض المقابلة جعلني أتأمل: هل يمكن أن يكون سبب ذلك العرق والجنس والقومية؟ عندها تذكرت كلام ابن خلدون حيث يقول في الفصل السابع والعشرين من مقدمته:
"باب في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لـخُلُقِ التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكِبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم ... وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبُعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات". انتهى كلامه
اذكر أني في بداية الثورة السورية كنت قادماً من ريف حلب الشمالي إلى ريف إدلب برفقة أحد ضباط الجيش الحر -تقبله الله في الشهداء- فكان طريقنا عبر عفرين، وعند دخولنا عفرين وجدنا حاجزاً لعصابات حزب العمال الذين يسمون أنفسهم "وحدات حماية الشعب"، أوقفَنا الحاجز قليلاً وبعد بعض الأسئلة طلب منا أحد عناصره مرافقته حتى نهاية منطقة نفوذه. ما لفت انتباهي التنسيق العالي بين عناصر ذلك التنظيم؛ حيث كان واضحاً أنهم يأتمرون بأمر رجل واحد.
ثم جاءت مرحلة سيطرة داعش على شرق سورية ليخبرني مَن حضر من هناك عن القدرة الفائقة في السيطرة على مكونات التنظيم رغم المساحة الشاسعة التي سيطر عليها.
ما يجمع بين الأمرين هو قدرة شخص أو مجموعة على توحيد كل هذه الأعداد من البشر والتحكم بها، مع أن الجميع يعيشون في منطقة واحدة؛ فما الذي جعل هذه المجموعات متماسكة متوحدة في حين أن مجموعات الجيش الحر ومكونات الثورة إجمالاً متفرقة متناحرة؟
هنا نعود لكلام ابن خلدون وهو: هل يمكن أن تعود المشكلة لجنس القوم المعنيين بهذا السؤال؟
هل يمكن أن تكون قدرة مريم رجوي وصالح مسلم على توحيد أتباعهم هو كونهم ليسوا عربا؟
ظهر هذا جلياً في الفرق بين العرب وغيرهم في مسألة الانقياد للقيادة، ورأيته عياناً يوم الانقلاب الغاشم الذي قام به فتح الله غولن في تركيا؛ حيث كنت حينها في قلب الحدث، ورأيت الأخوة الأتراك حيارى لا يدرون ماذا يفعلون، حتى ظهر القائد رجب طيب أردوغان وطلب منهم النزول للشوارع ومواجهة الانقلابيين، وفعلاً ما هي إلا دقائق حتى نظّم الناس أنفسهم وبدؤوا ينزلون إلى الشوارع يهتفون بصوت واحد (بسم الله، يا الله، الله أكبر). مشيت حينها مدة تزيد عن ثلاث ساعات لم أسمع غير هذا النداء، وكأن الناس كانوا ينتظرون القائد ليوجههم، ويصدر لهم الأمر بالتحرك.
إذا كان هذا شأن غير العرب في الانضباط والانقياد للقائد في طبعهم، وشأن العرب في التفرق والمبادرة، كيف استطاع البغدادي السيطرة على أتباعه من العرب؟ وكيف يمكن فعلا توحيد العرب والاستفادة من هذه الامة في إعادة بناء حضارتها؟
كان العرب قبل الإسلام أمة متفرقة مقتتلة بأسها بينها شديد تحت سيطرة فارس والروم، حتى جاء الإسلام الرسالة التي بعث بها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، وبشكل غير مسبوق وحّد رايتهم وحررهم من استعباد الأمم، بل انطلقوا لأبعد من ذلك ليحكموا أرضا امتدت من سور الصين إلى جبال البرنيه؛ فما الذي تغير؟ إنها القيادة المقدسة التي وحدت العرب، وحفزت الأمة على بناء هذه الحضارة.
إن المتأمل في التاريخ العربي يجد أن وحدة العرب مرتهنة بقدسية القيادة، فكلما ترسخت هذه القدسية عظم شأن وحدتهم، فأعظم فتوحات العرب كان تحت ظل أقوى القادة قدسية في قلوبهم، وفي كل مرة تضعف قدسية هذا القائد تعود التفرقة وتنهار الدولة جزئياً أو كلياً. وهنا لا أقصد بقدسية القيادة مقدار مقاربتها للحق والصواب بل المكانة في قلوب الشعوب والصورة الذهنية عن طهارتها وحجم التأييد الإلهي لها، فقد تكون هذه القيادة في على الحق الذي لا يخالطه باطل وقد تكون على الباطل لا تكاد تجد معه حقا للبصير المميز.
وحتى أوضح أكثر سأذكر بعض الأمثلة التاريخية، فعندما أراد الخوارج الأوائل الخروج على خلافة الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حاولوا إسقاط قدسية قيادته من خلال إثارة النعرة القبلية؛ إذ زعموا أنه سلّم الولايات لبني أمية، ولم تهدأ الدولة في ذلك الوقت إلا بعد عام الجماعة، أي عند عودة القدسية للخليفة.
وحتى عند ظهور التشيع استطاع زعماء ذلك المذهب السيطرة على أتباعهم من العرب من خلال القدسية التي ألبسوها أنفسهم، وتكرر الأمر عند سقوط دولة بني أمية، فقد نادى بنو العباس بأحقيتهم بالخلافة من خلال قرابتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الصبغة القبلية المترافقة بالمخالفات والمظالم التي أضعفت قدسية قيادة بني أمية. ومما يثير الانتباه هنا أن قدسية القيادة التي توحد العرب لا يلزم فيها أن يكون القائد عربياً؛ فقد تحققت لعدد من القادة غير العرب عبر التاريخ كصلاح الدين وبيبرس وخلفاء بني عثمان، ويشير هذا أن الانتماء الديني أقوى عندهم من الانتماء القومي. بل إن الدول الاستعمارية التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى عرفت أنها لن تسيطر على البلاد العربية ومقدراتها قبل إنهاء القيادة المقدسة المتمثلة بالخلافة العثمانية التي كانت رغم ضعفها خطراً يمكن أن ينتفض من جديد، لذلك كان شرط إلغاء الخلافة على رأس شروط اتفاقية لوزان.
حتى في الواقع المعاصر؛ فإن مستبدي العصر أمثال حافظ الأسد، وجمال عبد الناصر رغم مناداتهم بشعارات القومية كان لابد لهم من إضفاء القدسية على أنفسهم لضمان حشد الناس خلفهم، فكانت قضية فلسطين والمقاومة الدرع المقدس الذي يستترون خلفه ليضمنوا ولاء العرب من خلاله، ويبرروا كل ممارساتهم الاستبدادية، رغم أنهم أكثر من خان فلسطين وتاجر بها لاستمرارهم في الحكم. ثم ظهر الطاغية الجبار المدعو "أبو بكر البغدادي" الذي أضحت مخالفته كفراً مخرجاً عن ملة الإسلام، وأفعاله كلها مبررة؛ لأن لها صفة القدسية، وخدع كثيراً من العرب الذي أحرقوا أنفسهم تحت نعال ملكه ظانين أنهم بذلك يسلكون سبيل رضوان الله.
وأقول هنا: تشهد أحداث الربيع العربي أن هذه الأمة أمة حية وتتطلع لتأخذ دورها بين الأمم لكنها ما زالت تبحث عن القيادة المقدسة التي تسير امامها، وهذا يوضح تغيير عدد من فصائل الجيش الحر في سوريا مثلا راياتها رغم عدم وجود تغيير فكري في بنيتها لأنها لاحظت ميول الناس وأنها تستطيع تسويق نفسها بشكل أكبر تحت رايات مقدسة، وهنا نعود ليوم محاولة الانقلاب في تركيا؛ حيث رأيت أن العالم العربي لم ينم تلك الليلة خوفاً من نجاح الانقلاب، رغم أن البلد ليس بلدهم، والمفروض أن الأمر لا يعنيهم، والسبب أن الرئيس أردوغان استطاع أن يعيد لأذهان هؤلاء هذا المفهوم حين قال: "مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلّون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا"، وأيضا من خلال إيواء الفارين بأرواحهم ودينهم هرباً من بطش الطغاة.
والمتأمل في هذا المفهوم يجد أنه سلاح ذو حدين بحسب مَن يستخدمه؛ فقد يكون سبباً في وحدة الكلمة وتعزيز الانتماء والبذل والتضحية للبناء، وقد يكون سبباً في الاستبداد والهدم، ولا يردّ ذلك إلا انتشارُ العلم والفهم الصحيح للدين ولمعاني الحرية.
فضلا أن إعطاء القدسية للقيادة يضعها على حافة خطر شديد، ويجعل أخطاءها تحت المجهر فخطأ الطاهر ليس كخطأ الملوّث، وأن الشعوب لا تراعي أن هذا الطاهر بشر يخطئ ويصيب، وهذا أيضا يفسر ردة الفعل التي حصلت تجاه الإسلاميين في الربيع العربي، لأن الشعوب لم تحتمل الأخطاء التي وقعت منهم، لأنهم لبسوا ثوب القداسة.
وأختم هذا المقال بسؤال ما هي الفائدة من كل ما ذكرنا ولمن يمكن توجيهه؟
أقول: المفروض أن يعي هذا من يحاول أن يكتب دساتير للأمة يعمل الكثيرون على جعلها تنسلخ من هويتها وتاريخها، وكذلك الطغاة الذي يصلون الليل بالنهار يبحثون عن السبل التي تهدم الدين في قلوب العرب لأنهم يرون في الدين سداً منيعاً بينهم وبين طموحاتهم لاستمرار استبدادهم، وإلى تجار الدين الذين رفعوا رايتهم المشوهة يريدون الاستبداد باسم الدين، لكن كل هؤلاء لا يعلمون أن الله يغار على دينه، وما يلبثوا أن يفتضحوا سواء تاجروا بالدين لهدمه، أو بالحداثة والعلمانية لهدمه.
وأخيرا لابد أن يعي هذا الكلام من أراد فعلا أن يعيد للأمة نهضتها، كيف يستطيع أن يحفز الهمم ويستنهض الطاقات، وكيف يستطيع أن يوظف هذه الجوانب الإيجابية عند أمة العرب لخدمة هذا المشروع.
أبو محمد الصادق
هيئة الشام الإسلامية
مجاهد مأمون ديرانية
أحمد بن بازز
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة