محمد عادل فارس
تصدير المادة
المشاهدات : 3847
شـــــارك المادة
من الأدباء من يجيد مخاطبة شريحة من الناس، شريحة الشباب، أو الكهول، أو الشيوخ، أو شريحة العوام أو متوسطي العلم والثقافة، أو عِلْية القوم من أصحاب الفكر والقدم الراسخة في العلم... فإذا حاول قارئ من غير الشريحة التي يخاطبها ذلك الأديب، استصعب أسلوب ذلك الأديب أو استهجنه... وأن تجد أديباً يكتب بسلاسة عذبة، وأصالة عميقة، ويجوبُ بك آفاق المعرفة، ويسكب في قلبك عالي البيان، فتطرب له، وتفهم عنه، وتتفاعل معه فتبكي إذا أبكاك، وتضحك إذا أضحكك، وتعجب إذا عجّبك، وتغضب إذا أغضبك... وتكون هذه حالك وحال ابنك وحال أبيك، وأحوال أصدقائك ومعارفك، مَنْ كان منهم قليل البضاعة في العلم والأدب، ومن كان ملمّاً من كل فنّ بطرف، ومن كان مختصاً في جانب أو أكثر من جوانب الثقافة والعلم... نعم أن تجد ذلك الأديب فقد وجدت علياً الطنطاوي. تسمع له في الإذاعة والتلفاز وهو يحدّث الحديث الممتع الذي يشدُّ الأبصار والبصائر، فتسكُنُ أمامه كأن على رأسك الطير، وترنو إليه بسمعك وبصرك وفؤادك، ولا تملك أن تتزحزح عن مجلسك ذاك أو تلتفت إلا أن ينهي حديثه. وتبقى في نفسك حلاوة حديثه، وصدق لهجته، وبراعة تصويره، وعذوبة عبارته، وعمق فكرته. وإنني كلما قرأتُ له مقالاً أو كتاباً أكاد أسمع صوته العذب وهو ينطق بالكلمات. وقد كان أستاذنا عبد القدوس أبو صالح، ونحن في الصف الثالث الثانوي، يصفه بأنه المحدّث الإذاعي الأول في العالم العربي. وتقرأ له فيشدُّك شدّاً، ويغوص بك في أعماق النفس وأعماق التاريخ، في طول البلاد وعرضها، وتتلذَّذ بعبارته وحسن عَرْضه، وتعجب من سهولة عبارته حتى لتحسب أنك قادر أن تكتب مثله وأحسن، فإذا غرّتك نفسك وحاولت، أيقنت أنك أمام السهل الممتنع. وكما قال فيه الشاعر أحمد محمد الصدّيق من قصيدة يرثيه فيها:
إذا تحدّثتَ ناجيتَ القلوبَ فما *** في الحاضرين فؤاد غير منـجذبِ وإن كتبتَ فحبّـاتٌ منضّـدةٌ *** عن عسجدٍ رقرقتْ كالسلسلِ العذبِ
إنه علي بن مصطفى بن محمد الطنطاوي الذي ولد في دمشق سنة 1909م، وتوفي في جدة سنة 1999م. جدّه محمد كان عالماً في علوم الشرع والفلك، وهو الذي حسب مواقيت الصلاة لكل أيام السنة، لمدينة دمشق. وأبوه مصطفى كان عالماً متمكناً، شغل موقع أمين الفتوى في دمشق، ومديراً لإحدى المدارس ثم رئيس ديوان محكمة النقض. وخاله هو الكاتب الأديب المحقق الصحافي المؤرخ محب الدين الخطيب. تلقى علي الطنطاوي علومه في دمشق وفي دار العلوم في مصر (وهناك كان زميلاً للشهيد سيّد قطب)، ثم نال الإجازة في الحقوق من الجامعة السورية التي أصبح اسمها فيما بعد: جامعة دمشق. وشارك في الجهاد ضد المستعمر الفرنسي. عمل مدرّساً في مدارس دمشق وبغداد وكركوك والبصرة وبيروت... وعُيِّن قاضياً في بعض نواحي دمشق ثم "قاضياً ممتازاً" في دمشق، ثم مستشاراً لمحكمة النقض. وعمل في صياغة قوانين المواريث والوصية والأسرة، أو ما يسمى بالأحوال الشخصية. ثم انتقل إلى السعودية فدرّس في كليتي الشريعة واللغة العربية في الرياض، ثم في مكة وجدة. كان له حديثٌ جِدُّ ممتع في إذاعة دمشق عقب صلاة الجمعة، وعقب الإفطار في أيام رمضان، لا يكاد كبير أو صغير يستغني عن استماعه، بل كان جُلُّ الناس يحرصون عليه كل الحرص. وفي السعودية كذلك صار يلقي الدروس والمحاضرات ويجيب على الفتاوى في الإذاعة والتلفاز، وما يزال الناس يذكرون له البرنامج الإذاعي "مسائل ومشكلات" والبرنامج التلفزيوني "نور وهداية". فقد كان حديثه يفيض علماً وحكمة واعتدالاً وفقهاً وأدباً. وكتب مئات المقالات، فنشرها في بعض الصحف والمجلات كـ(الفتح) و(الزهراء) و(فتى العرب) و(ألف باء) و(المسلمون) و(النصر) و(الحج) و(المدينة) و(الناقد) و(الشرق الأوسط)... وقد رأسَ تحرير مجلة الرسالة حين مرض صاحبها أحمد حسن الزيّات. وألف الكثير من الكتب مثل (رجال من التاريخ) و(قصص من التاريخ) و(صور وخواطر) و(قصص من الحياة) و(أخبار عمر وعبد الله بن عمر) و(تعريف عام بدين الإسلام) و(ذكريات)... وله كتابات للأطفال كذلك. وكان في أحاديثه الخاصة والعامة ومحاضراته وكتبه.. نقي الفكر، ذكيّ الفؤاد، شديد الغيرة على الإسلام، يحارب البدع والخرافات والتقاليد المنافية للإسلام، ويحذّر من الغزو الثقافي، ولا يرضى أن يلوِّث الإسلام بالمصطلحات الوافدة من ثقافات أخرى، غيوراً على اللغة العربية، حريصاً على نشر الفصيح من غير تقعُّر، محارباً للذوبان في الثقافات الأخرى لغةً أو خلقاً أو أسلوب حياة. ومن حبه للأدب، وغيرته على العربية أذكر له هاتين اللفتتين: أولاهما أنه في كتاب "أخبار عمر وعبد الله بن عمر" الذي ألفه بالاشتراك مع أخيه ناجي أفرد باباً من الكتاب بعنوان: "عمر الأديب"، فلقد اطلعتُ في سيرة عمر رضي الله عنه عدداً كبيراً من الكتب، كلها أفاضت بفضائل عمر ومزاياه من عدل وحزم وسياسة وقيادة... لكنني لم أجد أحداً قد أفرد باباً لأدب عمر. والثانية أنه حين ظهر (التلفزيون) استعمل له الناس اسمه الفرنسي هذا، وبعضهم عرّبه إلى (التلفاز)، وبعضهم اختار له اسماً عربياً هو (الرائي)، أما علي الطنطاوي فقد اختار له اسماً آخر هو (الراني) وهو اسم فاعل بمعنى اسم مفعول، لأن الإنسان يرنو إليه بسمعه وبصره. لكن أيّاً من الاسمين: الرائي والراني لم يُكتب له السيرورة. قُدِّمت له عروض سخية من مال ومنصب وجاه... لقاء أن يقول كلمةً يزيّن بها مواقف بعض الطغاة، فأبى كل الإباء. كان له خمس بنات، إحداهن "بنان" زوج الأستاذ عصام العطار، تلك التي اغتالتها يد الإجرام في "آخن – ألمانيا" فصبر على فقدها، واحتسبها عند الله. لقد كان علي الطنطاوي من الرجال القلائل، رجلاً جمع الإيمان القوي، والاعتزاز العظيم بدينه، والفقه العميق له، والخلق العالي، والقلم المبدع، واللسان الفصيح. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه جنات الخلد.
مركز الشرق العربي
أسرة التحرير
أبو فهر الصغير
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة