..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

دموع الإنسانية على سفوح الغوطة الشرقية

ياسين جمول

٢٧ ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2821

دموع الإنسانية على سفوح الغوطة الشرقية

شـــــارك المادة

اختلطت الأصوات من ربوع الغوطة الشرقية في آذاننا؛ فمِن تحت الأنقاض صوت امرأة عفيفة تنادي تتمسك بحجابها لا يظهر شيء من شعرها أو جسمها، دون أن تعي أن الركام غطّى عورة جسمها الطاهر وكشف عن سوءة النظام العالمي! ومن كثيف غبار الصواريخ صوت طفل أضاع والدَيه فما يبصرهما من شدة الغبار وقد تعثّر بأعضائهما وهو يجري يبحث عنهما لا يعي أنهما صارا قطعا تناثرت في الأرض كما تناثرت كرامة العرب والمسلمين دون أن يجمعها جامع!

مع صوت لعجوز هدّته سنوات الحصار يبحث عن نظّارة يرى فيها طريقه ليخرج من بيته المتهدّم فوقه، دون أن يرى العالم الأعمى ما يحدث. مع صوت أب يحتضن طفله يودّع بدمعات العيون، وأي لغة أبلغ من لغة العيون! عميت عيون كل ظالم وساكت؛ وقد قيل: الساكت عن الحق شيطان أخرس، فما هو الساكت عن الدماء والمظالم!

مررنا كغيرنا في الدراسة على ما سُمي: الألم العبقري، يقول الشيخ الأديب علي الطنطاوي: "لقد كنت أشكو فيها (يعني بغداد وهو يحكي ذكرياته فيها) ألم الغربة وأحنّ إلى الوطن، فصرت في وطني أحنّ إلى تلك الغربة ولياليها، وما ظلمني موطني وما أنكرني، وما كنت لأذمَّه صادقا فكيف أذمّه بما ليس فيه، ولكنما هي الدعة، مللتها واهتويتها: إني أشكو ألم الراحة فأعطوني به راحة الألم".

ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ بأنني ذو قلب!" فالألم العبقري هو الذي يفجّر الأوجاع فتتناثر في الأجواء شعرا صادقا يخرج من القلب فيخترق الأسماع والأنظار نحو القلوب بلا استئذان. أو يخرج نثرا لا يأسره وزن أو قافية بل شعور إنساني صادق يكفل له ما كفله للشعر وزنه وقافيته ليُحفظ ويسير في الآفاق.

إننا أمام آلية الموت التي تحصد البشر والحجر في الغوطة الشرقية نكفر بكل السياسة، نكفر بكل القوانين الدولية التي تنام عندما يشاء لها واضعوها أن تنام، فتغفو عينها -عميت- عن كل آثام المجرمين ولا تميز في الوجوه الظالم من الضحية.

تنظر في الشاشات لترى في العالم المجنون فتى يجني بغير سبب على نحو عشرين فتى في أميركا عبثا، فيسارع المسؤولون في مختلف الدول تعزّي المسؤولين في الولايات المتحدة بمقتل الأطفال الضحايا، حتى من دول تظنّ أن بينها وبين أميركا ما صنع الحدّاد، وإذ يوحّدهم الألم الإنساني على الفتية الضحايا! ويطول بي التفكير: ما بالنا لا بواكيَ لنا؟! ما بالنا لا يعزّي بنا قريب أو بعيد بعمامة أو ربطة عنق بلحية أو شارب أو حليق؟! أما زعموا أنه انتهى عصر الرقيق وتساوى البشر في "الإنسانية" ومات هتلر الوحيد الذي ادعى تفوّق عرق من البشر على الآخرين؟!

تقضي فتاة في جنوب تركيا فيتقاطر المسؤولون من الوزراء والنواب حتى رئيس الحكومة على العزاء بها، ويتصل رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بنفسه معزّيا، ويزور المسؤولون المقعد الذي كانت تجلس فيه في مدرستها يضعون الورود عليه، يواسون زميلاتها وزملاءها. وما هي إلا أيام ويبدلون اسم حديقة كبرى في مدينتها ليجعلوها باسمها مع بوفيه مجاني عن روحها؛ فأترحّم وقتها على (فاطمة أفلار) وأبكي عليها فتاة قضت في عُمر الورود على يد شرذمة مارقين من الإنسانية، ويطول بي البكاء على آلاف أمثالها لم يُتح لها من يعزّي أهليهم إن لم يكونوا قد قضوا معهم، وعلى حكومة هي من جنت فلا تسأل الجاني عن جرمه!!

مع سنوات مرّت على السوريين كانت دماؤهم وأرضهم وأعراضهم فيها كأنما هي بورصة أموال تزيد وتنقص، وكلما تقادم العهد بها ازدادت رخصا وكثر لذلك مشتروها حتى ما عدنا نعرف في أي سوق نخاسة تم بيعنا وأي شايلوك يتاجر بنا وبقضيتنا؟! فكنا نعد الشهداء واحدا تلو الآخر، ثم صرنا نعدّ المجازر مجزرة تلو أخرى، وانتهينا نعدّ الكوارث نازلة تلو أخرى، ويستمر حمام الدم القاني في سوريا دون توقف.

لم يرخص الدم السوري فحسب ويُطرح في الطرقات، بل سقطت معه شعارات ودعاوى كثيرة، وانمحت معه خطوط حمراء وصفراء ومن كل الألوان، فما عاد لنا سوى دموع الإنسانية؛ فلا العرب لبّوا ولا المسلمون، فروابط القومية والدين والعشائرية تداعت ووُطئت تحت أقدام الأطفال تتشحط بدمائها على منحر الكرامة الإنسانية في الغوطة الشرقية. فأي إنسانية فيمن يتغنى بأصوات المقتولين والمصابين! أهؤلاء من البشر في شيء! ألا فلتسقط الشعارات والولاءات السياسية والحزبية تحت أقدام الطفولة البريئة التي تقضي تطحنها رحى حرب بالوكالة بين أكابر المجرمين.

ألا فلتسقط كل المنظمات الدولية التي تدّعي "الحقوقية" أو "حماية الطفولة" وهي لا تقدر أن تصرخ بحق الطفولة أن تحيا في الغوطة الشرقية وكل سوريا بأمان! ألا فلتسقط كل المجالس والجمعيات وهي تنظر في الشاشات آلاف الضحايا كأهون من منظر الأضاحي عليها! قد نظر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عقب غزوة أُحد، والناس تفرقت بين المسلمين المقتولين يبكون شهداءهم، فقال: "أما حمزة فلا بواكي له" مع أن إصابته لم تكن إصابة عادية؛ فهي قتل وتمثيل بشع في جثته، فنواسي أنفسنا: مصابنا كبير، لكن لا بواكي لنا، ويكفينا أننا على الحق، ومن يبكِ آلامنا فلبقية الإنسانية فيه، ومَن لا يبكي فهو أحق منا بالبكاء لأن إنسانيته ماتت، وكفى بها بلية ومصيبة!

لتبقى مأساة الغوطة الشرقية إنسانية قد تُحسن العيون التعبير عنها بالدموع، لكن الحرف -بلا شك- يقصر عن الترجمة فيها عما في القلب؛ فأين الحروف من لغة القلوب والعيون، وفي مثلها يصح:


نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَينِكَ فاستَعِرْ .. عينا لغيرِكَ دَمعُها مِدْرَارُ
مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَينَه تَبكِي بها .. أرأيتَ عَيناً للدُّموعِ تُعَارُ!


إننا لا نَنشد لغوطة الشام ألما لرَحِم، ولا ألما لجوار، ولا ألما لدِين وعقيدة؛ إنما نَنشُد الألم الإنساني، ألم الإنسان على الإنسان؛ وذلك أضعف عُرى الإنسانية التي إن خرج الإنسان عنها انحطّ في درك قد يبعد في دركات الحيوانية، أو لعله أشد ضلالا!

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع