ياسين جمول
تصدير المادة
المشاهدات : 3472
شـــــارك المادة
لا أعرف سرّ تعلقي بكتابِ وحدتي ونفوري عن الاجتماع بالناس حتى خاصّتي
ليالي طوال عديدة يهرب فيها النوم من عيوني وقد ينقضي الليل كله وأنا شارد متسمِّر في مكاني يوقظني مؤذِّن الصلاة أو صوت امرأتي أو أبنائي ..
يعذبني أن تسألني زوجتي: ما بك؟ فلا أعرب جواباً، وأكثر من هذا عذاباً أن تسألني بماذا تفكّر ولماذا أنت مهموم؟!
فاتبعت الأسلوب العلمي الرصين وعزمت معرفة الجواب، فجلست أراجع نفسي ماذا كنت أتذكر فأذهل به وأسرح في عوالم بعيدة وقريبة معه، فوجدتني أسرد لنفسي حكاية أسيفةً:
كان يا ما كان: وكنا نعيش في بيت ريفي بسيط بأثاثه لكنه عظيم جداً بسيّده رحمه الله، فكان فيه أبي -رحمه الله- يملأ سكونه بصوته وهديره وبتلاوته الرقراقة للقرآن ليل نهار وبضيوفه الذين ربما تعاهدوا ألا يمرّ يومٌ دون أن يمرّ بنا أحدهم أو كثيرٌ منهم. تملؤه أمّي حفظها الله بحركتها في أرض الديار تجمع أوراق الزيتون وما يتساقط من شجرة العنب أو تمسح بقايا المطر تجمّع في شقوق الأرض الإسمنتية الخشنة. كنا وكان صغار أخوتي وأخواتي يملؤونه مرحاً وصخباً حتى لتخاله إن اجتمعوا مدرسة ابتدائية، ما يضطر الوالد رحمه الله لعصاه التي تحت رأسه يهزّها ويضرب بها إن لزم الأمر. واليوم تبدّل البيت فصار أوسع وأجمل لكنه بائس مقيت؛ فالوالد قضى نحبَه رحمه الله، والوالدة أقعدتها المصائب التي مرّت بها فلا تتحرك إلا على هونٍ لمرضها وتعبها، وأطفال أخواتي صاروا كباراً وكلٌّ في بلدٍ ولا أرى إلا أقلّهم على فترات.
كان يا ما كان: وكان لنا شيخ نلتفّ من حوله نسمع ونتعلّم وكأننا في دنيا غير دنيانا، لم يكن انتماؤنا له ولهذه الكوكبة أقلّ من انتمائنا لأهلينا وآبائنا، بل ربما نهرب من بيوتنا لنلتحق به؛ لأننا نجد حياةَ قلوبنا فيما نسمعه واستقامةَ أمور ديننا فيما نتعلّمه، ولم يكن إخواننا في مجلسه بأقلّ من إخوتنا لآبائنا بل ربما أكثر لأنه – كما تعلّمنا – أخوّة الدِّين فوق أخوّة النسب، حتى إن مَن يقع في ضائقة يبدأ بأسرته الدينية هذه قبل أسرته الاجتماعية. واليوم تنظر حولك وإذ أكثر الإخوة قضى نحبَه وما بدّل، أو بقي وبدّل فما عدت تراه أو يجمعك به ما كان، والشيخ غيّبته سنون من السجن خرج بعدها لأرض لا نراه فيها، ونقرأ كتاباته دون سماع كلماته له في القلب ما كان يوم افترقنا والله نسأل أن يكون لنا عنده ما له عندنا.
كان يا ما كان: وكان لي أخٌ يكبرني أصاحبُه كأحد أصدقائي، وإن لزم فيقسو عليّ أكثر مما يقسو أبي، ما زلت أذكر أنه مع التوبيخ علّمني أحكام التجويد، ومع المخاصمة والمعاندة والمرافقة تعلمت منه الكثير في الحياة، وما زلت أذكر كم ضربني أخوايّ الكبيران في سنيّ الأولى عندما يعلّمونني أو يوجّهونني؛ وأحمدُ الله أنني لم أنفر من العلم من يومها!! وكان لي أخٌ (على رؤوس بعض كما تقول العامة) ولا أعرف كم تشاجرت معه ونحن صغار، وكم كنا قريبَين من بعضنا ونحن شباب. لكن القدَر لم يمهلنا لأعرف كيف سنكون ونحن كبار، فخانَ العهدَ أو خنتُه – لست أدري- ومضى وحدَه في سكونٍ شهيداً بطلاً حافظاً لكتاب الله طيّب الذّكر في الناس حسنَ الأثر في أهله وأصحابه، وقد خلّفني وراءه أنتظره ليعود من توصيله أخاً لنا وما زلت أرقبه يوم بلغَ أذني نعيُه ووصل بابَنا جثمانه قبل صوته مع موتوره القديم يقتحم علينا به البيت؛ فرحمك الله يا أخي وجمعنا في مستقرّ رضوانه.
كان يا ما كان: وكان لي أخوات ثلاثٌ قريبات في بيوتهنّ من بيتنا مثل قربهنّ في محبتهنّ من قلبي، أشكو إليهنّ همومي وما أكثرها، وأجلس عندهنّ آكلُ وأشرب وإن شعرت بنعاسٍ فأنام ليس دون بيت أهلي وزوجتي في الراحة والهناءة. واليوم لا تجمعنا سوى مجموعة على الواتساب نتبادل فيها الدموع مع الصور والكلمات، مع صور أطفالنا الذي صرنا نخطئ بينهم: أهذا عمر أم عمران؟ وهذه شيماء أم عائشة أم سمية؟
كان يا ما كان: وكان لي أساتذة في كل اختصاص، أراجعهم في أمور العلم والحياة، أحبّهم أساتذةً وأصحاباً كباراً يزورني بعضهم في بيتي على بُعد المسافة بيننا وأزورهم في بيوتهم لكن القلوب أقرب فلا تحول الأماكن دون التزاور مع تقارب القلوب، فتعلّمت منهم العلم والسَّمت. ثم أفقتُ بعد سنين فلا أراهم وأبحث في الشابكة ووسائل التواصل لعلي أظفر بواحد منهم له حساب في الفيس أو تويتر لأطمئنّ عليه. وما أسعدني عندما تخرج لي صورة في خبر هنا أو هناك لواحدٍ منهم.
كان يا ما كان: وكنت طالباً مجتهداً أولاً في الثانوية العامة إلى الإجازة الجامعية حتى الماجستير، تتفجّر معالم الشباب فيّ مع العلم، فأضرب في التخصص وفي علوم الدِّين، وكتبي في مكتبتي وكثير منها في رأسي. ثم أتلفّت اليوم فلا أجد الكتب –إلا يسيراً- فوق الرفوف وأنبش رأسي فلا أستحضر المسألة إلا بعد لأيٍ، ولا أجلس الساعة أو الساعتَين للدراسة والبحث إلا وكأنما أنقل جبلاً من مكانه.
كان يا ما كان: وكنا نجلس أول أيام الثورة نرسم على جدار المساء في البساتين صورة سوريا الغنّاء والكل فيها يفرح ويمرح دون الأسد، ونتراهن أيسقط في شهر أم شهرين ولم نختلف أنه يسقط في أقل من نصف سنة، كنا بين فلاح وباطنجي وكومجي وطيّان وطبيب وطالب علم وأستاذ، كنا والشيخ خالد يهدر يخطُب كأنه النذير العريان، وفرزات يصوّر فوق في الساحات وفوق المآذن والحيطان، وهادي يتصل وينشر، والدكتور قاسم وصحبه في المشفى ليل نهار، والكل يلتقي في المظاهرة المسائية وطراد وأخوته يرتّبون البث والإعلام والكل يهتفون متحابّين متآخين، وكتائب الفاروق والمغاوير تجول في شوارع القصير منا وفينا قبل أن تختلف الأسماء والقلوب، ونتلفت فلا نجد القصير ولا أهلها، ولا نصحو إلا ونحن شتات في لبنان وتركيا وأوربا ومناطق شتى من سوريا، وندخل وسائل التواصل فنجدها وسائل للتباغض والتشاتم والتقاطع؛ لا تعرف كبيراً يتفق عليه الناس ولا صغيراً يعرفه منا أحد يرمي هذا ويقيّم ذاك ويوقع بين الأخوة والأقارب، فلا تدري تتأسف على البلد أكثر أم على أهلها وما صاروا إليه من تشتّت في الأماكن وتباغُض وتحاسُد وخصام.
فلا أدري أهذه نفسي أم مكتب مفقودات حقاً؟! ولست أدري كيف يعيش من يفتقد كل أولئك وكل ذلك؟!
في إدارة المشاريع – وحياة كل إنسان مشروع، وهو مديره – كلام مهم عن إدارة المخاطر، وكيفية الاستجابة اللازمة لكل خطر قد يدهم مشروعك، فما يدهمُك دون خطة يعكّر عليك مشروعك وقد يذهب به. وكل ما ذكرته لم أكن قد أعددت خطة استجابة له قبل فقدِه، فاهتزّت سفينتي وعصفت بها الأمواج، وأرجو من الله التوفيق فأحسنَ إدارة حياتي بعد تلكم المفقودات، وما دمت بصحتي وعافيتي فلن أترك مشروعي للمخاطر تذهب به، وسأجدد الخطة لأمضي به من جديد بعون الله.
فكما قال سعيد الأسعد: الحياةُ صعبةٌ؛ تُسعِدُنا أحياناً، وتُوجِعُنا أحياناً أخرى
فيومٌ لنا ويومٌ علينا ..... ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَـرّ
فالألم والحزن من طبيعة الحياة.
لكن المهم ألّا تُهزَم قلوبنا، فما دمنا لم نستسلم فنحن قادرون على خوض الجولة القادمة.
ومن أعظم الانتصارات أن نكون بعد كل جولة قادرين على خوض الجولة التالية.
"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"
أبو عبد الله الحموي
جابر قميحة
عبد الرزاق حسين
محمد الخليلي
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة