..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

زيتون الانتفاضة السورية

صبحي حديدي

١٦ ديسمبر ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6723

زيتون الانتفاضة السورية
1 صبحي حديدي.jpg

شـــــارك المادة

في سنة 1998 نشر الكاتب الأمريكي مورت روزنبلوم مجلداً موسوعياً بعنوان 'الزيتون: حياة وحكمة ثمرة نبيلة'، لعله التاريخ الأعمق والأغنى لهذه الشجرة المتوسطيّة الكونية، الأكثر احتشاداً بالمعاني الدينية والسوسيولوجية والإقتصادية.
ومنذ الصفحات الأولى اختار روزنبلوم التعبير عن نُبْل ثمرة الزيتون اتكاءً على الآية الكريمة: 'الله نور السموات والأرض. مَثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح. المصباح في زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. نور على نور'.


وللمؤلف مع الزيتون حكاية حقيقية، كانت باعثه الأوّل وراء وضع ذلك الكتاب الفاتن، الأشبه بقصيدة مفتوحة على اللغات والقارّات والثقافات والأديان والعادات الزراعية، في مديح ثمرة نبيلة مباركة. ففي عام 1986 اشترى روزنبلوم مزرعة عتيقة في منطقة البروفانس الفرنسية، ورث معها 150 شجرة زيتون مهملة، فقرّر 'إحياء' هذه التركة النفيسة.
وكتابه حكاية اكتشاف شجرة الزيتون أوّلاً، ثم الثمرة ذاتها تالياً، وصولاً إلى تقاليد استثمارها شرقاً وغرباً؛ لكنّ النصّ أدب رحلات أيضاً، لأنّ فصوله تصف اقتفاء أوطان شجرة الزيتون: من فرنسا إلى الأندلس، ومن المغرب وتونس إلى فلسطين، ومن تركيا واليونان إلى البوسنة وكرواتيا وتوسكانيا الإيطالية، ومن كالفورنيا إلى المكسيك.
ولقد أتيحت له عشرات الفرص لكي يسجّل 'سياسة' ثمرة الزيتون: كيف يقطع جيش الاحتلال الإسرائيلي أشجار الزيتون لأسباب أمنية، وكيف يحتطب أطفال سراييفو أغصان الزيتون لا للتدليل على السلام بل لاستخدامها كسيوف حين يلعبون لعبة الحرب، وكيف تفرض المافيا الإيطالية احتكاراً ثقافياً ـ مالياً على زراعة الزيتون وعصر زيت الزيتون، وكيف انقسم زيتون إسبانيا ذات يوم إلى ملكي وجمهوري… وهو يشير إلى أن ثمرة الزيتون قد لا تعني عند ملايين الأمريكيين 'أكثر من حبّة ديكور في قاع كأس من المارتيني'، لكنها عند مئات الملايين من سكّان سواحل المتوسط أشبه برمز كوني شامل لكلّ ما هو سخيّ ومبارك.
'سوق الزيتون في مراكش قد يكون أجمل بقعة على وجه الأرض'، يكتب روزنبلوم دون أن يعتذر عن المبالغة، لأنه لا يبدو كمن يبالغ البتة!
إنه، أيضاً، لا يسرف في الحماس حين يستخدم عشرات الاستعارات المجازية الحارّة، الخاصة بأرواح البشر، في وصف حيوات الشجرة والثمرة والزيت.
'إنها شجرة الله، ولهذا فهي شجرة فقراء الله'؛ وهي 'الذهب الأسود الحقيقي في بلاد العرب، قبل آلاف السنين التي سبقت انبثاق البترول في أيامنا هذه'؛ و'ليس عجيباً أن تكثر الضواري في البلاد التي تعيش على الزبدة واللحوم' بدل الزيتون.
ومن جانب آخر، فإنّ الإسباني فدريكو غارسيا لوركا ليس الشاعر الوحيد الذي يزوّد روزنبلوم بالمتاع الغنائي اللازم لكي يواصل امتداح شجرة الزيتون.
إنه يلجأ إلى لوحات رينوار وغوغان وسيزان، ويستعيد التشكيل البصري في السينما، بل ويستصرخ حفيف أغصان الزيتون في الموسيقى الكلاسيكية أيضاً.
وهو يقدّم عشرات الوصفات التي تدخل فيها الثمرة، ولا يُستغنى عن زيت الزيتون في ضبط مذاقها.
من كلّ بلد وصفة، وفي كلّ صنف من أصناف الزيتون ثمة أسرار خفيّة همسها في أذنه زارعو الزيتون حيثما حلّ هنا وهناك.
الزراعة إلى جانب الشعر، والسياسة إلى جانب وصفة تحضير الطعام، والأسطورة إلى جانب المبيدات الحشرية.
وفي فلسطين تحديداً سمع روزنبلوم تفصيل العلاقة بين الثمرة والجسد الإنساني، حين قال له زارع زيتون من بلدة جنين: 'نحن بلا زيتوناتنا أشبه بأوراق في مهبّ الريح.
شجرة الزيتون هي الأرض، وأجسامنا تتشكّل على هيئة الشجرة. كيف تتخيّلنا إذا قطع الاحتلال أجسادنا هذه'؟
اليوم، إذْ تقترب الانتفاضة السورية من شهرها الواحد والعشرين، في وسع روزنبلوم أن يضيف إلى تاريخ شجرة الزيتون سمة أخرى عبقرية، يصحّ أن تُعزى إلى السوريين، وفق مبدأ 'الحاجة أمّ الاختراع'، من جانب أوّل؛ وإلى جانب إنساني محدد يخصّ الانتفاضة، من حيث ابتداع أنساق المقاومة اليومية وارتقاء إرادة الحياة، من جانب ثانٍ.
ففي شروط الشتاء القاسية، والبرد القارس في مناطق جبل الزاوية وإدلب والباب وعفرين وريف حلب عموماً، حيث تشمخ شجرة الزيتون (قرابة 70 مليون شجرة)؛ ونظراً لانعدام محروقات التدفئة، أو ارتفاع أسعارها بمعدّلات باهظة، إنْ وُجدت؛ استصرخ السوريون ما تختزنه الشجرة المباركة من دفء نفيس، فعادوا إلى تصنيع مادّة 'الجفت': عجينة الزيتون التي تُوضع في الموقد، فتكون أفضل اشتعالاً من الحطب، أو أية مادّة تدفئة أخرى!
وقبل أسابيع، في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فوجئ مواطنون تجمهروا عند معصرة أبو هلال، غرب مدينة إدلب، بغارة جوية استهدفت أكياس الزيتون وسلاله، فأسفرت الغارة عن مقتل 20 شخصاً، وجرح 50؛ وبذلك اختلطت دماء السوريين، بعجينة الزيتون، وبما كان قد اعتُصر من الزيت! زيتون 'مندسّ'، كما قد يبرّر 'منحبكجي' ملتاث؟
نور على نور، رغم آلام الفقد، كما قد يردّد مشيّعو الشهداء؟ تفصيل نوعي فارق، في كلّ حال، سوف يذهل مؤرخاً حاذقاً مثل روزنبلوم، دوّن الكثير وتكهّن بالكثير حول الشجرة الفريدة؛ ما خلا هذه: أن تنقلب إلى هدف عسكري، بامتياز، كما قدّر أهل النظام؟

 

 

المصدر: القدس العربي

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع