لبيب النحاس
تصدير المادة
المشاهدات : 4116
شـــــارك المادة
إن كانت روسيا قد طبقت نموذج “غروزني” في تعاملها مع حلب، فإنها تطبق الحل الشيشاني الشامل في تعاطيها مع القضية السورية وتصورها للحل النهائي. روسيا في سباق مع الزمن وتحتاج وفق تصور القيادة فيها إلى تحقيق نصر سياسي مدوٍّ يتمثل في تسوية سياسية شاملة في سوريا قبل الوصول إلى الانتخابات الرئاسية القادمة فيها في شهر آذار من العام المقبل، وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات الروسية القادمة لن تحمل أي مفاجأة إلا أن معظم استطلاعات الرأي المستقلة في روسيا تدل على أن الدعم الشعبي للتدخل العسكري الروسي في سوريا قد انخفض بعد أن كان يزيد عن الثلثين في 2015 إلى ما دون الثلث في 2017، ولا شك أن المعارضة الروسية ستحاول استثمار الملف السوري، وسط تستُّر كبير على التكلفة البشرية والمادية الحقيقية للتدخل الروسي في سوريا.
لقد تمكنت روسيا خلال العامين الأخيرين من التحول إلى اللاعب الرئيسي في الملف السوري من خلال مزيج دقيق ومتكامل من العمل العسكري والتحرك السياسي على الصعيد الدولي والإقليمي وحتى الداخلي في سوريا. الخطة الروسية ما زالت تسير في الاتجاه المرسوم لها ضِمن التصور الأولي لدى الروس الذي لم يتغير البتة على الرغم من كل التواصل والتفاوض مع المعارضة السورية والفصائل وإطلاق مسار الأستانة، هذا التصور الذي يقتضي تدمير الثورة عسكريًّا وتفكيكها سياسيًّا بهدف فرض تسوية -وليس حلًّا- سياسية تسمح باستمرار النظام كمنظومة وبشار الأسد كرأس لهذا النظام الذي يحكم سوريا بأكملها، سواء مركزيًّا أو فيدراليًّا.
عند النظر إلى روسيا يجب أن ندرك أنها اللاعب الدولي الأكثر نجاحًا تكتيكيًّا في سوريا نظرًا لطبيعة نظامها السياسي الذي يسمح لها بسرعة اتخاذ القرارات وتنفيذها بعيدًا عن أي بيروقراطية أو مَأْسسة أو محاسبة، ولتحررها من أي قيود أخلاقية أو قانونية أو حتى دبلوماسية. لذلك فإن تحليل السياسة الروسية يجب أن يكون باعتبارها سياسة عصابة بموارد دولة عظمى، لقد أدركت روسيا بتحليلها العملي للواقع السوري بأكمله أن التسوية السياسية التي تطمح لها لن تتحقق دون إنجاز تفاهُم دولي وإقليمي حول الحل في سوريا، ووقف الأعمال العسكرية بشكل كامل مع إضعاف الفصائل الثورية المسلحة وتقليص مناطق نفوذها، ومن ثم إضفاء شرعية دولية وسورية على التسوية السياسية المنشودة، بما في ذلك الملف الكردي الشائك، وبناء على هذا التحليل انطلقت الآلة الروسية لتذليل وتدمير كل العقبات بشراسة وبراغماتية منقطعة النظير.
لا شك أن روسيا اضطرت لاستعمال مستوى من العنف والإجرام أعلى بكثير مما كانت ترغب به أو تتوقعه وذلك بسبب ضعف أداء النظام العسكري وفشل الطرف الإيراني في تحقيق ما وعدوا به، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى أداء الفصائل الثورية المسلحة على الرغم من كل التحديات والصعوبات التي واجهتها والأخطاء التي ارتكبتها، إلا أن روسيا في المحصلة تمكنت فعليًّا من تجميد الوضع العسكري ولو مرحليًّا عن طريق إضعاف الفصائل الثورية وترسيخ مسار الأستانة كإطار عامّ لوقف إطلاق النار و”خفض التوتر”، رافقه التزام انتقائي من قِبل النظام وحلفائه، فهم لا يزالون يحاولون “قضم” أكبر قدر من المناطق المحررة تدريجيًّا ولا سيما الاستراتيجي منها، ومحاولة السيطرة على مدينة دمشق وريفها بالكامل.
في نفس الوقت عملت روسيا على إبرام وفرض اتفاقيات مناطقية مباشرة بين النظام والأطراف المَعنِيّة من الثوار في كل منطقة -حتى لو كانت مشمولة بمسار الأستانة- برعاية مُباشِرة من روسيا وبتهميش مُتعمَّد لتركيا لتضفي طابعًا محليًّا على ماهية العلاقة بين النظام والثوار ولسحب أي سمة دولية للصراع في سوريا، ولتستأثر روسيا بإدارة الأزمة والإمساك بأكبر قدر ممكن من الأوراق بعيدًا عن تأثير باقي الدول وعلى رأسها حلفاء الثورة ولا سيما تركيا. وإن كان ظاهر الاتفاقيات المحلية المناطقية برعاية روسية لخفض التوتر هو عسكريًّا، إلا أنه في الحقيقة سياسي بحت، وهي أجرأ وأوضح خطوات روسية في تفكيك واختراق المعارضة والثوار سياسيًّا.
وعليه، فقد قامت روسيا بإبرام تفاهُم مع الولايات المتحدة الأمريكية حول المنطقة الجنوبية على الرغم من أنها منطقة مشمولة ضِمن اتفاقية “خفض التوتر” في الأستانة، وفتحت قنوات التفاوض المُباشِر مع الفصائل الثورية المسلحة في كل من الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي لتثبيت اتفاقيات وقف إطلاق للنار خاصة بهم على الرغم من أنها مناطق ـ أيضًا ـ مشمولة بمسار الأستانة، وفي الأشهر الأخيرة تمكنت روسيا من الوصول إلى تصوُّر مشترك مع تركيا حول الوضع في إدلب وما حولها، بينما تسعى بالشراكة مع إيران وميليشيات النظام لإنهاء وجود داعش في المنطقة الشرقية التي باتت ساحة تنافُس ونزاع بين معظم الأطراف الدولية المعنية بالشأن السوري. إلا أن روسيا تعلم أن النصر العسكري النسبي على الأرض غير كافٍ، وإن كان هذا النصر قد أعطاها رصيدًا سياسيًّا كبيرًا ومؤثرًا وخلق ديناميكية تصبّ في صالحها، فهذا الوضع الجديد تحتاج روسيا لاستثماره بسرعة وترجمته إلى “تسوية” سياسية ذات شرعية سورية ودولية، وهذا لا يمكن تحقيقه دون موافقة المعارضة وانخراطها بشكل كامل في العملية السياسية وفق التصور الروسي الذي ينتهي بإعادة إنتاج النظام بأقل التغييرات الشكلية الممكنة، لذلك عملت روسيا جاهدة وبشكل دؤوب على تفكيك المعارضة السياسية واختراقها، وفرض منصات جديدة تتلاءم مع تصورها، إلا أن النتائج حتى الآن تبدو بطيئة جدًّا، ولم تتمكن روسيا من تحقيق أي خرق مؤثر على التوجه العامّ للمعارضة والثوار، ولذلك قد تتجه روسيا إلى كسر قواعد اللعبة وفرض واقع سياسي جديد من خلال تجاوُز كل المسارات السياسية الحالية وفرض مسار جديد تتحكم به بشكل كامل ومباشر.
تعلم روسيا أيضًا أن أي مؤتمر جديد للمعارضة السورية لن ينتج عنه جسد سياسي متجانس وفقًا للمعايير الروسية، والأهم من ذلك أنه لن يكون جسدًا مطواعًا قابلًا للترويض من قِبل الروس، وعلى الرغم من التركيز في الآونة الأخيرة على فكرة انعقاد مؤتمر “رياض2” لإعادة صياغة المعارضة السورية من جديد وتعريف سقف مطالب “واقعي” أكثر من وثيقة الرياض1، إلا أن المؤشرات الأخيرة تدل على أن روسيا قد تكون بصدد تجاوُز هذه الخطوة عن طريق “مؤتمر حميميم" والتحول بشكل مباشر إلى الداخل السوري وتطبيق النموذج الشيشاني في تفكيك الداخل إلى مناطق وأحزاب وتيارات وحتى فصائل، والتعامل مع كل طرف وفق خصوصيته المحلية ومصالحه الحزبية وحتى الشخصية بهدف تشكيل معارضة سورية منسجمة بشكل كامل مع الأجندة الروسية وجاهزة لتقبل فكرة “قاديروف” سوري، إلا أن “قاديروف” سوريا القادم لن يكون سنيًّا مواليًا لروسيا: بل هو الأسد من جديد.
على المعارضة السورية والثوار النظر إلى “مؤتمر حميميم” المزمع عقده في أوائل شهر نوفمبر القادم على أنه أكبر تهديد سياسي للثورة ولمستقبل السوريين، وستحاول روسيا من خلاله سحب الشرعية الوطنية والثورية من المعارضة الحالية والثوار ونقلها إلى الأطراف المستعدة للتعامل مع روسيا تحت سقف “الواقعية” و”التسوية” السياسية التي يريدها الروس، ومن جهة أخرى ستحاول روسيا استثمار هذه الشرعية السورية المسروقة للمطالبة بشرعية دولية لمخرجات "مؤتمر حميميم" عن طريق تبني الأمم المتحدة له أو لمخرجاته كمسار سياسي جديد أو جعله مسارًا مكملًا لمسار جنيف.
إن أول هدف منشود وملموس من “مؤتمر حميميم” هو التوصل إلى “هيئة مصالحة وطنية” تتولى ـ على حد تعبير الروس ـ متابعة التسوية السياسية على مستوى سوريا بعد أن يتم ترسيخها مناطقيًّا وإفراز الشخصيات والأطراف المحسوبة على المعارضة والجاهزة للقبول بالسقف الروسي، وهو أمر حاولت روسيا إطلاقه في “أستانة 6” عن طريق وثيقة حاولت تضمينها في مخرجات المؤتمر، إلا أن الطرف التركي رفضها، مما دفع بالطرف الروسي إلى البحث عن سبل أخرى لفرضها.
هذا التوجه يتناسب بل ويتكامل مع تصوُّر المبعوث الأممي دي ميستورا الذي عبَّر بصراحة منذ حوالي أسبوعين أمام عدد من المبعوثين الدوليين عن خطته الجديدة: وهي اختزال الحل السياسي بقضية إجراء انتخابات رئاسية في سوريا بعد ثلاث سنوات، وتحويل المسار السياسي إلى نقاش حول الخطوات اللازم تحقيقها لإجراء هذه الانتخابات دون أي حديث واقعي عن قابلية تطبيق هذه الفكرة ضِمن الإطار الزمني المقترح، ودون أي تطرُّق لمستقبل الأسد أو أجهزته الأمنية أو قدرة ملايين السوريين المُهجَّرين والمطاردين داخل وخارج سوريا على المشاركة فعليًّا في الانتخابات، ولكن فكرة الانتخابات هي أيضًا جزء محوري من التصور الروسي للتسوية في سوريا، إلا أن الروس كانوا يصرحون دائمًا وبوضوح باستمرارية الأسد إلى حين إجراء الانتخابات، بل وأصروا على حقه في الترشح لها.
طبعًا الروس لم يفهموا تعقيد الملف الكردي وتداخلاته الإقليمية والدولية وتنامي نفوذ “قوات سوريا الديمقراطية” لدرجة أن بعض الأطراف الدولية بدأت تنادي لإشراكهم في المسارات السياسية كطرف مستقل، يعلم الروس أنه لا رصاصة فضية تحل المعضلة الكردية، وأن العمل على حل حقيقي ودائم قد يتطلب شهورًا طويلة وربما سنوات طويلة، وهو وقت لا تملكه روسيا حاليًّا، لكن في نفس الوقت يتطلب التصور الروسي للتسوية السياسية في سوريا أن تكون هناك سوريا مُوحَّدة جغرافيًّا وتحت سيادة حكومة مركزية ولو بإدارة غير مركزية أو فيدرالية؛ لذلك حرصت روسيا على تضمين مفهوم الفيدرالية في مسودة مشروع الدستور الذي تحاول فرضه كجزء من التسوية السياسية، وهو ما قد يُختزل في نهاية المطاف بتعديلات في دستور 2012، ولذلك فإن “قسد” ستكون من أول المَدعوِّين لمؤتمر حميميم. إلا أن هدفًا محوريًّا آخر يكمن وراء إصرار الروس على فرض تسوية سياسية على مقاسهم وانتزاع شرعية سورية ودولية لهذه التسوية: إنها أموال إعادة الإعمار المرتبطة بوجود “حل سياسي حقيقي” في سوريا، فإن كان نظام الأسد قصير النظر محدود الأفق لكونه نظامًا مافويًّا بدائيًّا يعتمد البطش والقهر ولا تهمه سوى السلطة بأي ثمن، إلا أن الروس والإيرانيين يدركون تمامًا أن إعادة إعمار سوريا هي خطوة أساسية في إعادة تأهيل الدولة السورية والمجتمع وفرض حل ذي ديمومة يحمي مصالحهم على المدى البعيد، وأن عملية إعادة الإعمار هذه تفوق القدرة المالية والاقتصادية لكل من موسكو وطهران اللتين تعانيان من مشاكل اقتصادية عميقة، لذلك، فالحصول على إجماع دولي وسوري حول التسوية السورية وفق المنظور الروسي أمر لا بد منه وأحد أهم مفاتيح الحصول على هذا الإجماع في يد المعارضة السورية والثوار.
في واقع الأمر، فإن المعارضة السورية والثوار يملكون أوراقًا كثيرة غير مُفعَّلة للأسف، سواء عسكرية أو سياسية، ولكن فيما يخص تحدي “مؤتمر حميميم” الذي تم إرسال دعوات لأطراف كثيرة داخل وخارج سوريا لحضوره وأبدى البعض -وإن كانت أطرافًا مشبوهة- قبولًا مبدئيًّا بالحضور، فعلى المعارضة والثوار التمسك بمسار جنيف وفق بيان جنيف 2012، والعمل على تطبيق القرار الأممي 2254 بانسجام مع بيان جنيف بعيدًا عن التفسير الروسي الضيق الخاص له، والأهم من كل ذلك توحيد موقف المعارضة والثورة بشكل كامل إزاء “مؤتمر حميميم” من خلال رفضه، ورفض كل من يساهم في شرعنته من طرف المعارضة والثوار. وعلى المعارضة والثوار رصّ صفّهم الداخلي والحرص على التقارب والشراكة الحقيقية مع الحلفاء الحقيقيين أكثر من أي وقت مضى، وعليهم أيضًا أن يَعُوا أن المعركة العسكرية لم تنتهِ بعد، بل إنها في الواقع لم تتوقف، وأننا نتجه نحو عنق زجاجة سياسي جديد في الأشهر القادمة.
خالد غزال
إبراهيم الديب
سامر إلياس
مهدي الحموي
المصادر: الدرر الشامية
الدرر الشامية
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة