..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


اعلام وتراجم

مأمون ديرانية رحمه الله.. أبي الذي رحل

مؤمن مأمون ديرانية

٢٤ أغسطس ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 9553

مأمون ديرانية رحمه الله.. أبي الذي رحل
ديرانية000.jpg

شـــــارك المادة

شهر مضى على رحيلك يا أبي..
في ليلة جمعة مباركة.. ليلة السابع عشر من رمضان المبارك.. اختار الله أبي إلى جواره..

حملت القلم أكتب شيئاً لأبي.. فحشرج القلم.. عدت إليه ثانية، فحشرج ثانية..

 

 

كتبت هذه الكلمات على جلسات كثيرة.. بمداد تخالطه دموع..
كلما وجدت خلوة معه أكتب له كلمة.. ثم أرجئ الكلمة الأخرى لوقت آخر..
تختنق الكلمات في كل مرة.. وأعاودها ثانية فتختنق من جديد..
هو الحديث الحلو المرّ.. يتراوح بين حلاوة الذكرى وأنسها، ومرارة الفقد وألمه..
أدركت اليوم أني لم أكن أعرف كيف يكون فقد الأب.. مهما بلغ الأب من العمر ومهما بلغ الابن..
هي الحياة.. والقدر الذي لا يردّ.. والحديث الذي لم يكتمل..

** * * *

مات أبي..لا يقولها صبي يتيم يبحث عن مأوى، بل رجل في العقد السادس من العمر يستعد للقاء أبيه ثانية، بعد حين يعلمه الله، لكن القلب لا يملك إلا أن يحسّ باليتم لفقد الأب مهما بلغ من العمر..
الأب جدار يستند إليه أبناؤه حتى وهو يتكئ عليهم في مشيه، وسقف يظلهم حتى وهو لا يكاد يقدر على حمل المصحف الذي يتلو منه..
وهو التاريخ الذي يخافون أن يفقدوه.. والبوصلة التي يجدون فيها الطمأنينة في خطواتهم التي يخطونها، في كلمة من شفتيه أو نظرة رضا في عينيه..
الأب والأم هما الإنسانان اللذان لا يستطيع ابن أن لا يفتقدهما، ولا يقدر ابن أن يوفيهما حقهما مهما فعل ومهما بذل، لا يقدر أبداً..
 منّ الله عليّ أن أراه قبل نحو أسبوع من وفاته، وودعته على موعد مع لقاء آخر قريب، فشاء الله أن يكون ذلك اللقاء هو لقاء الوداع..
ليتني عرفت أنه لقاء الوداع، لكنت حاولت أن أرتوي أكثر من لقائه وسماع صوته والنظر في عينيه.. تقتلني الحسرة..

** * * *

بعد ستة أيام من ذلك اللقاء الأخير أعود لألقي نظرة الوداععليه ميتاً، وأعانقه وأقبّل يديه ووجنتيه، وأكلمه فلا يجيب.. وأعود فأكلمه ثانية.. ولا يجيب.. فأعانقه وأقبل يديه من جديد..
وأغسّله كما غسّلني صغيراً.. وأحمله إلى قبره كما حملني صغيراً.. وأُنزله في قبره.. أستودعه الرحمن الرحيم، وأسأله أن يثبته بالقول الثابت وينير له قبره ويجعله روضة من رياض الجنة..
ونعود أدراجنا ونتركه هناك.. مبتهلين إلى الله أن يؤنس وحشته ويبدله داراً خيراً من هذه الدار الفانية..
 أزوره من بعد.. في ذلك القبر تارة، وفي غرفته التي تركها تارة أخرى، أنظر إلى كرسيه وطاولته وأدويته وحاجاته المتناثرة، وأوراقه وكتبه المصفوفة على رفوفخزانة خشبيّة خلفه، وشاشة أمامه صمتت الآن.. صمتت أخيراً بعد أن صدعت عالياً لزمن طويل بأخبار المسلمين التي لم يتوقف يوماً عن متابعتها..
كلّها تكاد تئنّ اشتياقاً إليه مع اشتياقي، وتذرف الدموع مع دموعي..
ويمرّ أمام عينيّ شريط طويل، أرى فيه حياة طويلة حافلة، رأيت وعشت شقّاً طويلاً منها، وسمعت من شفتيه الشقّ الذي سبق، وكلا الشقين عزيز عليّ حبيب إلى قلبي..

** * * *

من صبيّ يتيم الأب.. يبدأ يومه بحمل طبق عجين ثقيل فوق رأسه، يتمايل وهو يمشي به إلى الفرن كل صباح، قبل أن يجلس على مقعد المدرسة العسبليّة الابتدائيّة في عمّان..

إلى طالب في ثانوية عمّان يتم فيها الصف السادس والسابع، ثم يتوقف عن الدراسة في غياب الأب الذي يوجهه ويرعاه. لكن خريج الصف السابع الابتدائي قرأ في حياته أكثر مما يقرأ اليوم طلاب الجامعات، وكان عظيماً في ثقافته واطلاعه ومتابعته لكل مايدور..
إلى عامل سكب مسودّ اليدين يعمل في مسكب صغير في مهنة شاقّة..
إلى قائد جوّالة الإخوان المسلمين في عمّان.. ينتقل معهم من بقعة إلى أخرى في رتل شباب يحملون همة كبيرة وآمالاً عريضة..
إلى صاحب قلم شاب نشر باسم "رامز حسون" مقالات متفرّقة، ثم احتجب قلمه طويلاً في زحمة الحياة وهمومها والتجارة وأعبائها، إلى أن عاد للكتابة بعد تقاعده في السنوات الأخيرة.
لم يستطع قلمه في هذه السن المتقدمة أن يتخلف عن المشاركة في مسيرة الحرية التي مشتها أمتنا منذ عامين ونصف، فكتب فيها العديد من الخواطر. (لعلي أجمع كتاباته قريباً بإذن الله).

إلى شاب متأنّق على ظهر سفينة مهاجرة إلى العالم الجديد آنذاك، يعود بعد شهور وقد عزف عن فكرة الهجرة، ليلقى أمّه قبل أن ترحل، وتلفظ آخر أنفاسها وهي تدعو لابنها الأصغر ولذريته بالتوفيق والصلاح، ويعيش عمره يتذكّر دعواتها ويحس ببركة هذه الدعوات..
كم حدثنا عن دعوات أمه له، وكم كان سعيداً بهذه الدعوات التي فتحت له أبواب الخير.
 إلى تاجر عمّان المرموق الذي وعيت عليه، يصطحب ولده الأوّل الصغير مؤمن إلى دكانه، ومن بعد ابنه الشاب في جولاته في السوق من تاجر إلى آخر، وفي غرفة مكتبه الذي كثيراً ما قضيت فيه الساعات الطوال، أساعده في عمله وأجالسه وأستمع إليه ولزائريه، وأتعلم منهم الكثير.
وأرافقه في كثير من زياراته لفضلاء عمّان.. عرفت طويلاً إخوانه وأصحابه الذي صاروا يرحلون واحداً بعد آخر.. أبحث اليوم عمن تبقى من أحبابه أتقرّب إليهم لعلي أجد بذلك قرباً منه بعد رحيله.
وآخرون من أهل الفضل يأتون من بلاد شتى ويجعلون من محل أبي محطتهم فيعمّان، من سورية ولبنان ومصر والعراق والسعودية والكويت وتركيا وأوروبا وأمريكا، كان يجند نفسه لهؤلاء الإخوة في زياراتهم يكرمهم ويرافقهم ويساعدهم في إنجاز أعمالهم.
إلى الحاج مأمون، كما صار اسم أبي بعد أدائنا فريضة الحج عام 1965 ولي من العمر تسع سنوات.
ورحلات عمل يعمل فيها بتجارته ويحمل عائلته معه في نفس الوقت، كرحلات القدس الأسبوعية قبل أن تقع في يد اليهود، نصلي الجمعة في الأقصى ثم يكمل عمله في الضفة الغربية، ورحلات بيروت، وفي كل بلد ينزل فيه له فيه إخوان وأحباب.
في تجارته كان تاجراً كريماً متسامحاً مع كل حبيب وقريب وفقير، حتى وصفوه أنه ليس بتاجر، أحببت ذلك فيه وأعتز به كثيراً أكثر من اعتزازي بلقب شيخ التجار لو أعطوه له.
وكما يعيش التجار عشنا أوقاتا من ضيق الحال، لكنها لم تغيّره وبقي على طريقته.
ولقاءاتنا العائلية الأسبوعية مع عمي أحمد الذي كان أحب وأقرب إخوة أبي إليه، وسفراتنا المكوكية المتتابعة إلى دمشق نلقى فيها جدي وخالاتي وكبار العائلة، وصيفنا الحافل في الشام. رحل اليوم أكثر هؤلاء عليهم رحمة الله.
عاش قارئاً متابعاً أخبار الأمة ومتفاعلاً معها. وفي قراءاته لا يغفل عما يهمّ ويفيد كل ابن من أبنائه ويحفظ لكل واحد نصيبه، فيجمع لي قصاصات الصحف عن الشؤون الطبية أو قضايا اللغة العربية التي يعرف اهتمامي بها، ويتابع البرامج الإخبارية والفكرية ويهاتفنا جميعاً لنشاهد خبراً أو حديثاً أو برنامجاً مهمّاً.
وفي سنواته الأخيرة بعد تقاعده من العمل عاش مع قناة الجزيرة وأخبار الأمة التي يتابعها على مدار الساعة، لا يكلّ منها ولا يملّ، ويحدث بها أولاده وأحفاده وأصحابه وزائريه، ويملؤهم أملاً بالفرج القريب.

** * * *

كلّ ما أنا فيه من خير فبفضل أبي وأمي. حاولت أن أوفي أبي شيئاً من حقّه لكن هيهات أن أقدر.. ورحل قبل أن أوفيه شيئاً من حقّه..
أسأل الله أن يوفيه حقّه ويؤتيه من فضله..
ربانا أبي رحمه الله على الدين والفضيلة ومكارم الأخلاق. وكان مدرسة في الكرم والشهامة لا ينافسه فيها أحد.
وعلّمنا الانتماء للأمة، عاش معنا أحداثها وعلّمنا كيف نعيشها، وعشنا معاً حروب اليهود المعتدين، قبل أن يصالحهم زعماء بلادنا ويلغوا المقاطعة معهم.
نشأنا على مقاطعتهم ورفض مصالحتهم والاستمرار في عدائهم. وعلّمنا حب المسلمين والانشغال بهمومهم في وقت كان فيه هذا الحديث حديثاً منكراً..
بكينا الشهداء الذين علقهم عبد الناصر، إمام الطغاة، على أعواد المشانق، عندما كان الناس حولنا يتشفّون بهم أو لا يكترثون على الأقل.

وكانت قلوبنا مع كل محنة للمسلمين في كل بلد يذكر فيه اسم الله.
أذكر حرب انفصال باكستان الشرقية "البنغال" المؤلمة التي تابعناها مع أبي يوماً بيوم، وأصحابي في المدرسة يرون فيّ إنسانا غريب الأطوار يشغل نفسه بأمر باكستان الشرقية..
علّمنا في أحسن المدارس، في الكلية العلمية الإسلامية، حتى في أوقات الضيق ونحن آخر التلاميذ تسديداً للأقساط الدراسية لم يتنازل عن ذلك، أراد لنا أن نسلك طريق العلم الذي حرم من إكماله. وأحبّ أن أكون طبيباً فكنت، ووجدت من بركة ذلك.
وتعلّمنا منه حرفة اليد، كان يشتغل بإصلاحات البيت بيده، النجارة والسباكة وأعمال الكهرباء، ساعدناه في ذلك وتعلمناه منه، فكنا نشتري ألواح الخشب ونقطعها ونصنع خزائن الكتب بأيدينا، وتبعته في ذلك بعد أن كبرت فكنت أشتغل بيدي تمديدات بيتي الكهربائية والصحية في كل بيت سكنته، إلى أن ضاق وقتي وقلّت همتي مؤخراً.
علّمنا الإتقان حتى المبالغة، والاحتياط حتى الوسوسة، وحمل المسؤولية ودقّة الحساب، لا يحب التسيّب والفوضى ولا يقبل اللامبالاة.
وعلّمنا الفن والجمال والإبداع.كان يتفنّن فيما يصنعه كأنه يصنع تحفة، وعندما بنى بيته وضع فيه تصميمات وتزيينات بديعة رغم بساطتها، لا يعمل مثلها المهندسون المعماريون..
نمشي اليوم في الحديقة نتأمل هذه الروائع، نكاد نرى يديه ممسكة بكل واحدة منها.
كان غضوباً وعصبيّ المزاج، لكن كلّ من عرفه عن قرب وجد عنده قلباً من ذهب. كان حبّه يفوق غضبه وسرعان ما يهدأ ويطيّب الخواطر، نحسّ بالحب والرحمة حتى بين كلماته الغاضبة الهادرة.
وعاش حياة يختلط فيها النظام بالفوضى، كان منضبطاً في أمور لا يتنازل عنها، فلا يتأخر عن وقت سفر أو موعد هام ولا يضيع وثيقة ولا غرضاً مهمّاً أبداً، أما في الأمور التي تحتمل التساهل والتأجيل فكان كثير التسويف والتأجيل.
علمنا النظام في الشق الأول وكره لنا الشق الآخر.
أما التفاؤل الذي حمله أبي عمره كله فلم أجد أبداً مثله عند أحد من الناس، ملأ قلبه وعقله ولم يفارقه حتى في أحلك الظروف، وهو الأمر الذي أُحبّ أن أحذو حذوه فيه فلا أستطيع مجاراته.
كان متفائلاً دوماً وهو يمرّ في أصعب أوقات عمله وتجارته ومترقّباً دائماً الفرج من السماء، ولقي ربه -رحمه الله- وهو يتابع جهاد سورية ساعة بساعة وهو واثق بنصر الله، ويتابع المرابطين في ميدان رابعة العدوية كل يوم وواثق أن الله سيؤيدهم بنصره.
لا ينسى أحداً من أهله وذريته وإخوانه، لا ينام كل ليلة إلا بعد أن يدعو لأمي وكلّ أبنائه وعائلاتهم، وأبيه وأمه وإخوته وأقربائه الذين مضوا، ومن يذكر من إخوانه وأحبابه الذي لقوا ربهم.
أطلب رضاه فيرضى عني وعن إخوتي، ويحدثني عن ورد دعائه اليومي لكل عائلته وإخوانه، فأطمع بأكثر وأسأله أن يرضى عني من أعماق قلبه، ولا يبخل عليّ بذلك ويضحك ويقول: الله يرضى عنك من أعماق قلبي. عليه رحمة الله.
أحبّه الكبير والصغير وكلّ من عرفه، حتى الذين أصابهم شيء من غضبه في أوقات غضبه، وبكاه الأبناء والأحفاد والأصحاب والجيران.
أسعدني أن أجد عند أحفاده كل هذا الحب، وهو يستحقّه.
علّمنا أبي كثيراً من دروس الحياة.. في كل يوم أتذكر أمراً تعلمته منه.
وبقيت أحب أن أسمع رأيه في كل ما أعمله وفي كلّ كلمة أكتبها حتى آخر يوم من حياته رحمه الله.

** * * *

وتستمر الحياة.. بين أقدار الله..
ونمضي نحمل ذكرياتنا، وعزائمنا، وآمالنا..
ودعواتنا بالرحمة لآبائنا، والصلاح لأولادنا، وحسن الخاتمة..
ونردد:"رب اغفر لي ولوالديّ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"..
وأقول لأبي ما قاله قبل أيام الرجل المجاهد محمد البلتاجي لابنته الشهيدة: لا أقول وداعاً بل إلى اللقاء..

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع