أحمد طلحة
تصدير المادة
المشاهدات : 4627
شـــــارك المادة
تحضرني في البداية قصة مروية عن علي عزت بيجوفيتش رحمه الله أنّه وصل مرّةً إلى صلاة الجمعة متأخراً، وكان قد اعتاد الصلاة في الصفّوف الأمامية، ففتح له الناس الطريق إلى أن وصل الصف الأول فاستدار للمصلين بغضبٍ وقال مقولته الشهيرة: “هكذا تصنعون طواغيتكم”.هذا الدرس شهدته في معظم الحوادث التي عايشتها خلال ما مضى من أحداث الثورة السورية، وفي جميع المجالات، وأخطرها العسكرية.
ولي هنا تجربة في أذكرها -شهادة أمام الله والناس- ربّما تكون إحدى الدروس المستفادة لتدارك المصير الكارثي الذي ينتظر الثورة السورية وقضيتها العادلة، فقد بات على الجميع تحمل المسؤولية واليتحرك لإيقاف الانحدار نحو الفناء، ومحاولة تحصينها ضد المخاطر المحدقة بها من الداخل قبل الخارج.
وفي تجربتي هذه أشير إلى إحدى أبرز الشخصيات التي تتحمل ومن معها -من وجهة نظري- مسؤولة كبيرةً عمَّا آلت إليه الأحداث الأخيرة في حلب، ولو لم يتم إيقاف هذه الشخصية وأمثالها عند حدها، أو عزلها فربمّا تجني على ما تبقّى، وتكون هي الطلقة الأخيرة التي تقتل قضية السوريين العادلة.
تجربتي كانت في أحد أرياف حلب في سنة 2012م، فقد بادرت مع عدد من أصحاب الكفاءة والخبرة لتفعيل العمل المدني من أجل إدارة بعض المناطق بعد انحسار قوات النظام عنها، والتي باتت تعرف بالمناطق المحررة، ومن لحظة البدء تعرضنا لمضايقات ومحاولات تفشيل من قبل أكبر الفصائل الموجودة في المنطقة آنذاك، وبات لنا واضحًا أنه يريد السيطرة على جميع مقاليد الأمور فيها، ولن يترك أي جهة تعمل إلا تحت إمرته، ووفق سياسة النزوع للسلطة والتحكم والتمدد التدريجي وبذكاء وخبث مستغلّا معرفته عادات البيئة الاجتماعية، وحنكته في كيفية التعامل معها، والهيمنة عليها.
زرنا قائد ذلك الفصيل في ذلك الوقت -مغامرين– لما لذلك من مخاطر الاعتقال الذي يتهدّدنا، وكانت غايتنا النصح من باب الحرص والقلق من انفلات الأمور في المجتمعات المحلية بعد انهيار مؤسسات الدولة، وقلت له -كوني المتحدث حينئذٍ- بما معناه:
أنتم تحرّرون الأرض من سلطة النظام، وترك المناطق من دون إدارة سيفضي إلى مشكلات ونزاعات وفوضى، وينبغي أن يتبع عملكم أربع أذرع تعمل معكم جنبًا لجنب وهي:
– ذراع مدني: يتجلى بعمل المجلس المحلي ويمكن الاستفادة من الكوادر الموجودة في المنطقة…
– ذراع قضائي: ويمكن إيكاله للقضاة الثقاة من المنشقين، ويعمل معهم شرعيون متمكنون لحل إشكالية ما يتعارض مع الشريعة،
– ذراع سياسي: وهذا هو عمل الهيئات السياسية المعترف عليها دوليًا، وأظن أن بينهم الكثير من الشخصيات الوطنية الموثوقة والخبيرة -وكان وقتها المجلس الوطني السوري-، ويمكن التنسيق معهم، ليطلعونا على مجريات الأحداث الدولية، وكذلك نقدم لهم رؤيتنا من الداخل…
– ذراع مجتمعي: فنقوم بتحفيز الناس للعمل وفق تجمعات مكملة لعمل المجالس المحلية حتى ينخرط الجميع في الإدارة المدنية.
فقال لي: العمل العسكري بالنسبة لي مؤقت، وأنا سأتوجه للعمل السياسي، ولديّ موعد اليوم لإطلاق مشروع ستعلم به لاحقًا (وفي نفس اليوم عدتّ إلى حلب، وسمعت بإطلاق المجلس الانتقالي الثورة لمحافظة حلب). فقلت له: لا بأس، ولكن المهم أن لا تعيق المبادرة التي نريد القيام بها (وكنت أقصد الفريق الذي يعمل معي، فقد كنّا عدد من الشخصيات المتنوعة الخبرات والكفاءات) وهي تشكيل مجالس محلية لإدارة شؤون المنطقة وينبغي أن لا يكون لكم سلطان عليها، وأن تعمل بشكل مستقل ومكمل لكم، مع أهمية التنسيق بين جميع هذه المكونات.
المهم وبعد حوار وجدال بيني وبينه، وخاصة بعد أن حاصرته في الحجاج، نظر إلي نظرةً خاطفة وقال لي بحنقٍ وقلّة أدب ما معناه: نحن من حرّر هذه الأرض، ونحن من سيتولّى إدارتها، ومن كان مخلصًا للثورة عليه أن يأتي ويصطفّ خلفي ويعمل تحت إمرتي…
خرجت متشاءمًا، فتبعني بعض حاشيته، ممن يحملون لي في قلوبهم محبّة وتقديرًا، وقالوا لي معتذرين: “يا أستاذ الله يخليك ما تزعل، يمكن هو ما بيعرفك منيح، حاول تتحمل شوي وتعطيه فرصة، وهو لما رح يعرفك أكيد رح يتعاون معك ويخليك تشتغل من دون إعاقات…..”، فقلت لهم: “أنتم غلطانين… هو بيعرفني منيح، ولكن هذا الرجل وجهته الرياسة والزعامة، وشعاره: الإخلاص حيث تجعلني الزعيم، وسيكون فتنة، وسيخرب أي مشروع للثورة في حال لم يتمكن أن يصبح الزعيم فيه، والأيام قادمة…
وقد تحديت نظرتي الأولى وعدت للتواصل معه، وفي كلّ مرّة كنت أجالسه كانت تتأكد لي نظرتي إليه، وحاول استيعابي لأكون لصيقًا به ولكن عندما علم أنني لست من ذاك الصنف بدأ يعمل على تجاهلي وإقصائي بطريقة ماكرة، والمواقف كانت تؤكد صحة حدسي تجاهه… وكان من سياسته أن يعمل على إقصاء كلّ من لا يمكن الهيمنة عليه بشتّى الأساليب والطرق… ولا أدري من حفّظه عبارة “المصلحة” التي سوّق من خلالها جميع أنشطته في الفساد والإفساد وزرع الفتن وشقّ الصفوف…
ليس العجيب أن يوجد مثل هذا الرجل في صفوف المنتسبين للثورة، وكثيرًا ما هم، ولكن العجيب هو التفاف عدد كبير من شرعيين وحقوقيين وضبّاط عسكريين ومهندسين وتربويين ومعلمين، وغيرهم من بعض أصحاب الكفاءة حوله، وكانوا هم مظلّة الشرعية له أمام الناس عامة، والمعارضين لنهجه الاستبدادي والإجرامي خاصة، وأصبحوا أدواتًا بيده، وبعضهم بسذاجةٍ وحسن نيّة، ومعظمهم بدوافع انتهازية ومصلحية.
عجبي من أمّة تبذل الدماء والدمار، وتدفع من أبنائها مئات الآلاف بين شهيد ومعاق ومعتقل ومهجّر لتتحرّر من دكتاتور وطاغية، ولتستعيد كرامتها وتتخلص من ظلمٍ جاثم على صدرها من عشرات السنين، وأثناء جهادها لتحرّرها تصنع دكتاتوريات وطواغيت آخرين، وتتخلص من إذلال لتقع تحت إذلال غيره، وترفع عنها ظلمًا ليجثم على صدرها ظلمٌ من نوعٍ آخر، وتفقد بذلك روح عدالة قضيتها التي من أجلها قامت بثورة…
وإنني أغتنم هذا المنبر لأوجه رسالة إلى أولئك الأدوات من الشرعيين وغيرهم بأنه يوجد أمامكم فرصة كبيرة لأن تصلحوا وتنصحوا أو تردعوا، وعسى أن يكون فعلكم هذا كفارةً لكم عن ذنوبكم، فأنتم شركاء في تحمل جميع الأوزار التي قام بها مثل هذا الرجل وحاشيته المفسدة -بحسن أو بسوء نية-، ويتحملّ الشرعيون منكم مسؤولية مضاعفة، ووزرًا أكبر، فأنتم من أفتى وشرْعَن له جميع أفعاله، إن لم يكن بالقول والفعل ففي السكوت وعدم الإنكار أو الانشقاق…
فهل ستستيقظون قبل فوات الأوان؟ إن كان هناك من أوان باقٍ؟
اليوم فقط تذكروا مرّة واحدة ما تُذكّرون به الناس في خطبكم ومواعظكم وهو قوله تعالى “وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”، هل تدركون حجم مسؤوليتكم؟
لربّما يكون هناك تساؤل هو مشروع: هل هذا وقت مثل هذا الكلام؟
وقد يتساءل متشائم: هل ما زال هناك أمل؟ هل ينفع مثل الكلام الآن؟
تساؤلات مشروعة عديدة تتوارد للأذهان، ولكنّني أرى أن وقت المراجعات يجب أن يكون حالة مصاحبة لنا في كلّ وقت.
وعلى الجميع أن يعلم أن ذاكرة السوريين لا تنسى، وإننا ندوّن وسندوّن كل صغيرة وكبيرة، وسنكون شهداء حتى على أنفسنا..
كلنا شركاء
أمينة بريمكو
عبد الله فرج الله
موسى الغنامي
فيصل القاسم
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة