رابطة خطباء الشام
تصدير المادة
المشاهدات : 3682
شـــــارك المادة
مقدمة: إن ما يحصل اليوم في الشام أمر تشيب منه الرؤوس، وتتيه فيه العقول، ولا يثبت أمامه بشر إلا من ثبته الله تعالى. نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو؛ لأنه يعلم ماذا يخلف هذا اللقاء خلفه من قتل وتشريد وتجويع وترميل للنساء وتيتيم للأطفال، ولكنه أمرنا إذا حصل اللقاء أن نصبر ونثبت ولا نفر من الزحف، وأمرنا أن ننصر من استنصَر، ونعين من طلب الإعانة، قال صلّى الله عليه و سلّم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه و سلّم، وَقَالَ: اللهُمَّ، مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ).[1] والثبات عزيز ولا يكون إلا لمن قوي إيمانه وعظمت ثقته بربه؛ لأن ما يحصل اليوم يبعث على اليأس لولا ان الله بشرنا بنصر هذا الدين، وبالتمكين للمسلمين، وأن كيد الكفار إلى بوار، وأن أموالهم وأسلحتهم ستكون عليهم حسرة، وأنهم سيُغلبون، وأن الله سينتقم لعباده المستضعفين، وأنه أعد لهم جنة سيبلغون منازلها بالشهادة في سبيله. فيا عباد الله اصبروا وصابروا واثبتوا وانتظروا فرج الله فإنه قريب، واعلموا أنكم تنتظرون إحدى الحسنيين إما نصر وإما استشهاد، فالنصر يقر أعينكم في الدنيا ويشف صدوركم، والشهادة تقرُّ أعينكم في الجنة بجوار ربكم.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نثبت؟ وما هي الأسباب التي إن فعلناها قوينا على الثبات وكنا كالجبال الراسيات؟ وما هي الأسباب التي إن فعلناها قلَّ صبرنا وثباتنا؟ هذا ما سنعرفه في خطبتنا هذه.. 1- الاطمئنان إلى وعد الله: عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)[2] فلو اجتمع من بأقطارها على القضاء على هذا الدين وأهله فلن يستطيعوا؛ لأن الله من وراءه ينصره ويحميه. قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة المجادلة: 21] وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [سورة الحج: 38] وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [سورة آل عمران: 173-174]. 2- التجلد للعدو: أمر الله سبحانه عباده بالثبات حين اللقاء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الأنفال: 45]. قال ابن كثير رحمه الله: "هَذَا تَعْلِيمُ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ آدَابَ اللِّقَاءِ، وَطَرِيقَ الشَّجَاعَةِ عِنْدَ مُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ"[3] وقال القرطبي رحمه الله: "{فَاثْبُتُوا} أَمْرٌ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِ الْكُفَّارِ، كَمَا فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ عَنْهُمْ، فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى سَوَاءٍ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ عَلَى الْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ".[4] وهذا حاصل في الشام بحمد الله، ولكنه يحتاج إلى استمرار؛ لأن الهجمة الآن أكبر من سابقاتها، وليعلم كل من في الشام أن العدو يتألم كما نتألم وفرق ما بيننا وبينه أنا نرجو من الله الجنة ومصيره إلى النار وبئس القرار. 3- الاستعانة بالله وكثرة ذكره واللجوء إليه: إننا نحتاج إلى أن نستعين بالله على هذا العدو الذي اجتمع علينا من كلِّ أقطارها، فقلوبنا عطشى إلى تثبيته سبحانه، وأفئدتنا ضمئى إلى معيَّته. الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى وأنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}[سورة الإسراء:74] وكم نحن بحاجة إلى طلب الثبات من واهبه وأن نتضرع ونبكي ونلحُّ في الدعاء وخاصة عند بداية المعركة والتحام الصفوف، قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ...} [سورة البقرة: 250 – 251] وقولهم: أفرغ علينا صبراً يُشِعرُ بشدة بأس عدوهم وضعفهم أمامه، ولكن بسبب ارتباطهم بربهم كانت نتيجة المعركة حاسمة لهم فهزموهم بإذن الله. "ولا شك أن الدعاء والتوجه إلى الله -تعالى- في مثل هذه الحال مما يزيد المؤمنَ المجاهدَ قوةً وعزيمةً ومصابرةً للشدائدِ" [5] وخاصة إن كان العددُ قليلاً، كما كان حزب الإيمان من أصحاب طالوت في هذه الآية، فكيف لو اجتمع قلةُ العدد معقلةِ الناصرِ مع كثرةِ الخاذلِ مع قوةِ العدوِّ؟! لا سيما وأن الدعاء مستجاب عن التحام الصفوف، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) [6] وليس فقط على الجبهات وفي المعارك، بل في كل وقت وآن على المسلمين وخاصة أهل الشام أن يتضرعوا ويبثوا شكواهم وآلامهم إلى ربهم، في المساجد والبيوت والمدارس، أن يضج الناس بالتضرع والدعاء بدل أن يقعوا في أعراض المجاهدين غمزاً ولمزاً وتخويناً -إلا من رحم الله-، وبدل أن يشغلوا أنفسهم في تحليل الأحداث، ويصرفوا أوقاتهم في متابعة الأخبار ومواقع التواصل، وهذا توجيه من الله العزيز الحكيم في هذا الشأن، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [سورة الأنعام: 43]. ولو سألنا أنفسنا: لماذا طلب الله منا أن نتضرع؟ والجواب: حتى يرى ذلنا وضعفنا وحاجتنا، وعندها إذا علم منا صدقاً فلن يخيب رجائنا، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[سورة الأنفال: 9-10]. وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [سورة الأنفال: 12]. إننا اليوم بحاجة والله إلى أن نتضرع ونبكي ونناشد ربنا أن يثبتنا ويهبنا نصراً. وذكر الله أيضا سبب عظيم من أسباب الثبات، قد أرشدنا الله إلى ذلك فقال: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأنفال: 45]. لأن ذكر الله يجلب معية الله، وإذا كان الله معنا فمن يستطيع هزيمتنا؟! قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني،...) [7] 4- الاعتراف بالذنوب والتقصير وبثُّ ذلك بين يدي الله: قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ *وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ * فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران: 146 – 148]. فكأن الله يقول لأصحاب نبيه يوم أحد: "فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصرَ والظفرَ والغنيمةَ في الدنيا، والمغفرةَ في الآخرة إذا صاروا إليها. وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعدِه الحق، وقولِه الصدق: {والله يحب الصابرين} يعني الصابرين على الجهاد". [8] كم من معصية ارتكبناها اليوم ونطلب نصراً؟ كم من مظلمة فعلناها اليوم ولم نتحلل منها ونطلب نصراً؟ كم من بلايا ورزايا وانتهاك للحرمات وتقصير في الطاعات فعلناه ونطلب نصرا؟! إذا كان الخطاب السابق للصحابة والرسول قائدهم فماذا نقول عن أنفسنا؟ معصية منهم بدون قصد كانت سببا في الهزيمة، فكيف بنا ونحن نبارز الله بالمعاصي؟! نحتاج إلى أن نعيد حساباتنا مع ربنا، ومع الناس، حتى يصلح الله شأننا. حال النبي صلّى الله عليه و سلّم يوم بدر: وهذا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يوم بدرٍ يَضْرَعُ إلى الله بالدعاء وقد رأى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين، فكيف كان حاله؟ روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثَ مائةٍ وتسعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل نبي الله صلّى الله عليه و سلّم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، فما زال يهتف بربه، ماداً يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدَتَكَ ربَّكَ، فإنه سيُنجزُ لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فأمده الله بالملائكة، قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربةً بالسوطِ فوقه، وصوتُ الفارسِ يقولُ: أَقْدِمْ حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فَخَرَّ مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خَطَمَ أنفَهُ، وشقَّ وجهَهُ، كضربةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذلك أجمعُ، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)، فَقَتَلُوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. [9] وقد قال الله عز وجل بعدما بشر المؤمنين بالملائكة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [سورة الأنفال: 15]. حال النبي صلّى الله عليه و سلّم يوم الخندق: ويوم الخندق يقول رسول الله صلّى الله عليه و سلّم وهو ينقل التراب، وقد وارى التّرابُ بياضَ بطنِه: (لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدّقنا ولا صلّينا، فأنزل السّكينة علينا، وثبّت الأقدام إن لاقينا. إنّ الأُلَى قد بَغَوا علينا، إذا أرادوا فتنة أَبَيْنَا) [10] 5- نصر دين الله ونصر أوليائه المتقين: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد: 7]. ونصر دين الله تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد ولا تقف عند رسم، فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله، وطلب العلم نصر لدين الله، والعمل بالعلم نصر لدين الله، وجهاد الكفار والمنافقين نصر لدين الله، والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله، والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله، والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله. وطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة جعلنا الله وإياكم منهم من أوليائه وأنصار دينه. 6- الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلماً وعملاً وتدبراً: فالله سبحانه و تعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتاً للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل: 102]. فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل. 7- المعاصي وأثرها في عدم الثبات: إن الذنوبَ والإسرافَ في الأمور من أسباب البلاء والخذلان، وإن الطاعةَ والاستقامةَ من أسباب الثباتِ والنصرِ والفلاحِ، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} [سورة محمد: 7]. ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين، إن نصروا ربهم، نصرهم على أعدائهم، وثبت أقدامهم، أي عصمهم من الفرار والهزيمة. وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، وبين في بعضها صفاتَ الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج: 40]. "ومنها أن الذنوب والإسراف في الأمور من أسباب البلاء والخذلان، وأن الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح; ولذلك سألوا الله أن يمحو من نفوسهم أثر كل ذنب وإسراف، وأن يوفقهم إلى دوام الثبات". [11] قال ابن القيم رحمه الله: "فمن نَقَصَ إيمانُهُ نَقَصَ نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أُصيبَ العبد بمصيبةٍ في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوِّه عليه، فإنما هي بذنوبه! إما بترك واجبٍ أو فعل محرَّمٍ وهو من نقص إيمانه فإذا ضَعُفَ الإيمانُ صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نَقَصَ من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تَرَكوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيزٌ غالبٌ مؤيَّدٌ منصورٌ مَكْفِيٌّ مدفوعٌ عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه مَن بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً! وقد قال تعالى للمؤمنين: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {فلا تهنوا وتَدْعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يَتِرَكُم أعمالَكم} فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جندٌ من جنود الله، يحفظهم بها ولا يُفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافِقةً لأمره" [12] 8- تفائلوا تثبتوا: ديننا حق وربنا حق ولنا في الكون آيات ومعلم، وكم مرت بأمتنا خطوب فزادتها ثباتاً واحتداماً، أمتنا أمة منصورة ظاهرة باقية مستمرة إلى قيام الساعة، لا تضعف وتنهزم في ناحية إلا وتقوى وتنتصر في ناحية أخرى، وشواهد التاريخ ناطقة: عندما ضعفت الدولة العباسية ظهر السلاجقة المنقذين من سيطرة الباطنية، وعلى إثرهم ظهر نور الدين الذي تصدى للهجمة الصليبية على الديار الشامية، وظهر الغزنويون ينشرون العلم والجهاد في البلاد الأفغانية والهندية، ولما ضعف الإسلام في الديار المغربية والمصرية ظهر صلاح الدين منقذاً بالدولة الأيوبية، ولما استعصت على الأمويين القسطنطينية استسلمت للدولة العثمانية وتحققت البشارة النبوية، ولما أُخرج المسلمون من الأندلس انتشر الإسلام في وسط أفريقيا والجزائر الاندونيسية، وهكذا شمس الإسلام لا تغرب في ناحية إلا أشرقت في أخرى، وإن تداعى عليها الأمم كلها، لا يزال الله يغرس في هذه الامة غرساً يستعملهم بطاعته إلى يوم القيامة. فكم بادت نخيلٌ في البوادي ولكن نخلة *** الإسلام تنمو على مرِّ العواصف والعوادي بقوة الله سيبوء معاديها بالخيبة والخذلان، ولا قوة أمام قوة الله، وتتقزم الجيوش أما جند الله، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت: 15]. كم محارب لله فأهلكه، ورماه التاريخ في مزبلته، ففرعون غريق في أنهاره، وقارون مطمورٌ مع داره، وأبو جهل منتنٌ في قليبه، ومسيلمة ورستم وريتشارد وجنكيز وهولاكو ونابليون وكليبر وأتاتورك وستالين وهتلر والقذافي وشارون أسماءُ تجبرت وظنت أنها ملكت التاريخ وهي اليوم متكدسة في مزابل التاريخ.. فسِرْ في طريقك مستعليا *** ودع ضفادعهم تصطخبْ فمن كان جذلان فليبتسم *** ومن كان غضبان فلينتحبْ قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [سورة الإسراء: 81] وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم: 47] وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]. القوةُ الحقُّ رغم الجاحدين به *** وما سواه قد استعلى وما صمدا من طار في غير أجواء له خُلِقت *** يهوي ولكن بلا ريش به صَعَدا بتصرف من كلام للشيخ علي القرني. --------------------------- 1 - البخاري /2965، ومسلم /1742 2 - مسلم 2889. 3 - تفسير ابن كثير 4/70. 4 - القرطبي 8/23. 5 - تفسير المنار 4/142. 6 - أبو داود /2540 وصححه الألباني. 7 - البخاري / 7405 - مسلم / 2675. 8 - تفسير القرطبي 4/231. 9 - مسلم /1763. 10 - البخاري- الفتح 6 (2837) وهذا لفظه. ومسلم (1803). 11 - تفسير المنار 4/142. 12 - إغاثة اللهفان (182/2).
محمد ويلالي
عباس شريفة
ماجد الدرويش
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة