تصدير المادة
المشاهدات : 4469
شـــــارك المادة
السياسة كلمة مظلومة، ظُلمت مرتين، مرة من الذين مارسوها زوراً وبهتاناً، فكانوا كلابس ثوبي زور، وكان السياسي عندهم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان. وفرَّ منها قوم آخرون فقالوا: لعن الله السياسة، وكلمة ساس ويسوس، فظلمت مرة أخرى.
مع أن السياسة في أصل معناها اللغوي: هي القيام على الشيء بما يصلحه، وهو معنى إيجابي جميل، وأما السياسة في شرعنا فهي: "استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجِّي في العاجل والآجل". وإنني أجزم أخي المسلم بحسب ما أفهمه من حقيقة إسلامنا: إنَّ ديننا كلَّه سياسةٌ، وإن السياسة ركن أصيل من الدين. فإن أردت السياسة بالمعنى الأعم فديننا كلّه سياسة، فالتوحيد سياسة، والصلاة سياسة، والزكاة والصيام والحج سياسة، والعمل بمكارم الأخلاق سياسة، وقد صنفت كتب في "تهذيب الأخلاق" بعنوان: "السياسة"، فالدين من أعلى شعبه إلى أدنى شعبة فيه هو سياسة، لأن في كل ذلك استصلاحٌ للفرد والمجتمع ظاهراً وباطناً. وهذه هي السياسة التي كان يقوم بها الأنبياء - عليهم السلام - كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كانت بَنُو إِسْرَائيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبيَاءُ، كُلما هَلَكَ نَبيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبيَّ بعدي، وسيكون بعدي خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ)). وأما السياسة بالمعنى الأخص فهي: "القانون الشرعي الذي وُضع لرعاية مصالح الناس، من حدود وأحكام وآداب". وهذه السياسة هي التي يقوم الملوك والسلاطين والقضاة، وبهذا المعنى صنف العلماء كتباً بعنوان: "الأحكام السلطانية"، و"السياسة الشرعية"، و"الطرق الحكمية". وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يقوم على سياسة الناس ظاهراً وباطناً، وتبعه على ذلك الخلفاء الراشدون، وكانت خلافة على منهاج النبوة، ولكن لما ضعف العلم في الخلفاء فيما بعد، أصبح الحكام أخص في سياسة الناس ظاهراً، والعلماء في سياستهم باطناً. وكلمة السياسة إذا أطلقت عند علمائنا لا يراد بها إلا السياسة الموافقة للشرع، ولكنها أصبحت تُقَيَّدُ في العصور المتأخرة بلفظة (الشرعية)! فيقولون: هذه سياسة شرعية وهذه غير شرعية، والسبب في ذلك هو ما استجدَّ في حياة الناس من تغيير وتبديل، وما طرأ في حياتهم من حوادث، فعمد كثير من الحكام والقضاة إلى حلها بطريقة تخالف الشرع، وإذا قيل لهم: لما فعلتم هذا، قالوا: فعلناه سياسة، فردَّ عليهم المحققون من أهل العلم: إن هذه سياسة تخالف الشرع فهي غير شرعية. ومن هنا كانت بداية الانفصال بين السياسة والشرع!!. وقد أشار شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في «مجموع الفتاوى» (20/392-393) إلى تاريخ هذا الانفصام المبتدع بين (الشرع) و(السياسة)، فقال: "فلمَّا صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد لهم القضاء مَن تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذٍ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتَّى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أَنْ يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك أنَّ الذين انتسبوا إلى الشرع قصَّروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة؛ إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتَّى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال، وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوعٍ من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى، ويتحرَّى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى، ويحابون القوي ومَن يرشوهم، ونحو ذلك". انتهى. فكانت نتيجة تقصير أهل الحق في بيانه، جعل غيرهم ممن قصر فيه أن يملأ الفراغ بما يخالف الشرع، فأصبحت كلمة السياسة مقابلة لكلمة الشرع. بل للأسف قد أصل بعض الفقهاء لهذا التفريق من غير قصد، قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في «مجموع الفتاوى» (20/391-392) - مبيناً هذا التأصيل الفاسد راداً عليه - ما نصُّه-: "يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين، وفي تصانيفهم، إذا احتجَّ عليهم مُحتجٌّ بِمَن قتلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أو أمر بقتله؛ كقتله اليهودي الذي رضَّ رأس الجارية، وكإهداره لدمِ السَّابَّةِ التي سَبَّتْهُ -وكانت معاهدة-، وكأمره بقتل اللوطي -ونحو ذلك-؛ قالوا: هذا يعمله سياسةً! فيقال لهم: هذه السياسة؛ إنْ قلتم: هي مشروعة لنا؛ فهي حقٌّ، وهي سياسة شرعية. وإن قلتم: ليست مشروعة لنا؛ فهذه مخالفة للسنة. ثم قول القائل -بعد هذا-: سياسة؛ إمَّا أَنْ يريد أنَّ الناسَ يساسون بشريعة الإسلام، أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام. فإِنْ قيل بالأول؛ فذلك من الدين، وإِنْ قيل بالثاني؛ فهو الخطأ! ولكن منشأ هذا الخطأ: أنَّ مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وسياسة خلفائه الراشدين". انتهى. فهذا الفراق بين الشريعة والسياسة قد وقع منذ زمن العباسيين، واتسع هذا الفرق بِمُضِيِّ الزمن، ثم جاءت اللادينية (العلمانية) زاحفة لنا من ديار الكفر، فتلقفها دعاة على أبواب جهنم، من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فأعلن الفراق الأبدي بين الدين والسياسة، فقالوا: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وأصبحت كلمة الإسلام من الموبقات الفكرية، بل هي عندهم من الجمع بين المتناقضات. وما علم كل هؤلاء أن ديننا كله سياسة، والسياسة من ديننا. وينبغي أن تعلم أن هذه السياسة بالمعنى الأخص ليست مقتصرة على نصوص الوحيين الشريفين، بل كل اجتهاد مبني على الكتاب والسنة ولا يخالفهما، وفيه تحقيق لمصلحة الناس هو داخل في السياسة الشرعية، فهي توقيفية اجتهادية. وقد نقل ابن القيم في كتابه المستطاب «إعلام الموقعين» (4/283) مناظرةً جرت بين ابن عقيل الحنبلي وبين بعض الفقهاء القائلين: (لا سياسة إلاَّ ما وافق الشرع)، بيَّن فيها الجانب الفاسد لهذا القول بتفصيل بديع، حيث قال - رحمه الله - تعالى- ما نصُّه: "وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء؛ فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة الشرعية هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلاَّ ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإِنْ لم يشرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا نزل به وحيٌ. فإِنْ أردتَ بقولك: (لا سياسة إلاَّ ما وافق الشرع)؛ أي: لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح، وإِنْ أردتَ لا سياسة إلاَّ ما نطق به الشرع؛ فغلط، وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلاَّ تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق عليٍّ -كرَّم اللَّه وجهه- الزنادقة في الأخاديد، ونفي عمر نَصْرَ بن حجاج). قلتُ -أي: ابن القيم-: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك، ومعترك صعب، فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود، وضيَّعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرةً لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحةً من الطرق التي يعرف بها المُحِقَّ من المُبطِلِ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنَّها أدلة حقٍّ، ظَنًّا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع. والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة، والتطبيق بين الواقع وبينها، فلمَّا رأى وُلاَةُ الأمر ذلك، وأنَّ الناس لا يستقيم أمرهم إلاَّ بشيءٍ زائدٍ على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العَالَم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل، وفسادٌ عريض، وتفاقَمَ الأمرُ، وتعذَّر استدراكه. وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قِبَلِ تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْطِ، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحُهُ بأيِّ طريقٍ كان، فذلك من شرع اللَّهِ ودينه، ورضاه وأمره. واللَّه -تعالى- لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد، ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه، وأدل وأظهر. بل بيَّن ما شرعه من الطرق أنَّ مقصوده إقامة الحق والعدل، وقيام الناس بالقسط؛ فأيُّ طريقٍ استخرج بها الحق ومعرفة العدل، وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شَرَعَهُ من الطرق على أشباهها وأمثالها، ولن تجد طريقًا من الطرق المُثْبِتَةِ للحقِّ إلاَّ وفي شَرْعِهِ سبيلٌ للدلالةِ عليها، وهل يُظنُّ بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟! ولا نقول: إنَّ السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها، وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي، وإلاَّ فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع". ثم ضرب - رحمه الله - أمثلة لعمل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالسياسة الشرعية، وخلفائه الراشدين من بعدِهِ؛ فانظرها. وكلُّ هذا يدلنا على أن الشريعة الربانية شاملةٌ قابلةٌ لكل زمان ومكان، قال - تعالى -: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
رابطة خطباء الشام
مجاهد مأمون ديرانية
محمد العبدة
محمد المحمد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير