..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

كيف تنجح أي مفاوضات مع طرح «التقسيم» وعداً أو وعيداً؟

عبد الوهاب بدرخان

١٨ مارس ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2957

كيف تنجح أي مفاوضات مع طرح «التقسيم» وعداً أو وعيداً؟
الوهاب بدر خان+0.jpg

شـــــارك المادة

مستفزةٌ ومروّعة تلك السهولة التي اتّبعها اللاعبان الأميركي والروسي في تمرير مصطلحي «التقسيم» و«الفدرلة» في سياق جدلهما على «وقف العمليات العدائية» في سورية.

كان تشاورهما في شأن الأزمة بدأ منذ أسابيعها الأولى، تعاونا بالتصاقٍ قلّ نظيره على ترك الصراع يتعمّق ويتعفّن و«يتدعّش»، اختلفا علناً وتوافقا سرّاً ثم تخاصما شكلاً واتفقا دائماً، ثم، فجأةً، أصبحا متعجّلين الحل، ليس حقناً للدماء، ولا حتى بسبب أخطار الإرهاب وتنظيماته، كما يمكن الاعتقاد، بل لأن للدولتين مشاغل اخرى، ولأن حسابات فلاديمير بوتين لشهور التدخّل الستة في سورية وحسابات باراك اوباما للشهور العشرة المتبقة له في البيت الأبيض باتت تتطلّب تظهير الحصص وتوضيح المصالح استباقاً لأي تغيير يفسد التفاهمات الراهنة.

لدينا هنا الدليل الى أن الدولتين الكبريين لا تتقنان سوى الاستفادة من الصراعات. قد تنجحان في ادارتها، وأحياناً كثيرة في إشعالها، أما حلّها فشأنٌ آخر. كانت الأعوام الخمسة الماضية تمريناً اميركياً يومياً على التفنن في ادارة العجز عن معالجة أي أزمة، بدءاً بالانسحاب تقليصاً لتداعيات غزو جورج دبليو بوش لافغانستان والعراق، ثم بما تبيّن أنه أسوأ من أي غزو وأي انسحاب وهو «التدخّل من دون التدخّل» في الأزمات/ الحروب المستجدّة تحت عنوان «الربيع العربي» من سورية إلى اليمن وليبيا، فضلاً عن السلبية الممنهجة إزاء مصر والبحرين، من دون نسيان الرضوخ الأميركي لزمرة التطرّف في حكومة إسرائيل لاستنباط الفشل الغبي كنمط أسوأ من الانحياز الأعمى.

وإذ ساهم الاتفاق النووي في تعزيز تقارب أميركا مع روسيا وإيران، أصبحت واشنطن أكثر ارتياحاً، لأن هذين «الشريكين» التدخّليين وغير المعروفين بأخلاقيتهما السياسية يعفيانها من الأوزار المعنوية.

وإذا كان هناك من يحمّل أميركا مسؤولية مذابح رواندا (1994)، بحكم مكانتها الدولية، فإن واشنطن تبدو كما لو أنها تشير إلى شريكيها في مسؤولية مذابح سورية، وهي الأفظع منذ بداية الألفية الثالثة. بل إن الطريق إلى هذه «الشراكة» أتاح غضّ النظر الأميركي عن جرائم التدخّل الإيراني في سورية، وبعدها جرائم التدخّل الروسي، بل مهّد للتساهل الأميركي مع استمرار بشار الأسد في منصبه، ثم التساهل مع التصفية الروسية للمعارضة المقاتلة ضدّه والتهجير المنهجي لما تبقّى من سكان في مناطق يريد اقتطاعها لـ «دويلته»، والأرجح أنها شراكة ستحول دون إحالة الأسد على المحكمة الجنائية الدولية إسوةً بما حصل لمجرمي رواندا. أكثر من ذلك، يهدف التلويح بـ «التقسيم» مكافأة الأسد و«الشريكين» إلى إعادة تركيب سورية لتتناسب مع أطماعهم.

الذريعة جاهزة، فما أقبح أن يقال أن البلد ضاع بين شبّيحة الأسد ووحشية «داعش»، وما أسهل أن يقال الآن أن التعايش بين «السوريين» صار استحالة، لكن من هم السوريون المعنيّون هنا؟ إنهم، عملياً، أعداء الأسد و«داعش» معاً. إنهم الذين يريد الأسد و«داعش» التخلص منهم ليقيم كلٌ منهما «دولته». أي أن الأميركيين والروس (والإيرانيين) باتوا يرون سورية إمّا كما يصوّرها لهم صالح مسلم سالخاً منها إقليمه الكردي، أو كما أمعن الأسد في تخريبها وكما يقدّمها إليهم، خاليةً من أهلها، «أرضاً بل شعب»، لا تاريخ لها، ولا تجربة آهلة هي بين الأقدم في العالم.

وإذ يطرحون التقسيم استجابة للوضع الذي فرضه هذا الثنائي الجهنمي فإنهم يبحثون واقعياً عن صفقة مناسبة لمصالحهم. لم يجفّ بعد حبر القرار 2254 الذي يشدّد على «وحدة سورية» فكيف يتواءم ادّعاء تطبيقه مع فكرة التقسيم، بل كيف يستقيم البحث أولاً عن صيغة مريحة للأقليات مع النظر لاحقاً في كيفية إيواء ثلاثة أرباع الشعب. إذا قدّر لصيغ كهذه أن تتمّ فالأحرى أن تدعو الأمم المتحدة إلى قمة عالمية لتشهد شطب أي عبارة في ميثاقها تقول بـ «احترام ارادة الشعوب في تقرير مصيرها». وعندئذ تحق لكوريا الشمالية وما يعادلها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

اتخذ أوباما قراراً صائباً بالانسحاب من العراق لكنه كسلفه جورج دبليو لم يشأ أن يدرك أهمية العراق كموقع مؤثر في توازن المنطقة واستقرارها، وكسلفه أخطأ في أنه لم يعالج الخراب الذي أحدثه الغزو والاحتلال ولم يهتمّ بوضع أسس سليمة لمعالجة كهذه، بل ترك الفوضى لعناية إيران، التي تعرف أميركا أنها أقرب إلى دولة مارقة منها إلى دولة طبيعية. لذلك لم يكن نتاج الغزوَين الأميركي والإيراني سوى هذا المخلوق الوحشي الذي اسمه «داعش».

في العراق أيضاً قيل ويُقال أن تعايش السنّة والشيعة صعب، وفي أيام سيء الذكر نوري المالكي كان السُنّة مخيّرون في الخضوع لأحد إرهابَيْن: إمّا إيران وميليشياتها وإمّا «داعش». وعلى رغم أن «المصالحة الوطنية» على أجندة البلد إلا أن مجرد الحديث عنها صار كأنه منافٍ للعقل أو خارج أي سياق، وهناك مَن استسلم أخيراً لاستخلاص مفاده أن دستور 2005 خطّط للتفسّخ الجغرافي عندما شرّع فدرلة الإقليم الكردي أكثر مما أسس لإعادة توحيد الشعب والدولة، وعلى رغم أن الفيديرالية تعني البقاء في كيان دولة واحدة فقد كان معروفاً أن الكرد ذاهبون إلى الاستقلال الكامل أو إلى أقصى درجة من الانفصال.

ومنذ الغزو صارت مسألة وحدة العراق قيد التداول، حار بها الأميركيون ونصح جو بايدن بتقسيمه قبل أن يصبح نائباً للرئيس، أما الإيرانيون فتمسكوا بوحدته لكن تحت هيمنتهم. بين العجز الأميركي والطمع الإيراني نال «داعش» إمكان الحسم بإخضاع المحافظات السنّية، لكن ضربه وطرده بات اليوم إيذاناً بالعدّ العكسي لـ «فدرلة» هذه المحافظات.

في سورية كما في العراق، كما في ليبيا واليمن، كان الديكتاتوريون بوجهين، واحدٌ مزيّف يظهرهم رموزاً لوحدة البلد والشعب ولو بالقمع والبطش وسفك الدماء، وآخر حقيقي أظهر بعد سقوطهم (بمن فيهم بشار الأسد) أنهم كانوا يحكمون بانقسامات قديمة حافظوا عليها وبأخرى افتعلوها واحتضنوها وقد فعلت فعلها في شرذمة الشعوب وتقاتلها طوائفَ ومذاهبَ واثنياتٍ وأعراقاً ومناطقً وهوياتٍ.

كان للديكتاتوريين رعاة وسماسرة وزبائن، من دول عظمى أو أقل عظمة، دعموهم وصنعوا أيام عزّهم وقدّموا أنفسهم ضامنين للأمن والاستقرار، ثم انقلبوا عليهم يوم اهتزّت أنظمتهم ليتبين أنهم لا يضمنون أمناً ولا استقراراً بل إنهم لم يعرفوا عن هذه البلدان والشعوب سوى أنها كانت ويريدونها أن تستمرّ أدواتٍ وملاعبَ لسياساتهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتقسيم البلدان لتوزّع النفوذ والمصالح فيها بين القوى الخارجية.

فالحروب الأهلية تسببت بتشظّيات سياسية واجتماعية لا يستوعبها قطب دولي واحد أو اثنان، ما استوجب نمطاً من التفدرل بين هذه القوى لتقسيم المقسَّم وتقاسمه.

إذا سألتَ عن العراق يقول المجيبون أن إيران و«داعش» و«الحشد الشعبي» أسباب موجبة للتقسيم. قد لا يختلف الأمر بالنسبة إلى اليمن بسبب إيران والحوثيين، إذا طُرح التقسيم. وفي ليبيا ازداد وسواس الأقاليم الثلاثة حضوراً مع وجود ثلاث حكومات وصعوبة الحل السياسي على رغم تصاعد الخطر «الداعشي» وتنامي ظروف التدخّل الدولي.

أما في سورية فيتوعّد «الراعيان» الأميركي والروسي ويتظاهران بالضغط والرهان على مفاوضات تبقى الآمال في نجاحها ضئيلة جداً. وكيف تنجح بعدما تبرّع «الراعيان» بالإشارة إلى نتيجتها (تقسيم أو فيديرالية)، قبل أن تدخل فعلاً صلب الموضوع. صحيح أن فكرة التقسيم، وما شابه ذلك، كانت دائماً في خلفية المشهد، منذ ترويج نظام حافظ الأسد فضائل حكم الأقلية للغالبية و«تثقيف» طائفته على مبدأ «نَحكُم ولا نُحكَم»، وخصوصاً منذ تشجيعه الوحشية الأمنية والمعاملة الرعاعية لأبناء الشعب، وهي سلوكيات زادت همجية خلال عهد الأسد الابن... إلا أن سيناريوات التقسيم ومعادلاته وخرائطه اصطدمت دائماً بواقع جغرافي - اجتماعي غير مواتٍ، ولم يبقَ لبوتين وأوباما سوى الإقرار بأن مجازر الأسد والإيرانيين، بعد مجازر صدّام ومَن خلفوه، وبعد مجازر الإسرائيليين، هي التي مهّدت لـ «عهد الدويلات» في الشرق الأوسط الجديد.

 

 

الحياة اللندنية

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع