غازي دحمان
تصدير المادة
المشاهدات : 3289
شـــــارك المادة
اتصفت السياسة الروسية في سورية باتباعها تكتيك الموجات التصعيدية، وبدت كل موجة منفصلة عن الأخرى، سواء لجهة أهدافها القصيرة المدى، مثل إبعاد المخاطر عن مناطق تجمع الأقليات، أو لجهة حجم الانخراط ونوعية الأسلحة المستخدمة، وحتى طبيعة التفاعلات الجارية مع اللاعبين الآخرين، سياسيةً كانت أو عسكرية، فكما ناورت موسكو على خط واشنطن، لتغير مقاربتها عبر مؤتمر فيينا وقرار مجلس الأمن 2254، وصولاً إلى الاتفاق على خطة لوقف إطلاق النار، مارست على المقلب التركي سياسة الاستفزاز المدروسة تجاه تركيا، والتي انتهت بإسقاط طائرة السوخوي التي نتج عنها، لاحقاً، انكفاء تركيا نهائياً واستفراد روسيا بوضع قواعد اللعبة.
لكن، في رؤية كاملة للمشهد، يتضح أن تلك الموجات ليست منفصلة، وهي سلسلة توالدية، بحيث تهيئ السابقة للاحقة، وإذا كانت الموجة الأخيرة المنطوية على تكتيكٍ يهدف إلى إجهاض إمكانية قيام تحالف إقليمي، بدأت تتبلور ملامحه، فإن النية تذهب إلى الرغبة في إغلاق سلسلة الموجات، واختتامها بتغيير كبير بحجم تقسيم سورية، يهدف إلى وضع اللاعبين الآخرين أمام أمرٍ واقع، يدفعهم إلى أحد خيارين: التعامل بواقعية من لا حول له ولا قوة، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية والمنطقة. وبذلك تكون موسكو قد انتقلت من مرحلة الاستثمار في الأزمة إلى مرحلة بدء جني العوائد المتوقعة.
هل نضجت الحالة السورية لمثل هذا الخيار، أو التطور، ولم يعد مجدياً تجريب خيارات أخرى؟
ليست الإشكالية في سورية، بقدر ما هي عند روسيا، وتسريع موسكو الذهاب إلى هذا الخيار هو انعكاس لطبيعة الأزمة عندها، وليس لواقع سورية، ذلك أنه ليس شرطاً أن تفضي أزمةٌ في بلدٍ ما، حتى لو كانت حرباً أهلية، إلى حالة انقسام، والدليل أن موسكو عملت على تثمير عناصر الانقسام في مفاصل الأزمة السورية، وتكريسها معطياتٍ غير قابلة للإزاحة، وتجسد ذلك عبر إصرارها على توصيف بشار الأسد والمليشيات الشيعية طرفاً طبيعياً في الصراع، عبر خطة وقف إطلاق النار المتفق عليها مع واشنطن.
لكن، ما هي دوافع الكرملين ومحفزاته للذهاب إلى مثل هذا الخيار الخطير؟
ثمّة مؤشرات عديدة، مصدرها روسيا نفسها، تفيد بأن فلاديمير بوتين لا يملك ترف الوقت الكافي، لانتظار تحقيق أهدافه في سورية، إجراءات أميركا و"الناتو" تخنقه. وقد بدأت النتائج السلبية لعقوبات أوروبا تظهر بقوة على اقتصاده، وشكل عامل انخفاض أسعار الطاقة متغيراً سلبياً طارئاً ومدمراً.
وقد ساهمت هذه المتغيرات في التأثير على الاستراتيجية الروسية، حتى على المديين، القصير والمتوسط، وبأسرع مما كان يتوقعه خصوم روسيا، ووضعت نفوذ موسكو في دول الجوار "التي تعتبر المجال الحيوي للأمن القومي الروسي" في وضع خطير، بل وأثرت على استراتيجية موسكو في التحوّل إلى قوّةٍ معتبرةٍ في النظام الدولي من خلال استثمار عناصرقوتها المالية والعسكرية، ذلك أن إدارة بوتين ارتكزت، في بناء نفوذها، وقوتها من خلال القروض والهبات وبشروط ميسرة، بهدف تشكيل حوافز لحث الدول المستفيدة على اتخاذ قرارات سياسية خارجية، بما يتماشى مع الاحتياج الروسي، واحتمالية تراجع الدعم من شأنه أن يخرج تلك الدول من دائرة النفوذ الروسي، والبحث عن مصادر غربية، مثل روسيا البيضاء التي تعيش على الدعم، وكذلك أرمينيا وقيرغيزستان وكازاخستان، وهي دول تقع في نطاق النفوذ الروسي المباشر، ويهم موسكو بقاء هذه الدول بعيدة عن التأثير الغربي، وخصوصاً تلك الواقعة في الطرف الأوروبي، كما سعت موسكو إلى إتباع الآليات نفسها مع دول أوروبية، صربيا وبلغاريا واليونان والمجر، لتحقيق أغراض استراتيجية معينة في مواجهة حلف الناتو والغرب، وحتى دول ذات تأثير إقليمي وموقع استراتيجي، مثل مصر وإيران. بوتين الذي على اطلاع تام على وضع احتياطاته المالية، وتراجع الصناعة الداخلية، يحركه هاجس أن الغرب يدير عملية استنزاف له في سورية. وبالتالي، إفشال كل مناوراته وجهوده على مدار السنوات السابقة، ودفعه إلى خفض سقف توقعاته في التفاوض معه في الملفات الأخرى. لذا، فهو يحاول الدفع بمتغيراتٍ مفاجئةٍ، تعيد الغرب إلى سكة الصدمة، وتدفعه إلى تغيير سياساته تجاهه، والدفع باتجاه التقسيم وتحطيم النظام الإقليمي الشرق أوسطي، أحد أهم أدواته الصراعية وأوراقه التساومية.
على ذلك، يبدو بوتين محكوماً بزمن محدّد، يكون خلاله قد رسم تماماً جغرافية تموضعه ونفوذه في سورية، المناخ الاستراتيجي الراهن مقدم على تغييراتٍ، تتمثل بقدوم إدارة أميركية جديدة. الآن هو قادر بتكتيكات دبلوماسية على مواجهة إدارة باراك أوباما، وإنفاذ جهدها، في حين أنه سيضطر إلى ما هو أكثر من ذلك، مع إدارة جديدة، بما يفوق جهود روسيا وقدراتها. كما تواجه موسكو بدايات تمرد أوروبية، من شأن تلاقيها مع اتجاهات التحركات العربية والإقليمية، ووصولها إلى حالة من التبلور، التأثير بدرجة كبيرة على مشاريع موسكو في سورية والمنطقة، وهذا ما يشكل حافزاً لإدارة بوتين، لكي تسرّع بتغيير المعطيات في سورية، بما يمكنها من إجهاض أي إمكانية لتخريب سيناريوهاتها السورية.
وتنطلق استراتيجية موسكو في الاستفادة من خطة وقف إطلاق النار، والانتقال إلى المرحلة التالية في استراتيجيتها التقسيمية، من جملة ركائز، ستبدأ معالمها في الظهور في المرحلة المقبلة: - إيجاد حالة من الفوضى في سورية بدرجة أكبر، بإيجاد دينامية صراعية بين الأطراف المعارضة للأسد، بذريعة التفريق بين إرهابي ومعتدل، وبالتلميح إلى وجود أطراف سورية معارضة، تتعاون مع الخطة الروسية، وتنسق معها على الأرض. - العمل على خطوط الصدع بعنف، مثل تظهير حدود الإقليم الكردي في سورية، وفرضه واقعاً منجزاً، وتهديد طرق المواصلات في البحر الأبيض المتوسط، بذريعة الحفاظ على أمن القواعد الروسية فيه. وهذا نمط من تزخيم فعالية الوجود الروسي ورفع سقفه التفاوضي، بما يضمن الدفع إلى ترتيباتٍ تستطيع روسيا من خلالها، ترسيخ مكاسبها، والانتقال إلى مرحلة ما بعد التقسيم. - تحييد القوى الإقليمية ما أمكن، على الأقل مدة محدودة، حتى تظهير ملامح إجراءاتها، وذلك من خلال جملة من التكتيكات. العزل كما هو حاصل مع تركيا، أو عبر التطمين والتسكين، كما هو حاصل مع الأطراف العربية. وعندها، يصبح من المستحيل على هذه الدول القيام بأكثر من إجراءات دفاعية داخل حدودها، لن يكون لها تأثير على خريطة تحركات موسكو في سورية، ولا على المشهد الذي ستصنعه هناك. - استدراج المجتمع الدولي إلى قبول حالة التقسيم، بعد أن يجري تيئيسه من إمكانية نجاح أي خياراتٍ بديلة، وتصوير التقسيم بوصفه الخيار الأقل سوءاً، وذلك للحفاظ على الأقليات والمجتمعات المدينية في سورية. ما هو المدى الزمني لصناعة هذا المشهد؟
نحن إزاء مشهدٍ منهك، لا يحتاج تحطيمه أكثر من مدى زمني بسيط، وهو الزمن اللازم للإعلان عن البدائل، ولن تكون مرحلة فحص الهدنة، الفاشلة أصلاً، سوى فترة لإقناع إدارة أوباما بعدم وجود خيارات بديلة، المرحلة التي تلي ذلك ستركّز على المحافظة على هذا التشكّل الناتج وترسيخه، وستتمكن روسيا، حينها، من تطوير استراتيجيتها وتحويلها إلى طور الإنتاج، لأنه سيكون لديها معطيات جديدة: وجود ثابت في المتوسط، يحمي بوتين من التداعيات الداخلية، ووضع مربك للأطراف الخارجية التي ستجد نفسها أمام واقع تهديدي، يدفعها إلى البحث عن مخارج بالنسبة لها، وليس للحالة السورية، كما يدفعها إلى التوافق مع الاستراتيجية الروسية، ولو بالإكراه، نتيجة سلسلة التداعيات المتوقعة. بالطبع، لن تكون روسيا محميةً من التداعيات، ولن تكون في وضع مريح بشكل مطلق، لكن الحسابات الروسية تقوم على قاعدة أن هذا الخيار هو أفضل الخيارات السيئة الممكنة. وليس من الواقع تصور أن روسيا ستضع نفسها في مأزق، وتحت سكاكين مختلف الأطراف، كما أن الجميع، باستثناء روسيا، ليست لديهم رؤية واضحة. لذا، لن يكون مستغرباً تطوير هذه الرؤية، وتحويلها إلى واقع، ولا يمكن لموسكو صرف كل تلك الموارد وتزخيم خطوط القتال واللعب على حافة الهاوية، من دون توقع مردود بحجم اقتطاع مساحة على المتوسط بمثابة ملكية خاصة وحصرية لها. ما العمل؟ لا حل، في مواجهة سياسة الموجات الروسية، سوى وجود مبادرة من الدول الإقليمية، تستثمر مناخ الاضطراب والانقسام في إدارة أوباما، وتشجّع أوروبا على تحويل تململها إلى سياسات إجرائية. مبادرة تصل إلى حد اللعب على الحافة بمنطق بوتين نفسه. مع الانتباه إلى حقيقة نجاح استراتيجية روسيا حتى الآن في سورية تعود إلى أن بوتين يدير استراتيجيته بخليط من سياسات حافة الهاوية مع الدول الإقليمية، واستخدام تكتيكات مع أميركا تقوم على إقناع إدارة أوباما، بأن موسكو تعمل على إراحتها من الصداع الشرق أوسطي. - يجب كسر المعادلة الروسية القائمة على رأي عام نامٍ، ومناخ استراتيجي سهل وإجراءات إقليمية متأخرة. كسر أحد أطراف هذه المعادلة سيدفع إلى انهيار التقدم الروسي. مشكلة المواقف الإقليمية والعربية أنها متأخرة، وبدل أن تكون أفعالاً تتحول إلى ردات أفعال متأخرة. وثمّة فارق، من حيث القوة والتأثير بين الفعل ورد الفعل، لأن الفعل يصنع قواعد اللعبة، ويحدّد قواعد الاشتباك، في حين يأتي رد الفعل لمحاولة تقليل الخسائر أو تعديل ما أمكن، ودائماً يخسر.
العربي الجديد
سلام السعدي
أنور مالك
برهان غليون
أحمد موفق زيدان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة