غازي دحمان
تصدير المادة
المشاهدات : 2915
شـــــارك المادة
على مدار خمس سنوات مضت، انتقلت سورية في إدراك إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من موقع إلى آخر، مرّة جرى وضعها في قلب العالم، وصارت البؤرة التي تحدّد سلامه واستقراره، ومرّة صارت على هامش العالم، وحينذاك لم يكن ثمّة داع سياسي وأخلاقي للتمييز بينها وبين الكونغو. وأخيراً، تاهت، ولم يعد يعرف أوباما نفسه أين صارت.
ربما تحتاج إدارته هذه الديناميكية الإدراكية المتطوّرة دائماً، لتتمكن من ترتيب سياساتها وقراراتها، سورية عائمة في فضاء غير محدّد أفضل من سورية محدّدة المعالم يمكن بسهولة قراءة أبعاد كارثتها، وتظهير الالتزامات الواجبة تجاهها، لكن سورية، وفق هذه الشاكلة، تصبح قضية كلاسيكية "ثورة حريّة" من تلك القضايا التي عاينتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولم تنطو على فرص استراتيجية خلّاقة، تساعد واشنطن، في نقلتها إلى زمن مختلفٍ، في عالم العلاقات الدولية. ثمّة من تسرّع، وأطلق على هذا النمط من خليط السياسات "غياب الرؤية الإستراتيجية"، بحيث تتقزم الإستراتيجية إلى جملة سياساتٍ غير مترابطة، وغير هادفة، في الوقت نفسه. ويلّطف بعضهم هذا التوصيف بالقول بـ "ضبابية الرؤية الإستراتيجية"، وهي حالة صانع القرار المرتبك تجاه قضيةٍ، وعدم قدرته على تحديد الخيار المناسب للتعاطي معها. وفي الواقع، يستحيل وضع إستراتيجية واضحة مع غياب وجود حالة ثبات يمكن الانطلاق منها، بحيث يمكن وضع ركائز الإستراتيجية تلك، وإمكانية تطويرها وفق مقتضيات تطوّر الحالة نفسها. ليست سورية في منظور إدارة أوباما جغرافيا ولا ديمغرافيا، هي قطع من أزمات عديدة، يجري التعامل مع كل واحدة بشكل منفصل. مرّة تكون على شكل أزمة سلاح كيماوي يهدّد أمن إسرائيل، ومرّة أخرى على شكل أزمة لاجئين، تهدّد بتفكيك الاتحاد الأوروبي. وفي كل الحالات، رفض الإدراك الأميركي توصيف الحالة السورية على أنها قضية أمن قومي، بقدر ما هي التزام تجاه شركاء خارجيين، يمكن لإجراءات بسيطة ومحدّدة أن تعدل من آثار التداعيات التي تنتجها. وحتى تلك الإجراءات تشمل مروحة واسعة من التصرفات التي لا تستدعي تدخلاً أميركياً مباشراً، مثل تكيف أوروبا مع أزمة اللاجئين، وإيجاد الحلول المناسبة ذاتيا، أو كأن تنسق إسرائيل عسكرياً مع روسيا. هذا الشعور بعدم الإلحاجية هو ما يظهر السياسة الأميركية بمظهر القادر على إدارة الأزمة بدم بارد، يصل إلى حد التجريب والتدرب السياسي والمساومة البعيدة الأمد، بل تحوّل سورية إلى مختبرٍ لفحص توجهات العالم في المرحلة المقبلة، ومعرفة أنماط القوة، وطبيعة الإستراتيجيات التي يفكر بها الخصوم. على ذلك، بقدر ما تصبح سورية بالنسبة لروسيا مختبراً لنماذج الأسلحة الحديثة لديها، تعتبر واشنطن سورية أيضاً مختبراً لمعرفة فعالية السلاح روسيا في أي حرب قادمة، واكتشاف ما تخبئه من أسرار عسكرية، إن على مستوى تقنيات الأسلحة، أو على مستوى الخطط والإستراتيجيات. وفق ذلك، تبدو سورية في مدرك إدارة أوباما جغرافيا محمولة على سفينة أو طائرة. وفي الحالتين، هي ذات طبيعة متحركة ومتنقلة، مرّة تصبح على تماس التخوم الأوروبية، عندما تشتكي أوروبا من أزمة المهاجرين. حينها تضع تلك الجغرافيا رحاها بالقرب من أوروبا، ومرّة تصبح على الحدود الروسية، وعلى مشارف موسكو، عندما يتم تفهم السلوك الروسي إزاءها. وحينها، تغدو سورية واحدةً من دول آسيا الوسطى التي تقع في الحرم الروسي، ومرّة تحط على حدود الكونغو وتتأفرق أزمتها، فيطلب أوباما من الذين ينتقدون تراخيه عن التدخل التفريق بين أزمة الإنسان في الكونغو وأزمة نظيره السوري، وبالتالي، عدم إمكانية تفضيل أحد عن الآخر، والتدخل لصالح هذا وعدم التدخل لصالح ذلك. ولعل ما يسلط الضوء على حقيقة أن سورية هي جغرافيا متحركة، تغيب، أحياناً، عن مراصد إدارة أوباما، اكتشاف الرئيس أوباما نفسه، أخيراً، أن التدخل الروسي علامة على ضعف الأسد! أو كأنه ليس من البديهي أن يتم هذا التدخل نتيجة ضعف الأسد. وليس رفاهية تمارسها روسيا، على الرغم من أن سكان جبال الإكوادور وصل إليهم، منذ فترة بعيدة، أن نظام الأسد متهالك، ويستعين حتى بأفراد يتم جمعهم من مخيمات الأفغان في إيران، ومن جبال باكستان، والمغامرين العراقيين الباحثين عن ساحاتٍ لتنفيس احتقاناتهم، وهذا يثبت أن أوباما غائب عن تفاعلات الميدان السوري، ومنذ عشية الليلة التي أنجز فيها الاتفاق مع بوتين، لتسليم الأسد سلاحه الكيماوي. وأيضاً، ما يؤكد هذه الحقيقة دراسة نشرها مركز أبحاث بروكنجز تكشف أن أوباما يصم آذانه عن كل ما يخص سورية، ولا يعطي فرصة لمستشاريه، لتنبيهه بالمتغيرات الخطيرة التي تحصل في ذلك البلد، وإنه ينطلق من افتراضات أولية وتبسيطية للأزمة، ويرفض بشكل مطلق مغادرتها، أو بناء بدائل منطقية لها. ومن الواضح أن سورية ستبقى دائمة التنقل، ولن تحظى بأي شكل من أشكال الإقامة، ما دامت إدارة أوباما باقية، بل إنه سيفرض على أي إدارة قادمة التعاطي معها بهذا الخليط نفسه من الإجراءات والسياسات، وربما شكّل هذا الأمر أحد المحركات التي تنطلق منها الحملة الروسية الإيرانية الأخيرة على سورية، حيث تتسارع الخطى، لجعلها حقيقة خارج إمكانية القدرة على التعاطي، بعد أن يتم تشكيلها بمقاسات وتصاميم خاصة.
العربي الجديد
طلعت رميح
فايز سارة
طارق الحميد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة