..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

التربية الإيمانية في العهد المكي

فايز الزهراني

٣١ يناير ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6256

التربية الإيمانية في العهد المكي
699.jpg

شـــــارك المادة

تالله! إنّ للحديث عن العهد المكيّ رهبةً في القلب، وخشوعًا في النفس!
فلله أعبُدٌ وإماءٌ وضحتهم شمس مكة، وأنهكَ أجسادَهم العذابُ في سبيل الله!
وفدًا لذلك الصوت الجهوري المنبعث من تحت دروع الحديد وقد صهرها وهج الصيف: «أحدٌ أحد».
وسحقًا وألف لعنةٍ على من أنفذ الحربة في جسدك الطاهر لأنكِ آمنتي بالله يا «سميّة».

مدخل:
مؤمنٌ مكيٌّ ثالث: سعد بن أبي وقاص الزُهري رضي الله عنه أسلم في أيام الإسلام الأولى، وهو شاب في السابعة عشرة من عمره[1] يقول: مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام[2]. وكان على رأس فريق من المسلمين يتخفون في شعاب مكة لإقامة الصلاة، وفيه وفي غيره نزل قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، وعندما اصطدموا بالمشركين كان أول دمٍ أهريق في سبيل الله على يديه. وحين أشار نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين لم يستطع أن يمنعهم من أذى قريش بالهجرة الأولى إلى الحبشة؛ بقي سعدٌ رضي الله عنه في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ولم يهاجر متحملًا في سبيل الله ما يلقاه من الأذى، وقد اجتهدَت أُمُّه في ردّه عن الإسلام بطريقة قاسية، لكنه استعصى على ذلك، مع برّه بها، وفيه نزل قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: ٨].
هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها معه، ومنها بدر والحديبية، وبلاؤه في أُحُد لا يخفى، وكان من فرسان المسلمين، ومن حراس النبي صلى الله عليه وسلم، وحين أصابه مرضٌ استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يوصي بماله كله، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلث، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد له  بالجنة، وفي دولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان سعدٌ صاحب الرأي والمشورة.
وأمّره عُمر بن الخطاب رضي الله عنه على جيش المسلمين في معركة القادسية، فكسر الفرس، وفتح المدائن، وأمّره على العراق، فعمر الكوفة، ثم اتهمه أهلها زورًا وجهلًا بأنه لا يحسن الصلاة! وهل مثل سعدٍ يجهل الصلاة؟! فرجع إلى المدينة. وجعله عمر من أصحاب الشورى الستة، وأمر بأن يستعين الخليفة من بعده به.
ثم أمّره عثمان رضي الله عنه على الكوفة مرّة أخرى.
وحين وقعت الفتنة اعتزلها هذا الأميرُ العملاق، وسكن حمراء الأسد وبقي فيها، وأثنى على موقفه هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم مات سنة خمس وخمسين محسنًا ظنه بالله، قال لابنه وهو على فراش الموت: لا تبكِ؛ فإن الله لا يعذبني أبدًا، وإني من أهل الجنة[3].
تأمل - أيها القارئ الكريم - الخط الزمني لحياة هذا الصحابي المكيّ؛ فبرغم التحولات الحادة في حياته إلا أنّ جذوة الإيمان مستمرة الوهج، لا تخبو ولا تنطفئ في أي مرحلة منها، فتجده في مراهقته متخفيًا في شعاب مكة صافًّا قدميه يصلي لله، ثم هو صابرٌ صامدٌ أمام موقف والدته منه، ثم هو جنديٌ في جيش المسلمين كأحسن ما ترى في الجندية إخلاصًا وثباتًا وإقدامًا، ثم هو الرجل المتواضع الذي لم تغره فتنة المال، فهو ينفقه في سبيل الله، ثم هو صاحب الرأي في دولة الإسلام، ثم هو القائد العسكري في المعارك، ثم هو الأمير المدني وباني الأمصار، ثم هو يترك الإمارة لشغب الرعية عليه، ثم هو الأمير مرة أخرى، ثم هو صاحب الغنم في الشعاب بعيدًا عن الفتنة متورعًا عن الدماء، ثم يقضي بقية حياته عابدًا متنسكًا بعيدًا عن الأضواء.
لقد كان الإيمان في قلب سعد رضي الله عنه دليلًا له في كل أحواله، وثباته عليه كان سمةً له في كل ظروف حياته، لا الأذى صده عن دين الله، ولا فتنة الجاه ولا المال ولا الأضواء خطفته عن مستلزمات إيمانه، ولم تكن البيئات المختلفة التي عمل بها مؤثرة على مستوى إيمانه. لقد عاش سعد وهو متمسك راسخ الإيمان في حين استضعاف المسلمين وفي حين قوتهم وفي حين دولتهم وفي حين فتنتهم.
رحماك يا ربّ!
لم يكن هذا الأمر محصورًا في شخصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وإنما هو شيء مشترك في كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رباهم في مكة حتى لقوا الله تعالى، وإن هذا الأمر ليستدعي التأمل والنظر إذا اعتبرنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد مخرجات التربية الإيمانية في العهد المكي. وفي هذه الأسطر بإذن الله؛ سنسلط الضوء على ركائز التربية الإيمانية في العهد المكي التي أخرجت لنا سعدًا وإخوانه.
ركائز التربية الإيمانية في العهد المكي:
الركيزة الأولى: التربية على استصحاب مشاهد الآخرة:
قال ابن القيم رحمه الله: قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من هذه: فترت عزائمُه، وضعفت همّته، ووهَى باعثه، وكلما كان أشدّ طلبًا للجنة، وعمَلًا لها: كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم. وهذا أمر معلومٌ بالذوق[4].
لقد كانت سور القرآن الكريم المكية تتنزل حافلة بتصوير اليوم الآخر وأهواله وحسابه وجزائه. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلفت انتباه أصحابه - على الدوام - إلى ما أعده الله في الآخرة لهم وما أعده لغيرهم، وإلى أن دار الدنيا ما هي إلا المرحلة الأولى من حياة الإنسان ستعقبها حياة البرزخ ثم المرحلة الأخيرة الآخرة؛ فإمّا جنة أو نار: {أَفَلا يَعْلَمُ إذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ 9 وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ 10 إنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} [العاديات: ٩ - ١١]، ويلفت انتباههم إلى أن الحياة الآخرة تتم صياغتها في الدنيا من خلال الإيمان والعمل والسلوك: {الْقَارِعَةُ 1 مَا الْقَارِعَةُ 2 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ 3 يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْـمَبْثُوثِ 4 وَتَكُونُ الْـجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْـمَنفُوشِ 5 فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ 6 فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ 7 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ 9 وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ 10 نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: ١ - ١١]، مما جعل الصحابة رضي الله عنهم يحاسبون أنفسهم ويدققون في سلوكهم وأعمالهم.
وحين كانت قريش تتسلط على المستضعفين من الذين آمنوا في سنوات الدعوة الأولى، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بأن هذه الآلام وتلك العذابات ستزول قريبًا بمجرد أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة: «صبرًا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة»، حيث كان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وأبيه وأمه رضي الله عنهم إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة[5]. إن الحياة لا تنتهي عند شهادة الحاضر القريب، المملوء بالمعاناة والمأساة، فهناك - في الآخرة - سيشهد أولئك المستضعفون النصرَ والفرجَ والتنكيلَ بالطغاة الذين لا يريدون سوى الصدّ عن هذا الإيمان حين امتلأت به قلوب المستضعفين {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ 3وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْـحَطَبِ 4 فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: ٣ - ٥]، {وَذَرْنِي وَالْـمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا 11 إنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا 12 وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا 13 يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْـجِبَالُ وَكَانَتِ الْـجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا} [المزمل: ١١ - 14].
إنّ من يؤمن بأن بعد الموت حياة أخرى سيعمل لها ولا شك، وأما إذا استقر الإيمان بالآخرة في قلب المؤمن فإنه لن ينظر إلى الدنيا بكل ما فيها من نعيم ومتاع وأموال وقصور وشهوات ولذائذ، وبكل ما فيها من معاناة ومأساة وعذابات وتجويع واستضعاف.. لن ينظر إليها بعينٍ سوى عين الاحتقار، ولن تنصبّ اهتماماته وطموحاته وحساباته على شيءٍ سوى الآخرة: {وَمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْـحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وحين يكون الإيمان باليوم الآخر حاضرًا في قلب المؤمن فإن سلوكه سيستقيم طلبًا لرضا الله وجنته، حيث يرى المؤمن أن حياته الدنيا هي الفرصة الوحيدة لنيل ما أعده الله في الجنة.
في مكة.. وفي سنوات الدعوة الأولى قَدِم أفرادٌ قلائل في أوقات متفرقة يريدون مبايعة نبي الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ونبذ الشرك، وهم يعلمون تبعات هذا القرار من أذى ومفارقة قوم وتخفٍّ وغيره؛ فيسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما لنا؟ فلا يزيد على أن يقول: «لكم الجنة»، لا عوض في مكة، ولا مرغبات ولا محفزات سوى الوعد بالجنة والنجاة من النار.. لقد كانت قضية اليوم الآخر حاضرة في التربية النبوية للمسلمين في العهد المكي.
أفاضت السور المكيّة التي كانت تتنزل تباعًا في العهد المكي بأحوال الآخرة ومشاهد القيامة، ولم يكن سبب ذلك إنكار المشركين للبعث والحساب فحسب، بل ثمت سبب الآخر وهو التذكير الدائم للمسلمين بهذه الأحوال والمشاهد لتكون ضابطة لسلوكهم محفزة لهم على مزيد من العمل الصالح والثبات عليه، ولتكون حاضرة في أذهانهم حين يصبحون وحين يمسون.
ولقد تكللت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الإيمان باليوم الآخر بالنجاح، وكانوا على قدر عالٍ من اليقين، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه للتابعين: لأنتم أكثر عملًا من أصحاب رسول الله ولكنهم كانوا خيرًا منكم؛ كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة[6]. وظهر الفرق الكبير فيما بعد في السلوك بين أولئك الذين أُشربوا الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم وبين أناس آمنت ألسنتهم لا غير: {إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45].
الركيزة الثانية: التربية على الالتزام بالصلاة وتعظيم قدرها:
قال يونس بن عبيد رحمه الله: خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته، ولسانه[7].
منذ الدقائق الأولى التي يدخل فيها المسلم في دين الله يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة ركعتين قبل غروب الشمس وركعتين قبل طلوعها، ثم فرضت الصلوات الخمس في حادثة الإسراء والمعراج. الصلاة من أوّل ما فُرِض على المسلمين بمكة، قال الواقدي: أجمع أصحابنا أن أول من استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل القبلة: خديجة، ثم كان أول شيء فرض الله من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان: الصلاة[8]. ونالت مزيد عناية إلهية حيث قام جبريل بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة، وكانت تعدّ العمل الأكثر دلالة على صلة الإنسان بربه وحبه إياه وخوفه منه وتعلّق قلبه به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا[9]. قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ رجلًا من المشركين بلَحْي بعير، فشجّه، فكان أول دم أهريق في الإسلام[10].
ويتملكك العجب حين تتخيل أولئك الثلّة المؤمنة رضي الله عنهم وقد حضرتهم الصلاة، وهم في خوف وسرّية، فيتسللون إلى الشعاب والأودية عبر مجموعات صغيرة، يتلفتون يمنة ويسرة، فيقوم أحدهم يرقُب الأوضاع من مسافة؛ ليصفّ الباقون أقدامهم لله تعالى، خاشعين ذاكرين، ثم يصلي هو نوبته! قال سعيد بن زيد رضي الله عنه: استخفينا بالإسلام سَنَة، ما نصلي إلا في بيت مغلق أو شعب خالٍ، ينظر بعضنا لبعض. وفي رواية للبلاذري أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فصلوا، فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في أحد شعاب مكة إذ هجم عليهم رجلان من المشركين كانا فاحشين فناقشوهما ورموهما بالحجارة ساعة، حتى خرجا فانصرفا[11].
فلمّا اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم دارَ الأرقم مقرًا لدعوته، أصبحت الصلاة أحد الأعمال المقامة فيها.
هذا الجهد والترقب والتخوف والتسلل والتحري.. كله لأجل إقامة الصلاة التي كتبها الله عليهم فرضًا لازمًا. إنها التربية على الشعيرة الأساس التي تربط الأرض بالسماء، والعبد بسيده، والمخلوق بخالقه، فيستمدّ منها الأمن والقوة والاستقرار والهداية والثبات والتوفيق ويستمد منها الحياة {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ 1الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: ١، ٢].
في الوقت الذي وصلت فيه قريش إلى مستوى سيئ من التنكّر لدين إبراهيم عليه السلام، فساءت قيمها وأخلاقها وتصوراتها.. في الوقت ذاته كانت تلك الثلّة تنخلع من الأرض لترتبط بالسماء فتبني تصوراتها وإيمانها وقيمها وأخلاقها. لقد كانت تلك الصلاة تصنع منهم ذواتًا أخرى وشخوصًا غير تلك التي كانت قريشٌ تعرفها وتألفها. كانت تلك الصلاة تبني قيمهم وإيمانهم وتُشربهم الفضائل والمعالي: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، ولقد كان منظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي عند الكعبة ملهمًا لأصحابه مثلما كان موجعًا لقريش.
وحين واجهت المسلمين موجةٌ قوية تريد صدّهم عن هذا الدين الجديد الذي غيّرهم؛ كانت التربية على إقامة الصلاة هي ذلك السدّ المنيع من الانجراف في هذه الموجة: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وحين كان المسلمون مأمورين بالعفو عن أذى قريش وعدم الاصطدام بهم أو الانتقام منهم {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: ٧٧]؛ كانت التربية على إقامة الصلاة تسهم بشكل كبير في تخفيف تلك المعاناة والضيم، من خلال ترشيد انفعالات المسلمين وتسكين نفوسهم وتهدئة ثائرتهم. لقد كانت إقامة الصلاة - ولا تزال - تخفف من الضغوطات وتعيد النفس إلى خطها الانفعالي المعتاد: {إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا 19 إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا 20 وَإذَا مَسَّهُ الْـخَيْرُ مَنُوعًا 21 إلَّا الْـمُصَلِّينَ} [المعارج: ٩١ - ٢٢]، ذلك أن الاستقرار النفسي له تأثيره الإيجابي في رفع مستوى التديّن والارتقاء في سلّم الإيمان؛ الأمر الذي كانت الصلاة تصنعه في نفوس أهلها.
إن التربية على تعظيم الصلاة المفروضة والعناية بها وإقامتها لم تكن في العهد المكي مفردة من مفردات التربية الإيمانية، وإنما هي منطلق للتربية الإيمانية وركيزة من ركائزها، ومنها تتفرع المفردات التربوية. لقد كانت مصدرًا من مصادر التربية الإيمانية، غير أنه مصدر رباني يترقى المصلي فيه سلم العبودية والإيمان وتسمو به نفسه في سماء الطهر والزكاء والنقاء. وإن على المربّين اليوم أن ينظروا إلى الصلاة المفروضة من زاوية الركائز؛ وليس من زاوية المفردات، وأن يعيدوا التأمل جيدًا في الشواهد والدلائل على ذلك.
الركيزة الثالثة: التربية على مبدأ الأخوّة الإيمانية:
جاء الإسلام للناس كافة، لم تحمله عشيرة دون أخرى، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس من جميع القبائل إلى الإيمان؛ فأبو بكر من تيم، وعثمان بن عفان: أموي، والزبير بن العوام: أسدي، وعبدالله بن مسعود: هذلي، وعثمان بن مظعون: جمحي، وخباب بن الأرت: حليف بني زهرة، وبلال بن رباح: عبد حبشي، وأسماء بنت عميس: خثعمية، وعمار بن ياسر: مذحجي.
لقد شعر المؤمنون حين دخلوا في الإسلام أن المجتمع الذي يعيشون فيه تحت راية العشيرة والقبيلة والمدينة ليس صالحًا لأن تربطه بهم وشائج وأواصر، فأبدلهم الله الأخوة الإسلامية، حيث ربط الإيمان بينهم بروابط أرقى وأعمق من روابط المجتمع والنسب.
ولقد كان اجتماعهم ببعضهم ومحبتهم لبعضهم متعلقًا بسبب واحد ورابط واحد وهو الإيمان، ولا شيء غير الإيمان.
إن التربية الإيمانية المكيّة لم تغفل الجانب الإنساني في أولئك الثلة المؤمنة التي قطعت وشائج القربى والعشيرة، بل إنها لتؤكد أن هذا الجانب الإنساني له أثره الكبير في تقوية الإيمان بالله، وذلك أن المؤمن يجد سنده النفسي والاجتماعي في إخوانه المؤمنين. وحين تلبَى الحاجة النفسية للاجتماع والحب والأخوّة؛ فإنّ ما يتلقونه أثناء ذلك من مسائل الإيمان ليجد قلبًا مفتوحًا وعقلًا قابلًا لها، فيلتقون على طاعة الله ورسوله ويتناصرون على ذلك. لقد كانت اجتماعاتهم معمورة بالطاعة، قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به»[12]، ولم تكن تلك الأخوّة لمجرد الإيناس والترفّه.
وهنا تبدو ظاهرتان في العهد المكي:
الأولى: المؤاخاة؛ وهي - والله أعلم - أقل رتبة من عقد المؤاخاة المشهور بعد الهجرة، أي أنها مؤاخاة مقصورة على المؤازرة والمواساة والعون والتذاكر والمدارسة لكتاب الله، دون التوارث وتقاسم المال. قال ابن حجر رحمه الله: وقصة المؤاخاة الأولى أخرجها الحاكم من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر رضي الله عنه: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبدالرحمن بن عوف وعثمان، وذكر جماعة؛ قال: فقال علي: يا رسول الله! إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: (أنا أخوك)»، وإذا انضم هذا إلى ما تقدم تقوّى به[13]. وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن سعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت الخطاب كان يترددّ عليهما خباب بن الأرت رضي الله عنه يقرئهما القرآن[14]. وفي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه السابقة أنه ذهب وبعض الصحابة يصلون في الشعاب. إنّ لهذه الأخوّة الخاصة دورًا كبيرًا في الثبات على الإيمان، والتقوية والعزيمة على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حيث تشكل تلك المؤاخاة لدى الأفراد انتماءً قويًا للفكرة التي انضووا تحت رايتها والمعتقد الذي ألّف بينهم؛ فتقوى العزائم وتشتد الأواصر ويترسخ الثبات.
الثانية: دار الأرقم بن أبي الأرقم. وهو الأرقم المخزومي رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام ومن عقلاء قريش وشبابها، كان عمره حين بعث الله نبيه سبعة عشر عامًا تقريبًا، وداره تقع بالقرب من الصفا، حيث تكثر هناك حركة الحجاج والزوار[15]، اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهم في أمن وسلام؛ وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة[16].
كانت دار الأرقم رضي الله عنه محضنًا يجمع بين دفء الأخوّة وعمق التربية، حيث يجتمع النزاع من العشائر والقبائل في مكان خاصٍ لا يجمعهم سوى الإيمان وواجباته، فيتلقون دروس التربية الإيمانية، ويقيمون العبادات والأعمال، ويواسي بعضهم بعضًا بما يحتاجونه. لقد كان ذلك المحضن الإيماني هو البديل عن كل صِلات القربى وروابط العشيرة وعلائق القبيلة.
لا تربية إيمانية دون محضن يستنشق فيه المتربي نقاء الإيمان، ويتروى فيه من شريعة الإسلام، ويتدثر فيه بلحاف الأخوّة الإسلامية.. إنه المجتمع الصغير الجديد، البديل عن مجتمع الرذائل والخطايا، ومهما احتاج المؤمن إلى مجتمعه الكبير: مجتمع القبيلة أو العشيرة أو الحيّ؛ فلا بدّ من محضن يأوي إليه يتزود فيه من الإيمان، ويقتبس فيه من وهج الأخوة. والآيات المكية جاءت تحث على ذلك في إشارات متفرقة: {وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} [الكهف: 16]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
إنّ الرابطة الإيمانية في مكة أسهمت في ترسيخ مفاهيم الإيمان وواجباته في قلوب أصحابها، وأحدثت نتائج مبهرة طوال تاريخ الدعوة.
الركيزة الرابعة: التربية على قيام الليل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد»[17].
هذا الحديث يختصر فضائل قيام الليل، فهو شعار الصالحين من الأمم وعاداتهم، وهو قربة لله تعالى يرفع الله به الدرجات ويحط به السئات، وهو كذلك ينهى عن الإثم؛ وهذه الأخيرة هي المقصودة هنا من الاستدلال، فإن قيام الليل بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار تسهم في الارتقاء الإيماني وتهذيب النفس واستقامتها وتورعها عن المآثم والخطايا. إنها ترفع من مستوى الرقابة الإيمانية الذاتية، وتزيد من قدرة المؤمن على التجرد والإخلاص، وتغرس في قلبه حبّ الله وحبّ طاعته وكراهية ما يبغضه الله من المعاصي والآثام. إن النفس التي تستسهل هجر الفرش الوثيرة والزوجة الأثيرة للتهجّد ليلًا يصعب عليها اقتراف الخطايا والآثام نهارًا.
كانت الوصية بقيام الليل من السنوات الأولى للدعوة الإسلامية. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان أول ما أنزل من القرآن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: ١]، ثم {ن«} [القلم: ١]، ثم {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ} [المزمل: ١]...[18].
جاء الأمر الرباني في العهد المكي بفرض قيام الليل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا 2 نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: ١ - ٤]، قالت عائشة رضي الله عنها: إن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولًا. وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء. حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف. فصار قيام الليل تطوّعًا بعد فريضة[19]. إنك تتحدث عن سنة كاملة من ثلاث عشرة سنة؛ كان قيام الليل فيها فرضًا واجبًا. إنه أمرُ مهم للغاية في تربية الصحابة على الإيمان وتثبيتهم عليه، ولله حكمة جليلة في ذلك، أبانه في كتابه حيث قال: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: ٥] أي إن هذا القرآن بما فيه ثقيلٌ في نزوله، ثقيلٌ في العمل به[20]، قال الحسن: إنّ الرجل ليهذّ السورة، ولكن العمل بها ثقيل، وقال قتادة: ثقيلٌ والله فرائضه وحدوده، وقال مقاتل: لما فيه من الأمر والنهي والحدود[21]. فاحتاج المؤمن إلى ما يعينه على القيام بواجبات القرآن الإيمانية والأخلاقية؛ فوجّه ربنا سبحانه إلى قيام الليل؛ ذلك أن قيام الليل بالصلاة والقرآن أكثر مواطأة بين القلب واللسان[22] فينتفع المصلي بذلك: {إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: ٦] قال قتادة: أثبت للخير وأحفظ للقراءة[23].
وكما أنّ قيام الليل ينهى عن الإثم ويعين على القيام بواجبات الدعوة الإسلامية؛ فهو أيضًا يربي المؤمن على إخلاص العمل لله والتجرد من حظوظ الدنيا والرغبة فيما عند الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16].
لأجل ذلك كله فرض الله على تلك الثلّة المؤمنة رضي الله عنهم قيام الليل سنة كاملة حتى انتفخت أقدامهم، ليكون بناؤهم الإيماني بناء متينًا صُلبًا متماسكًا، لا تزعزعه الأهواء ولا الفتن ولا الرزايا ولا الشهوات، ويخرج من مدرسة الليل الخاشع أعمدةُ الدعوة الإسلامية وقيادات الجهاد وحاملو رايات الفتح.
لقد كانت التربية على قيام الليل تلبية للحاجة الملحّة إلى العصمة من الشبهات والشهوات، والثبات على الدين في وقت المحن والابتلاءات.
وكأني بسالمٍ مولى أبي حذيفة رضي الله عنه قائمًا في حجرته، وبصوت خفي لا يكاد يُسمع؛ يرتّل كلام الله تجلله الرهبة والخشوع، وكأني بأبي بكر رضي الله عنه في فناء منزله صافًّا قدميه يطيل الصلاة ودموعه تتحدر على لحيته.. إنك لا تتحدث عن حوادث طارئة أو مفردة مؤقتة.. إنك تتحدث عن عادة القوم. «ولا شكّ أن في امتحانهم في هجر الفرش ومقاومة النوم ومألوفات النفس لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لا بدّ من إعداد روحيّ عالٍ لهم، وقد اختارهم الله تعالى لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات الجسيمة في تعديل مسار البشرية، وإنقاذها من الانحرافات الخطيرة، وتسديدها نحو توحيد الله وطاعته. وهي مهمة عظيمة لا يقوم بها إلا الذين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]»[24]، فتأمل كيف يتم إعداد المؤمنين وتربيتهم!
وحين انتهت الحاجة من فرض قيام الليل ونسخه إلى التطوع؛ لم يجد الصحابة الكرام مساغًا لترك تلك المناجاة اللذيذة مع ربهم وتلاوة كلامه، فنُسخ الحكم وبقي العمل، وبقيت التربية الذاتية الليلية تعمل عملها في صياغة الإيمان والثبات على الطاعة والاستزادة من الخير.
الركيزة الخامسة: التربية على ترك الفواحش والكبائر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق المحارم تكن أعبد الناس»[25].
طريق مختصرة في التربية الإيمانية، ووسيلة متحققة لغاية العبودية.
لقد كان واضحًا من بداية شروق شمس الإسلام أن الله سبحانه وتعالى يكره الفواحش والكبائر، وأنّ تركها واجتنابها من سمات المؤمنين البارزة، ومن علامات المهتدين والمحسنين التي تميزهم عن المشركين: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْـحُسْنَى 31 الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْـمَغْفِرَةِ} [النجم: 31، 32]. ولقد ظللت مندهشًا من وضوح صورة الإسلام لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بينما لا يزال في سنواته الأولى من التكوين. يبدو ذلك جليًّا في قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يخاطب النجاشي، ومما قاله: وأَمَرنا بالكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات[26]. وكانت قريشٌ آنذاك قد غرقت في وحل الفواحش والموبقات، واستطاعت أن تشرعن جزءًا منها {وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، قال البغوي: وإذا فعلوا فاحشة فنُهُوا عنها قالوا: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} قيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ قالوا: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [27].
إن مقارفة الفواحش والموبقات لتأتي على جبال الإيمان فتنقصها أو تنسفها، وإنّ استمراءها وإلفها يعني جفاف القلب وخواء الروح، ولا يستطيع من هذه حاله أن يقاوم موجة الطغيان، كيف يقاومها وهو لم يتحرّر من أُسار شهوته؟! ولا يستطيع أن يقوم بواجبات الإيمان من طاعة الله ورسوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14 كَلَّا إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّـمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14، 15].
إن هجر المعاصي وترك الذنوب بمثابة إماطة الأذى عن طريق الإيمان، وبمثابة القبض على قطاع الطريق إلى الإيمان، وبذلك تصبح الطريق سالكة مهيأة لمرتادها.
العوامل المؤثرة في التربية الإيمانية في العهد المكي:
حين تسبر عهد الدعوة الإسلامية في مكة فإنك ترى بوضوح عاملين رئيسين كانا لهما كبير الأثر في سير الدعوة وتربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الإيمان:
العامل الأول: الحضور القرآني في الأحداث والمواقف:
لقد كانت الآيات حاضرة في المواقف والأحداث تثبّت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبّت أصحابه وتوجههم إلى الأرشد والأصوب، وتطمئنهم وتسلّيهم، وتبشرهم وتُرضيهم، وتساعدهم وتعينهم، فبينما المستضعفون من المؤمنين ينالهم أذى السادة والكبراء وسخريتُهم والاستخفافُ بهم قال الله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14].
وحين أبى العاصُ بن وائل أن يعطي خبابًا رضي الله عنه حقّه، وقال ساخرًا: فإني إذا متّ ثم بعثتُ جئتني ولي ثَمّ مال وولد، فأعطيتك؛ أنزل قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا 77أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا 78 كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا 79 وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: ٧٧ - 80][28].
وحين بلغ العذاب من عمار بن ياسر رضي الله عنه مبلغه وأتى على ما يريدون من كلمات الكفر قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106][29].
وحين عمدت قريش إلى أن تعلن إسلامها المشروط بالإجابة على تساؤلاتهم وبتنفيذ مطالبهم نزلت سورة الإسراء.
وحين كثر التعذيب والاضطهاد وتقاطر المسلمون نحو الحبشة هربًا بدينهم أنزل الله تعالى سورًا أمثال القصص والعنكبوت والروم.
لقد كان القرآن المكي حاضرًا شاهدًا.
ولا تزال نصوص القرآن حاضرة شاهدة، وإن على المربين أن يردّوا مواقفهم التربوية إليها.
العامل الثاني: المعايشة النبوية:
أمّا نبي الله صلى الله عليه وسلم فمنذ أنْ أرسله الله، فإنّ عينه لا تغفو عن أصحابه الذين تبعوه على الخوف الذي عاشوه والأذى الذي لاقوه، لقد كان صلى الله عليه وسلم معهم يثبتهم ويبشرهم ويذكرهم بما أعدّ الله لهم ويمنحهم التفاؤل، لقد كان دفئًا لهم في زمهرير الابتلاء، وموجهًا لهم في الشدائد والمحن، ومثبتًا لهم على إيمانهم.
فهو يمرّ على آل ياسر رضي الله عنها والسياط تحرق ظهورهم فيقول: صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة[30].
وحين أتاه خبابُ بن الأرت رضي الله عنه شاكيًا يطلب منه الدعاء، قعد صلى الله عليه وسلم وهو محمرٌّ وجهه، فقال: «لقد كان من قبلكم يُمشَط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضَع المنشار على مفرق رأسه فيُشَق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه»[31].
وحين جاء عبدالرحمن بن عوف وأصحابه رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: «إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا»[32].
ولقد كانت دار الأرقم محضنًا يجمع المربي الكبير صلى الله عليه وسلم بأصحابه أتباع دعوته، فيصلون ويتلون القرآن ويتلقون التوجيه ويفضون بهمومهم ومشاعرهم.
تلك أهم الكائز التربوية، وهذه أهم العوامل المؤثرة في التربية، دونكَ فتأمّلها. اللهم ارزقنا الهدى والسداد، واجمعنا بنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في جنات النعيم.

 

 

 

البيان 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع