يحيى بركات
تصدير المادة
المشاهدات : 5145
شـــــارك المادة
إذا تذكر كل منا ما فات عليه من مواقف وأحداث غيرت مسارات حياته يستطيع بكل بساطة أن يستخرج منها كلمات كانت معالم في طريق حياته، منها الكلمة التي غيرت مساره للأفضل ومكنته من ضبط بوصلة حياته وأخرجته من الحيرة والتخبط..
ومنها كلمات كانت صواعق مرسلة من أصحابها وقنابل دمرت تاريخه بماضيه وحاضره وشوهت مستقبله.
وقد لا يذكر كثير من الناس الكلمات النافعة الدافعة لكل خير باعتبارها الكلمات التي يفترض أن يسمعها الإنسان كثيرا في مجتمع مسلم يؤمن بأن الكلمة الطيبة صدقة، بقدر ما يتذكر الكلمات الهادمة المدمرة، فلا ينساها ولا ينسى أصحابها ويتذكرهم كلما مر عليه حادث فشل جديد فتتجمع عليه هموم الماضي وتأتيه رسائل الماضي تترى على مخيلته فيتذكر تلك الكلمات كما لو كانت قيلت في ذات اليوم.
والكلمات التي تشبه القنابل تقتل مستمعها معنويا ويمتد مفعولها لمدة طويلة وقلما يتخلص من أثرها هذا المستمع الذي جاءه قدره أن يكون ضحية لقاتل لم ينل عقوبة على جريمته، بل والأدهى أن يعتبر المستمع المجني عليه في أوساط المجتمعات هو الجاني بينما يعتبر القائل القاتل ناصحا له محبا لمصلحته خائفا على مستقبله فيرتدي بكلمته القاتلة ثوب كل فضيلة.
وهل هناك في الدنيا أحد راض – تمام الرضا - عن كل شيء في حياته، عن عمله ومهنته التي يتكسب منها، وعن زوجته وعن كيفية تعاملها معه، وعن أولاده وتحصيلهم العلمي وأخلاقهم العملية وعن معاملة رؤسائه له في العمل وعن مسكنه الذي يعيش فيه وعن ما يتقاضاه من راتب وعن سيارته إذا امتلك، وغير ذلك الكثير؟.
بالطبع لا يمكن القول بأن كل الناس راضون عن كل ما سبق تمام الرضا، فهل هناك أحد لا يتطلع لتحسين وتغيير وتبديل كثير من ظروفه الواقعية التي يمر بها؟، ولكن هل يستطيع كل الناس أن يقوموا بثورة داخلية على كل ما يعانون منه في حياتهم العملية؟.
إذن فالكثيرون يتقبلون حياتهم كما هي واعتادوا ما يلاقونه من مشكلات في حياتهم بكافة تفاصيلها، فيذمرون تارة ويتصبرون أخرى ويحاولون ثالثة ومنهم من ينجح في التغيير ومنهم من يفشل فيحاول أن يحب ويتعايش مع ظروفه التي يحياها، فقلوبهم مثل المراجل تغلي كنار تحت الرماد.
وهنا قد تأتي الكلمة القنبلة التي تفجر كل طاقات الصبر التي أعدها الإنسان لتستمر حياته على ما هي عليه، فتأتي الناصحة إلى المرأة وتسألها عن تعامل زوجها معها، وتستدرج الزوجة في ذكر بعض مما يؤلمها من معاملة زوجها، فتلقي عليها من تدعي أنها ناصحة لها بالقنبلة بأنها كانت تستحق زوجاً غير هذا الزوج الذي لا يقدرها قدرها ولا يشعر بقيمتها.
كلمة بسيطة قالتها الناصحة المزعومة ألقتها في ماء راكد فحركته فصار بركاناً يغلي واشتعل الجمر بها من تحت الرماد، كلمة لا تلقي لها بالاً أفسدت على الزوجة حياتها، نظرت مرة أخرى للزوج تذكرت كل عيوبه ونقائصه، نسيت بها كل فضيلة له، وتحرك الجمر وازداد اشتعالاً، فإذا بها تلقي بكافة حمم براكينها في وجه الزوج العائد بعد غياب وهو لا يدري سر تغيرها، فربما ثارت في وجهه وغضبت وقالت كلاماً لا يطيق سماعه وربما يهدم بيتها بسبب هذه الكلمة القنبلة التي ألقتها صاحبتها وهي لا تقصد بها أن تخرب على الزوجة حياتها وما قالتها إلا للمسامرة وهي لا تدري وقع الكلمة على نفس السامعة.
ويذكر ابن كثير عن عثمان بن عطاء قال: "كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله سلم، وإذا بلغ وسط الدار كبر وكبرت امرأته، فإذا بلغ البيت كبر وكبرت امرأته. فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه امرأته بطعام فيأكل. فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه، ثم أتى البيت فكبر وسلم فلم تجبه، وإذا البيت فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكت به في الأرض. فقال لها: مالك؟ فقالت: الناس كلهم بخير، وأنت أبو مسلم!!-تعني فقير- فلو أنك أتيت معاوية، فيأمر لنا بخادم، ويعطيك شيئاً نعيش به.. فقال أبو مسلم!: اللهم من أفسد علي أهلي فأعم بصره.
قال: وكانت أتتها امرأة فقالت: أنت امرأة أبي مسلم، فلو كلمت زوجك يكلم معاوية ليخدمكم ويعطيكم!! قال: فبينا هذه المرأة في بيتها والسراج يزهر، إذ أنكرت بصرها. فقالت: سراجكم طفئ؟ قالوا: لا قالت: إنا لله، ذهب بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم، فرق لحالها، ودعا الله طويلاً فرد إليها بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها" [1].
وشيخ طاعن في السن يعاني الأمراض، وأبناؤه لا يزورونه كثيراً، وهو يعذرهم، ويعلل نفسه ويصبرها بأن ظروف الحياة شديدة عليهم لا تدع لأحدهم وقتاً لكي يتنفس، ورغم ذلك يلهج لسانه كل حين بالدعاء لهم بالتيسير، ويرضى بما قسمه الله له، فيعز على مفسد منهم أن يراه مطمئناً ساكن النفس ولو على الجمر، فيأتيه يحمل بين يديه قنبلة ليلقيها بين يديه ويمضي، يسأله ألا يزورك أبناؤك، أهكذا جزاء إحسانك إليهم، أيتركونك بما أنت عليه من الضعف والوحدة وقد ربيتهم صغاراً وحملتهم وأعطيتهم ومنحتهم وجعلت منهم رجالاً ونساء، عمروا البيوت وخربوا بيتك، سعدوا في حياتك بعصارة جهدك ووقتك ومالك ولم يمنحوك شيئاً.
والشيخ لا يستطيع حيلة في الرد فكافة ردوده التي أعدها للرد على هذه التساؤلات قد انهارت كلها في لحظة واحدة أمام هذه الزائر بطعناته وسهام كلماته، ويسلم الضيف الذي ارتدى ثوب الناصح ليمضي إلى حال سبيله ويترك الشيخ لتغلي النيران في صدره، تحرمه تلك الكلمات النوم، تقض مضجعه فلا يستريح، وما يلبث إلا أن يتغير قلبه على أبنائه، فربما يدعو عليهم أو على أحدهم حتى يهلكه، فدعوة الوالد لا ترد، لقد جفف الزائر بقنابل كلماته كل منابع الصبر عند مزوره، وضيق عليه كل المسالك، فما وجد للراحة طعماً ولا للصبر مسلكاً إلى نفسه.
وثالث لا يجد عملاً بعدما طال بحثه وحفيت قدماه للحاق بأي عمل، وما لبث أن وجد عملاً براتب لا يتناسب مع مؤهلاته أو إمكانياته، لكنه رضي به فلم يكن هناك متاح أفضل منه، اجتهد فيه وقرر أن يطور من نفسه لينال راتباً أكبر أو ينتقل إلى عمل أفضل، تألم مما هو فيه لكنه يصبر نفسه عليه ويعللها بان الله سبحانه سييسر له أمره، ولكن أحدهم ممن لا يروق له أن يرى النفوس ساكنة والقلوب مستقرة ولو على الاضطراب الداخلي، فتأتي قنابله التي تخرج من لسانه، لتسأله عن عمله وعن راتبه، فيقول له بأنه يستحق أكثر من ذلك وأن أصحاب الأعمال مستغلين للناس ولا يهمهم إلا أن تمتلئ بطونهم ولو بامتصاص دماء موظفيهم وعمالهم، ثم يمضي صاحب القنبلة ليتركها تنفجر بعد ذلك في وجه صاحبها، ليتكفل صاحبنا بالباقي منها فيذهب ويتذمر على عمله وربما يتلاسن مع أصحاب العمل ويتهمهم بسرقة الجهود وعدم تقدير موظفيهم التقدير لصحيح وعدم مكافأتهم على مجهودهم، حتى يطرد من عمله هذا فيصبح الطريق له مسكناً، وكل هذا بسبب كلمة ألقاها أحدهم لا يلقي لها بالاً.
إن الكلمة الخبيثة ليست الكذب والنفاق والسب واللعن والقذف فحسب، بل هي كل كلمة مفسدة تفسد حال المرء بعد سكونه وتغير عليه حياته للأسوأ، فكل كلمة خبيثة لا يلقى الإنسان لها بالاً تهوي به في نار جهنم كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ" [2].
وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم كل من يفسد العلاقات بين الناس، فجاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبدا على سيده" [3]
وهناك شعرة فاصلة بين النصح والإفساد ومدارها على المنصوح ذاته، فإن كانت لديه القدرة على إحداث التغييرات في حياته ولكن متقاعس عنها متكاسل عن القيام بها فينبغي نصحه وتوجيهه، وأما من كان لا يملك من أمره شيئاً وليس لديه القدرة على التغيير أو الإصلاح فكل ما يقال له في سبيل ذلك هو نوع من إفساد حياته عليه، وينتبه لهذا، وعليه فعلى كل من يرى غيره لا يستطيع تغيير واقعه أن يصمت ويتكلم بكلمة طيب أو بدعاء صالح، وان يدع القلوب تقر فإن في تحريكها الشر.
-----------------------------------------------
[1] البداية والنهاية لابن كثير (6/327)
[2] صححه الألباني في صحيح الترمذي 1618
[3] سنن أبي داود 2175 ، وقال الشيخ الألباني : صحيح
المسلم
خالد روشه
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة