محمد عمر
تصدير المادة
المشاهدات : 3681
شـــــارك المادة
هناكَ في ذلكَ العالمِ المنسي شعبٌ يتنفسُ تحتَ الظُلمِ والاضطهاد، بلغَ مِنهُ الجهدُ مبلَغه؛ يَسلُبُ أحلامَه جبروتُ الطغاة، ويبددُ آماله قمعُ الحكامِ وزبانيتهم، ومعَ ذاكَ الجبرِ المقيت ضيقٌ في الحال لا يخفىَ على ذي بال. ولأنّ ذلكَ الشعبَ حُرٌّ في تفكيره، حالمٌ في خياله، يَسعى لما يَسعى له البشرُ من حياةٍ عزيزةٍ كريمة، يتمتّعُ بها الإنسانُ بصفاتهِ البشريةِ كاملةً غيرَ منقوصة؛ فكانَ لابدّ لهُ أن يتمرّدَ على نواميسِ الطغاةِ وقوانينهم، ويثورَ على هذا الجبروتِ الأعمى، ومن ثَم يخرجُ من تحتِ عباءةِ الذلّ والاستبداد، ليضعَ قدميهِ على أولِ طريقِ الحريةِ المخضّبِ بالدماء. فتبدأُ بذلكَ مرحلةُ التدافعِ الكوني، ويدورُ صراعٌ عظيمٌ بين الثائرِ الحالم و الحاكمِ الظالم، يُكشّرُ فيهِ الأخيرُ عن أنيابهِ وينهشُ ذلكَ الجسدَ المعذبَ المتعب، ويُقَتّلُ أبناءَ الذين آمنوا ويسبي أرضَهم وديارهم، ويمثّلُ بالأحياءِ منهم قبلَ الأموات. وكأيِّ ثورةٍ للحرّية يقاتلُ معها وفيها رِبّيونَ كثير، فما وهنوا لما أصَابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا، وإنما احتسبوا الأجرَ عندَ ربِ العالمينَ سبحانه، وهم رَغمَ الجراحِ والآلام يقينُهُم بأنَّ فرجَ الله آتٍ لا مَحالة، وأنّ النَصرَ فوقَ الرؤوس ينتظرُ الأمرَ الإلهي ليعمَّ البلادَ والعباد. ومع كثرةِ الآلامِ والأوجاع ينبري لها ثلةٌ من عبادِ الله، صنَعَهُم اللهُ على عينيه واصطفاهُم لخدمةِ عيالهِ وعونهم، فهم مفاتيحٌ للخيرِ مغاليقٌ للشر، كيف لا.. وهم الذين كرّسُوا حياتَهم لما ينفعُ البشر، تراهم كالغيثِ العميمِ في البذلِ والعطاء، يؤلمهم ما يؤلمُ عبادَ الله، وتقضُّ مضاجعهم آهاتُ المعذَبينَ والجرحى، وكأنَّ ثِقلَ هذه العذاباتِ يعنيهم وحدَهم، فهم يعايشونها بكل تفاصيلها ودقائقها؛ يخوضون الصعابَ ليصلوا لذلك المعذّبِ الحزين، فيضمّدُون لهُ الجراحَ ويسكّنُون له الآلام. فهنا جريحٌ مُدَمَّى يفترشُ الأرضَ ولا يقوى على الحراك، ذنبُهُ أنه قد فتحَ فاه في عصرِ الصمتِ المقيت؛ يقف حولَهُ الصحبُ والأحباب؛ ينظرون إليه بعيونِ الحسرةِ والألم؛ وعن يمينهِ وشماله يتأوهُ جرحىَ آخرون؛ ماذا نفعلُ لهم؟ يطولُ التفكيرُ كثيراً، ثم يَطول؛ وبعدها يأتي الجوابُ الوحيدُ بنقلهم إلى مستشفيات النظام! إلى مستشفيات النظام ؟؟! نعم أُخيَّ؛ فهذه هي الإجابةُ الوحيدة، ولا ثاني لها، واللهُ غالبٌ على أمره. يُنقلُ هؤلاءِ الجرحى المضرّجونَ بدمائهم إلى تلكَ المستشفيات الكئيبة، راجين معونةً ممن أقسمَ في سالفِ الأيام على علاجِهم مهما صَعُبَت الظروفُ واشتدت الأحوالُ والأهوال. في المستشفى قد يجدُ ذلكَ الإنسانُ – إن ابتسمَت له الأقدار – من يُضمّدُ جراحَه ويكتمُ خبرَه، فزبانيةُ الحاكمِ في كلِّ مكانٍ تبحثُ عن صيدٍ فريدٍ مثله. وواجبُ طبيبُ الثورةِ يتعدّى المهمةَ اليسيرةَ بعلاجِ الجريحِ إلى تهريبِهِ من محكمةِ التفتيشِ المسماةِ اصطلاحاً بـ" المستشفى" بأسرعِ ما يمكن، ضمن عمليّةٍ أقربُ ما تكونُ للخيال، أبطالها هم بعض أهله وبعض أطباءِ المستشفى وممرضيها؛ فهذا يعالجهُ بسرعةٍ علّه ينقذهُ من الأسرِ لا من الإصابة، وذاك يثبّطُ عنه من خلفهُ من الحرّاسِ ويشتتهم، وآخرُ يحمله ويهربُ به على حين غفلة من الناس، إلى أن تتكللَ تلكَ العمليةِ بالنجاح إن قدّرَ لها اللهُ ذلك. وتتتالى الأيامُ وتتحولُ تلك المستشفيات المظلمةِ إلى ثكنة عسكريَة لا تسمع فيها إلا قرع نعال جنودِ الحاكمِ وحرسه، الذين يقفون بالمرصاد لكل جريح ومصاب؛ ومع ازديادِ صلفَهم وظُلمهم يتلاشى الأملُ بعلاجِ أي جريحٍ و مساعدةِ أي إنسان؛ فيعتقَلُ المصابَ من المستشفى هو ومن يحاولُ إسعافهَ من أطباءٍ أو مسعفين، ويودعُ الجميع في غياهبِ السجون؛ وإمعاناً في الإجرامِ يُعدمُ هؤلاءِ جميعاً، وقد يُحرقُ بعضهم حياً وقد تُمزقُ أجسادَهم ويُمثّلُ بهم؛ فلا رادعَ للنفوسِ المخلصةِ بنظرهم إلا أعلى درجاتِ الخوفِ والترهيب. هكذا أُغلقَت المستشفيات وأُوصدت أبوابُها لكلِ مستنشقٍ لعبقِ الحرية، ولكنّ مشكلةَ الجرحى لم تُحل بل تطورَت مراحلها وعَظُمَ همّها، فالأعدادُ تتضاعفُ والصرخاتُ تتعالى؛ فأصبحَ التفكيرُ بإسعافِهم خارجَ تلكَ المنظومةِ الطبية ولو بأبسطِ الإمكاناتِ هو الخيارُ البديل. فأن تحاولَ ذلك.. خير من أن تقفَ تنتظرُ المصيرَ المحتم لهؤلاء المستضعفين، بين جريحٍ ينزفُ للموتِ أو أسيرٍ مصيرهُ معروف. وهكذا أنشئت تجمعاتٌ طبيةٌ صغيرة، قَوامُها بعض أدواتِ الجراحةِ و الضمادِ وما خفَ حملُه من أصنافِ الأدوية، على أن تكون في مكانٍ ما - فوقَ الأرض أو تحتها - لا تصل إليه أيادي الظالمين. فكانت تلكَ النقاطُ على بساطتها، وضعفِ إمكاناتها، توفرُ لذلكَ المسكينِ الأمنَ والمواساة التي لا توفرُها أعقابُ البنادقِ وسياطُ الجلادين التي يُضرب بها مراراً في مشافي النظام. فنظرةٌ حنونةٌ مشفقةٌ من مسعفٍ، تفوقُ أقوى مسكناتِ الألمِ ومهدئاته؛ وعينٌ متعبةٌ تسهرُ على راحتهِ كافيةٌ لأن تُعيدَ له روحَه المسلوبة. وبعد كلّ ذلك يقفُ ذلكَ الطبيبُ المشردُ الملاحقُ لينظرَ بعينِ الرضى والقبول لجريحٍ استطاعَ أن يضمّدَ جراحهُ ويخففَ آلامه؛ كما ينظرُ بعينٍ تفيضُ من الدمعِ وألمٍ يعتصرُ القلب لجريحٍ سهرَ بجانبهِ ليلاً طويلاً وهو ينْظُره ليموتَ ويفارقَ الحياة؛ لا لأن ذلكَ المنظر بديعٌ يسرُ الناظرين، بل لأنَ جبابرةَ الأرضِ لم ييسروا له إجراءَ عمليةٍ جراحيةٍ بسيطةٍ، كانت من الممكنِ أن تُنقذَ تلكَ الروحِ البريئة. ولأنَ الأفكارَ النيرةَ تتفتقُ من الحاجة، فقد عَزَمَ ذلك الكادرُ الطبي على توسيعِ نقاطهمِ الميدانية لتشملَ غرفَ عملياتٍ بدائيةٍ، تعالجُ بها الجروحُ الخطيرةُ وترَمَمُ بها الإصاباتُ الواسعةُ فتُعينُ المصابينَ على تخفيفِ آلامهم. وباشرت تلكَ الغرفُ الجراحيةُ عملها، وأجرَت أُولى عملياتِها الطبيةِ بنجاحٍ غيرِ متوقع؛ وتوالت النجاحاتُ وازدهرَ العمل، وتنامتِ الخبراتُ وتطورت؛ وبفترةٍ وجيزةٍ توسعَت تلك الغرفُ واكتملَت ملامحها، لتصلَ لشيءٍ يُشابهُ المألوفَ وإن لم يرقَ بعدُ له؛ إلا أن وجودَها في ذاته لا يقلُّ أهمية عن أقوى الإعجازاتِ والفتوحاتِ الطبية بكثير. ولأنَّ المستشفيات لا تكتملُ صفاتها إلا باكتمالِ شروطِ الرعايةِ والعناية، فقد أُنشأت غُرفٌ لاستشفاءِ المرضى وإقامتهم، فكانت الرديفَ العمليَ لغرفِ العملياتِ تلك، تحولَت معها تلكَ التجمعات الطبية الصغيرة لمستشفيات ميدانية استكملَت أهمَّ أقسامها وفروعها. ثم ما لبثت أن تُوجَت بمنظوماتِ الإسعافِ التي تُوفر على الجريحِ مشقةَ القدومِ للمستشفى ومخاطرَ النقلِ وأخطائه، وزُوّدت بكوادرَ من المسعفين والمنقذين، الذين كانوا بحق أبطالَ هذهِ الحربِ ومقداميها. والآن وبعدِ السنينِ الأربعِ بقليلٍ أصبحَ لدينا منظومةٌ طبيةٌ متكاملةٌ، تفوقُ المنظومةَ الطبيةَ للنظامِ أيامَ عزه؛ وما زالَ العملُ على تطويرها مستمراً لتشملَ مجالاتِ الإحصاءِ والبحثِ العلمي، وتدريبِ الكوادر الجديدةِ وتأهيلها، وصولاً لسورية مختلفة عما كانت عليه سابقاً، بلدٌ يبنى بسواعدِ أبنائهِ وعزائمِ أهلهِ ورغبتِهم في الحياة.
عباس شريفة
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
ﻣﺤﻤﺪ المختار ﺍﻟﺸﻨﻘﻴﻄﻲ
ماجد العبد الجبار
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة