مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3164
شـــــارك المادة
"فرضَ كبارُ الصحابة اختيارَهم وإرادتهم على الأمة بلا شورى". هذا الزعم العجيب ردّ به عليّ أحدُ الفضلاء، تعليقاً على دعوتي المتكررة إلى مشاركة عامة السوريين في اختيار مستقبلهم وتقرير مصيرهم. فقد وقع في وَهْمه أن قادة الأمة في العصر الأول، وهم كبار الصحابة، أنهم احتكروا الرأي والقرار في السقيفة أولاً يوم اختاروا أبا بكر، ثم في مرض أبي بكر وعهدِه لعمر، ثم في الاقتصار على قلّة منهم في عهد عمر لمَن يليه بعد طعنه، رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا وَهْمٌ كبير يكرّره كثير من المسلمين، فهم يظنّون أن الأمة كانت مغيَّبة بعيدة عن تلك القرارات المصيرية، فيستنتجون أنّ للخاصة حَمْلَ العامة على ما يرَون، ويظنون أن هذه هي طبيعة "البيعة" في الإسلام. وهو خطأ محض، فإننا نجد بدراسة ما بين أيدينا من كتب السيرة والتاريخ أن البيعة كانت -في العهد الراشدي- عملية مركّبة تتكون من شقّين:
والعجيب أن هذا الترتيب لا يختلف عن الآليّات العصرية في الاستفتاء والانتخاب (التي ينكرها بعض الإسلاميين) إلا بالتفاصيل، أما الجوهر فإنه واحد، وهو إعادة الحق الأساسي في اختيار مَن يحكم الأمّةَ إلى الأمة نفسها.
* * *
عندما نقرأ التفصيلات الكاملة لطريقة اختيار الخلفاء الراشدين نجد أنهم لم يصلوا إلى "الولاية العامة" إلا من خلال استفتاء أو انتخاب عام شاركت فيه الجماهير.
في كل الحالات كانت توجد مرحلة أوّلية هي مرحلة الترشيح، صحيحٌ أنها تمَّت على يد النخبة من قادة الجماعة أو "أهل الحل والعَقْد" فيها، ولكنْ مَن قال إن العامة لم يكن لهم الحق في الترشيح؟
لقد كان من حق أضعف واحد في الجماعة أن يرشّح من يراه أهلاً لقيادة الأمة، لأن المسلمين يقوم بذمّتهم أدناهم كما هو مقرر في الأصول.
لقد كان من عادة الناس أن يفوّضوا كبراءهم ووجهاءهم ومقدَّميهم وأن يثقوا باختياراتهم وقراراتهم؛ كانت هذه من خصائص الثقافة القَبَلية التي اتّسمت بها تلك المجتمعات، وما نزال نرى نماذجَ لها في المجتمعات العشائرية في عالمنا المعاصر. ورغم ذلك فإن "الترشيحات" التي قام بها كبارُ الصحابة لم تكتسب مشروعيتَها إلا بعد التأييد الشعبي العام.
رشّح عمر يوم السقيفة أبا بكر للخلافة، ورشّح أبو بكر عمرَ خليفةً له، ورشّح عمرُ جماعةً من الصحابة ليختاروا واحداً من بينهم، ولكنّ الترشيح لم يكتسب قيمتَه الحقيقية إلا بالاستفتاء؛ كان يمكن أن يُقَرّ أو يُنقَض، وصاحب الحق في الإقرار أو النقض هو الجمهور (الأمة).
إنه لم يصبح "أمراً تنفيذياً ساري المفعول" (كما نقول اليوم) إلا بعد الموافقة الجماعية للأمة، وهي الموافقة التي عبّرت عنها الأمة بالبيعة العامة.
كانت البيعة في عهد الراشدين هي التعبير العام عن الرضا بالترشيح، أي أنها تماثل آليّة "الاستفتاء" التي نعرفها في هذا الزمان، ومن المؤكد أن "المرشَّح" ما كان له أن يصبح أميراً للمؤمنين بمجرد اختيار النخبة (أهل الحل والعقد)، وإلا لما كانت للبيعة قيمة حقيقية. إن البيعة ليست عملية آلية فارغة من المضمون، بل هي في حقيقتها رأي "المبايع" في ترشيح النخبة: إما أن يوافق على الترشيح فيُقْدم على البيعة، أو يرفضه فيُعْرض عنها.
إنها تشبه "الصوت الانتخابي" الذي يقدّمه المنتخبون في صناديق الانتخابات في هذه الأيام.
في النظام الراشدي لم يصبح "المرشَّح" الذي اختاره أهل الحل والعقد أميراً للمؤمنين إلا برضا الأغلبية، ولو اعترض الجمهورُ أو رفض الموافقةَ على ترشيح النخبة فما كان للترشيح أن يتحول إلى ولاية عامة.
هذا النظام المحكم هو عكس ما فشا وانتشر في مرحلة "المُلك العاض" التي بدأت بعد العهد الراشدي، عندما صار الخليفة (ولي العهد) يُختار بعيداً عن رأي الأمة، ثم يُستكمَل الإجراء ببيعة شكلية أو جبرية لا خيار لها فيها (كما حصل في بيعة يزيد بن معاوية على سبيل المثال).
تروي لنا كتب السيرة أن أبا بكر رضي الله عنه أمضى فترة مرضه كلها في مشاورات مكثفة حتى اطمأنّ إلى اختيار الناس و"رشّح" عمر خليفة له. أي أن الاستخلاف لم يكن رأياً مجرداً رآه، بل ترجمة للرأي العام، ولم يكن فرضاً فرَضه من تلقاء نفسه، بل ترشيحاً يحتاج إلى موافقة جمهور المسلمين، بدليل أنه استكتب عثمان العهدَ ثم جمع الناس فقرأه عليهم (أو قرأه مولى له وهو حاضر) ولم يصبح الترشيح نافذاً إلا بموافقة الناس.
روى ابن الأثير في الكامل (2/426): "وكان أبو بكر أشرفَ على الناس وقال: أترضَون بمن استخلفت عليكم؟ فقالوا: سمعنا وأطعنا". فهل استشارهم إلا وهو مهتم برأيهم؟ ولو أن الأكثرية اعترضت وعارضت هل كان يمكن أن يرغمهم على قبول من لا يريدون؟
أما ترشيح عمر لخليفته فقد خضع "لاستفتاء شعبي عام" بلغ الغايةَ الممكنة في الوسع في ذلك الوقت، فبعدما انحصر اتفاق الستة في علي وعثمان راح عبد الرحمن بن عوف (المكلَّف بحسم المسألة) يستشير كل مَن وصل إليه باستقصاء وتوسع يثيران الدهشة، فسمع آراء أهل المدينة برجالهم ونسائهم وأولادهم، وسمع مِن كل مَن وفد على المدينة من خارجها من الأعراب والزائرين خلال مدة "الاستفتاء الشعبي". ولو أن نتيجة الاستفتاء رفضت المرشَّح لما أمكن أبداً أن يكون خليفةً على المسلمين. هل يكون خليفة عليهم رغم أنوفهم؟
هذا هو المُلك العاضّ الذي جاء في العصر اللاحق، ولم يكن أبداً من سِمات عصر الراشدين.
روى الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/158): "ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين جميعاً وأشتاتاً، فرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدَّرات في حجابهن وحتى سأل الوِلدان في المكاتب، وحتى سأل مَن يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة مدةَ ثلاثة أيام بلياليها".
لقد بلغ ذلك الاستفتاء العجيب الغايةَ في الوسع، ولو أن الصحابة عاشوا في هذا الزمان فربما استعملوا الأدوات العصرية التي تساعد على توسيع دائرة الاستفتاء حتى تشمل الأمة كلها. فكيف يقول قائل -بعد ذلك- إن الشعب المسكين لا شأن له بتقرير مصيره ويستدل بعمل الخلفاء الراشدين؟ يا للغرابة!
أتمنى أن نقرأ تاريخنا قراءة جديدة متأنّية واعية، وسوف ندرك -لو فعلنا- أن الأمة كانت دائماً هي الأصل وهي مصدر السلطة، وليس الحاكم المتحكّم الذي يعيّن مَن يشاء ويعزل من يشاء، وسنرى أن التراجع والانهيار لم يبدأا إلا مع عزل الأمة وسلبها حقَّها في القرار والاختيار.
لقد كان تركيز السلطة في يد الحاكم الفرد واحتكار القرار وتنحية الأمة عن الصدارة هو بداية الانهيار والانحدار في التاريخ الإسلامي، وهو العلامة الفارقة بين الخلافة الراشدة والملك العضوض، وهو أيضاً الفيصل بين حياة الحرية والكرامة والعدالة وحياة الظلم والقهر والاستبداد.
شادي بن مهدي
موسى الغنامي
حمزة المصطفى
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة