..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

ضوابط في تنزيل أحكام باب الجهاد الفقهية على الواقع

هاني الجبير

٥ أغسطس ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3596

ضوابط في تنزيل أحكام باب الجهاد الفقهية على الواقع
عبد الله محمد الجبير 00.jpg

شـــــارك المادة

لقد تكاثرت النصوص الشرعية التي تثني على الفقيه، والمتضمّنة أن التفقه دليل خيرية المرء، وأنه أفضل من الخروج للجهاد مع فضله العظيم، ففي الصحيحين: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)[1].
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: اللهم فقه في الدين[2].

 


ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وفي استعمال صيغة (التفعّل) الدالة على التكلّف في قوله: (ليتفقهوا)؛ دليل على أن هذا التعلم يحتاج في معرفته إلى جهد، قال الطاهر بن عاشور: (التفقه: تكلّف الفقاهة، ولما كان مصير الفقه سجيّة لا تحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك، جاءت صيغة التفعّل، وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمر دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذا جزم العلماء أن الفقه أفضل العلوم)[3].
ولذا كان من أكبر الإشكالات في هذا العصر عدم القدرة على التطبيق الواقعي لمسائل الفقه النظريّة.
وهذه الإشكالية مع أنها ليست مختصة بالوقت الحاضر بل هي مشكلة قديمة، ولذا يقول الحطاب: (استعمال كليات الفقه وانطباقها على جزئيات الواقع بين الناس؛ عسير على كثير من الناس)[4]؛ إلا أنها زادت في هذا العصر وتضخمت جداً، وأكثر ما يبدو هذا الضعف في التأصيل العلمي والقدرة على تنزيل الأحكام على الوقائع في مسائل أحكام الجهاد الفقهية، فإن سمة المجاهد غالباً قلة الفقه وضعفه؛ لأن المطلوب منه مهارات تحتاج إلى دربة تمنعه وتقطعه عن العلم، ويشهد لهذا الآية السابقة؛ فإنها فرقت بين نافر للجهاد ومتفقه يعلم قومه، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: (نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: {لِّيَتَفَقَّهُوا}، أي: القاعدون {فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ}، أي: ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلّموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، ففي هذا فضيلة العلم، خصوصاً الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور)[5].
حتى قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لقد منعني كثيراً من القراءة الجهادُ في سبيل الله)[6].
وهذا أثر من آثار عدم مجالسة العلماء، فإن مجالستهم مران وتجربة مشاهدة لمعرفة الأوصاف الطرديّة والمؤثرة وتصور الوقائع وكيفية تنزيل الأحكام عليها وما يرتبط بها، ومع ذلك فقد قلّ الصابرون على مجالس العلماء، المرابطون على حلق الدروس، الباذلون أوقاتهم في تحصيل العلوم، قال الشاطبي: (أنفع طرق أخذ العلم: المشافهة، لخاصّة جعلها الله بين المعلّم والمتعلّم يشهد بها كل من زاول العلم والعلماء، فكل مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ويرددها فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وهذا من فوائد مجالسة العلماء، إذ يفتح للمتعلم منهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وقد كره الإمام مالك الكتابة، فقيل له: ما نصنع؟ قال: تفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة)[7].
ولذا يذكرون في التراجم: تفقّه بفلان، أي: تخرج على يديه في الفقه.
ولا يشك أحد في أهمية الإعداد لكل عمل دنيوي أو ديني، ومن تأمل هدي السلف وجده مفيداً لهذا المعنى، فيدرب الشخص على العمل الذي سيوكل إليه..
ومن ذلك: الإفتاء؛ فقد درب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الإفتاء وأفتوا بحضرته، وهو تمرين لهم على الاجتهاد والإفتاء، وقد ذكر محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في الفكر السامي عشرة أمثلة لذلك[8].
وقد قال أبو الأصبغ - عيسى بن سهل -: (الفتوى صنعة، وقد ابتليت بالإفتاء فما دريت ما أقول في أول مجلس وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن.. والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه).
وقال محمد بن عبد السلام: (تجد الرجل يحفظ كثيراً من الفقه ويعلمه غيره، فإذا سئل عن واقعة لبعض العوام من مسائل الصلاة أو مسألة من مسائل الأعيان، لا يُحسن الجواب، بل ولا يفهم مراد السائل إلا بعد عسر)[9].
وقال الإمام مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني انتهيت[10].
ويقول القرافي: (هذا باب عظيم يحتاج إلى فراسة عظيمة، ويقظة وافرة، وقريحة باهرة، ودربة مساعدة، وإعانة من الله عاضدة)[11].
وإذا كان هذا الأمر ملاحظاً في زمن مضى، فالعناية به الآن مع تطوّر الزمن وتغيّر الأحوال أشد وآكد، وإذ تقرر أن سمة المجاهد غالباً ضعف الفقه لما يعرض له من انشغال بتنمية مهاراته البدنية والقتالية، ولما في تنزيل مسائل الفقه على الواقع من خطر؛ لزم تنبيه المجاهد والتأكيد عليه أن يستفتي ثقات أهل العلم ويتهم رأيه عند رأيهم ويحرص على متابعتهم، فقد أمره الله بذلك فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ولما تصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة على ترك القتال عشر سنين وردّ من جاء مسلماً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. فقلت: علام نعطي الدنيّة في ديننا؟ فقال: إني رسول الله ولستُ أعصيه[12].
وفي صحيح البخاري قَالَ أَبُو وَائِلٍ: لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ[13].
ضوابط تنزيل أحكام الجهاد:
وهذه الضوابط هي بعض ما يمكن أن يشار إليه في عجالة تناسب مثل هذا المقال، وفي الإمكان زيادة البسط، وهي موجّهات تعين على التطبيق الأمثل، إلا أنها لا تغني عن فقاهة النفس وقوة الملكة وسلامة القلب المحققة لحسن فهم وتنزيل أحكام الشرع؛ ولذا فهي ليست بديلاً عن طلب العلم والتفقه على يد العلماء، وهي كما ستلحظ يمكن أن تتناول قضايا القتال عموماً.
أولاً: كتاب الجهاد مبني على المصلحة استدلالاً وتقييداً:
مع أن من مسائل باب الجهاد ما هو قطعي لا مجال فيه للنقاش؛ كمسائل الولاء والبراء، والفرق بين دار الكفر ودار الإسلام، ومشروعية الجهاد دفعاً وطلباً؛ إلا أن البناء المصلحي ظاهر وحاصل في أحكامه المقررة فقهاً، فمن باب أولى أن تنبني تطبيقاته عليه، فما دامت النظرية قد قامت عليه فتطبيقها واقعاً سينبني عليه.
وإذا كان تقرير المصلحة كدليل مستقل محل تجاذب للرأي بين الأصوليين، فإن تفريعات مسائل الجهاد يظهر فيها الرجوع للاعتبارات المصلحية واضحاً حتى عند من لا يقبل المصلحة دليلاً مستقلاً، أو من لا يقبل تقييد النصوص بها.
والمصلحة تتضمن تحصيل المصالح واجتلابها، ودرء المفاسد واجتنابها، وتقدير درجات المصالح والمفاسد، وأن كل ما غلبت مصالحه مساوئه فهو مطلوب في الشرع، وكل ما غلبت مفاسده فهو مذموم في الشرع.
وكل ذلك بميزان الشرع ونظرته، (لِأَنَّا رَدَدْنَا الْمَصْلَحَةَ إلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَمَقَاصِدُ الشَّرْعِ تُعْرَفُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَكُلُّ مَصْلَحَةٍ لَا تَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مَقْصُودٍ فُهِمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَانَتْ مِنْ الْمَصَالِحِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَا تُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ مُطَّرِحَةٌ)[14].
ومن تطبيقات ذلك في التفريع الفقهي:
تقييد إطلاق النص الوارد بأن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، بأن ذلك بالنسبة للفرد أو الأفراد القليلين ولمثل القافلة والحصن الصغير فقط؛ أخذاً بأن الأخذ بإطلاقه يفضي لتعطيل الجهاد والافتيات على الإمام في الصلح[15].
وكذلك تقييد الأمر بالهجرة حين يكون بقاء المسلم بأرض الكفر كاتماً إيمانه محققاً مصلحة للمسلمين[16].
وتقييد الجهاد المأمور به مطلقاً بإذن الإمام، ثم إلغاء هذا الشرط عند دهم الكفار بلاد المسلم نفسه[17].
وعلى هذا النحو نجد تطبيقات لاعتبار المصلحة في هذا الباب.
والذي يتخرج على هذا الضابط:
1 - أن تتوازن النظرة لما يذكره الفقهاء فيه، فما كان مبناه النظر المصلحي لا بد عند تفعيله ألا يعود على المصلحة المقصودة بالإبطال، لا باعتبار وجود مفسدة أكبر منها، ولا باعتبار تفويتها لمصلحة أهم منها، ولا باعتبار تقاصرها عن تحقيق المصلحة المقصودة منها.. فهذه ثلاثة ملاحظ.
2 - أن اعتبار المصلحة ما دام مراعى في فقهيات الجهاد النظرية، حتى إن أهدر إطلاق أو عموم النص بحمل دلالة النص على المعنى المناسب الذي علم أنه مقصود للشارع؛ يجعل تطبيق أحكام الجهاد خاضعاً للمصالح الكبرى المقصودة للشارع ولو على حساب جزئيات النصوص.
وفعل عمر بن الخطاب في أرض السواد شاهدٌ لهذا.
إلا أن اعتبار المصالح أمر مشكل على غير المتبحّر علماً والمستقيم نفساً ومسلكاً، فهو مزلة أقدام ومضلة أفهام، ومن لم يستبصر فيه بنور الشرع، ولم يستضئ بتوفيق الله؛ ضل وانحرف.
ثانياً: الجهاد مربوط بالمعاهدات وفقه الواقع السياسي:
فلا بد من معرفة التداعيات والارتباطات، ورعاية العقود والاتفاقيات؛ ولذا قد يلزم الجهاد دفعاً عن كافر معاهد، وقد يمنع الجهاد دفعاً ونصرة لمسلم موحد.
قال ابن القيم: (وكان هديه وسنته إذا صالح قوماً وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معهم في عقدهم وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا معه في عقده صار حكم من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكم من حاربه، وبهذا السبب غزا أهل مكة؛ فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين تواثبت بنو بكر بن وائل فدخلت في عهد قريش وعقدها، وتواثبت خزاعة فدخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فبيتتهم وقتلت منهم وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح، فعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ناقضين للعهد بذلك، واستجاز غزو بني بكر بن وائل لتعديهم على حلفائه)[18].
ولم تكن كل خزاعة على الإسلام، كما أن نصرتهم لعهدهم لا لإسلامهم، إذ قال قائلهم:
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا[19]
وفي المقابل قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72].
يعني: لا تنصروا المسلمين الذين استنجدوا بكم على الكفار الذين عاهدتموهم؛ مراعاة للعهد الذي بينكم.
قال الطاهر بن عاشور: قوله تعالى: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذا حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم.. وذلك واجب عليهم، سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم، إذا توفّر داعي القتال.
فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد.. والاستثناء في قوله: {إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} استثناء من متعلِّق النصر وهو المنصور عليهم، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلا إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلا بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم، ولا يدخلون فيما جرُّوه لأنفسهم من عداوات وإحَن؛ لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين وبين المسلمين الباقين في دار الكفر، لا يعدّ نكثاً من الكفار لعهد المسلمين؛ لأن من عذرهم أن يقولوا: لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذير للمسلمين لئلا يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوماً بينهم وبينهم ميثاق.
وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد، وأنّه لا ينقضه إلا أمر صريح في مخالفته)[20].
وكذلك نجد تقريرات الفقهاء تؤكد قيمة كلمة المسلم ووفائه بعهده وكلمته وعدم إخلاله بها.
والذي يتخرج على هذا الضابط:
1 - ألا يقرر شيء يتضمن الإخلال بالاتفاقيات أو الغدر بها.
2 - ألا يجعل العطف والرحمة للمسلمين سبباً لنقض العهد إلا بناء على طريقته الشرعية بنبذه كما أمر الله.
ثالثاً: الاحتياط للدماء ولو من كافر:
فالجهاد مع كونه قتالاً وحرباً فهو في التشريع الإسلامي لا ينفك عن معنى الرحمة والإحسان، وعلى هذا تجري تطبيقاته.
عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)[21].
وعَنْ عَبْداللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلَ الإِيمَانِ[22].
ولذا؛ فالتمثيل بالقتلى، وقتل النساء والصبيان، وعقر البهائم؛ كلها محرمة حال الحرب، وليس معنى الحرب أن تهدر كرامة الإنسان وآدميته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
بل أمر الله تعالى بالإحسان للأسرى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: ٨].
قال البيضاوي: {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} يعني أسراء الكفار، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه». أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون، وفي الحديث: «غريمك أسير فأحسن إلى أسيرك»[23].
وتقريرات الفقهاء تجري وفق قاعدة الاحتياط للدماء، قال ابن قدامة: (وَمَنْ طَلَبَ الْأَمَانَ لِيَفْتَحَ الْحِصْنَ، فَفَعَلَ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَا الْمُعْطِي لَمْ يُقْتَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ)، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا حَصَرُوا حِصْنًا فَنَادَاهُمْ رَجُلٌ: آمِنُونِي أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. جَازَ أَنْ يُعْطُوهُ أَمَانًا؛ فَإِنَّ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ لَمَّا حُصِرَ النُّجَيْرُ، قَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: أَعْطُونِي الْأَمَانَ لِعَشَرَةٍ أَفْتَحْ لَكُمْ الْحِصْنَ. فَفَعَلُوا. فَإِنْ أَشْكَلَ الَّذِي أَعْطَى الْأَمَانَ، وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ، فَإِنْ عُرِفَ صَاحِبُ الْأَمَانِ عُمِلَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْتَمِلُ صِدْقُهُ. وَقَدْ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمُحَرَّمِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، فَحَرُمَ الْكُلُّ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةِ، أَوْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ، أَوْ اشْتَبَهَ زَانٍ مُحْصَنٌ بِرِجَالٍ مَعْصُومِينَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا)[24].
ومثله: أن من انتقض عهده لم يسر ذلك على زوجته وأولاده، مع أن عهده مع المسلمين سرى عليهم، وأن من دخل بلاد المسلمين من الكفار بلا أمان والعادة أن يدخلوا بلا أمان؛ لم يجز التعرض له.
والذي يتخرج على هذا الضابط:
1 - أن حالة الحرب لا تكفي لاستباحة دماء الناس وأموالهم إلا بيقين، فيحتاط لها، ولو أنه كافر محارب، وإذا أشكل شيء على المقاتل المسلم فإنه يسأل أهل العلم، فإن كان له - أو لهم - عذر في التواصل وجب الكف وعدم استباحة الدم إلا بيقين.
2 - ضرورة استعمال معاني الرحمة والإحسان حالي الحرب والسلم والبُعد عما يدل على الزهو بالانتصار، فقد (قدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا. قَالَ: فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ )[25].
رابعاً: لا تلازم بين جواز القتال وجواز القتل:
فقد تجوز المقاتلة للدفع أو للإلزام بحكم أو تنفيذه، أما القتل فلا يجوز إلا بشروطه، وتأمل أن الكافر يجوز قتله حال القتال، فإذا أسر لم يجز قتله إلا وفقاً لأحكام الأسرى، قال ابن قدامة: (فإن قتل أسيره، أو أسير غيره: فقد أساء)[26]، وقال الحافظ ابن حجر: (قَاتَلَ الصِّدِّيق مَانِعِي الزَّكَاة، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ صَبْرًا.. وَقَدْ أَطْنَبَ اِبْن دَقِيق الْعِيد فِي شَرْح الْعُمْدَة فِي الْإِنْكَار عَلَى مَنْ اِسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَلْزَم مِنْ إِبَاحَة الْمُقَاتَلَة إِبَاحَة الْقَتْل؛ لِأَنَّ الْمُقَاتَلَة مُفَاعَلَة تَسْتَلْزِم وُقُوع الْقِتَال مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَتْل. وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْقِتَال مِنْ الْقَتْل بِسَبِيلٍ قَدْ يَحِلّ قِتَال الرَّجُل وَلَا يَحِلّ قَتْله)[27].
بل نصّ الفقهاء على أن من قتل مدبراً حال النهي عن اتباعه ضمنه، قال ابن قدامة عن البغاة: (فَإِنْ قَتَلَ إنْسَانٌ مَنْ مُنِعَ مِنْ قَتْلِه، ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ.. وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ، فَإِنْ دَخَلَ فِي الطَّاعَةِ، خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، حُبِسَ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْقِتَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِينَ، خُلِّيَ سَبِيلُهُمْ، وَلَمْ يُحْبَسُوا، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.. وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ، لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أُسَارَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَا يَزِرُونَ وِزْرَ غَيْرِهِمْ)[28].
خامساً: في قتال الفتنة ليس يدعو للصلح أي أحد:
قتال الفتنة هو القتال بين طائفتين مسلمتين لا تأويل لأي منهما، أو لا يظهر المحق منهما من المبطل، أو القتال لطلب الزعامة والرئاسة والسلطة؛ فهو قتال غير مشروع.
والواجب حال الفتنة: الاعتزال وعدم المشاركة مع أي من الطائفتين، قال ابن تيمية: (من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة)[29].
وعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي عَلِيًّا. قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالَ: فَقُلْتُ، أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ)[30].
وعن أهبان بن صيفي رضي الله عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أَوْصَانِي خَلِيلِي، وَابْنُ عَمِّكَ، يَعْنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (سَتَكُونُ فِتَنٌ وَفُرْقَةٌ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاكْسِرْ سَيْفَكَ وَاتَّخِذْ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ)[31].
وعلى هذا عمل الصحابة، قال ابن تيمية: (لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قِتَالِهِمْ الخوارج كَمَا اخْتَلَفُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين، إذْ كَانُوا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَة أَصْنَافٍ: صِنْفٌ قَاتَلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ؛ وَصِنْفٌ قَاتَلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ؛ وَصِنْفٌ أَمْسَكُوا عَنْ الْقِتَالِ وَقَعَدُوا، وَجَاءَتْ النُّصُوصُ بِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْحَالِ)[32].
وعلى هذا تحمل أحاديث العزلة والنأي بالنفس عن مواضع الفتن.
والواجب على إمام المسلمين أو من يقوم مقامه في الشوكة والمكانة والقدرة، أن يصلح بينهما ويدعوهما لترك القتال، كما قال تعالى:{وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الحجرات: ٩].
وهذه الدعوة ليست من أي أحد، إذ لا يترتب عليها أثر إلا إذا كانت ممن يملك تأثيراً، قال الطاهر بن عاشور: (ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ؛ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة)[33].
ولما وقعت الفتنة قال عمران بن حصين لحجير بن الربيع العدوي: اذهب إلى قومك فانههم عن الفتنة. فقال: إني لمغمور فيهم[34].
وقد نص الفقهاء على أنه ما لم يكن ثمّ إمام يدعو للصلح، ثم لقتال الباغية؛ وجب اعتزال القتال؛ لأنه ما لم يكن ذلك فسيتعصب لكل طائفة منهم جماعة ويستمر القتال[35].
والذي يتخرج على هذا الضابط:
أن الدعوة للإصلاح ونحوها مما يترتب عليه حكم شرعي يتعلق بإباحة القتال؛ لا تصلح أن تصدر من آحاد الناس، بل من إمام معتبر أو شخصية تقوم مقامه بما لها من قدرة وتمكن. أما الدعوة للإصلاح دون ترتيب هذا الأثر فمطلوبة من الجميع؛ لأنها من الأمر بالمعروف.

 

--------------------------------------
[1] صحيح البخاري (71)، صحيح مسلم (2356).
[2] صحيح البخاري (143)، صحيح مسلم (6451).
[3] التحرير والتنوير ( 6/404).
[4] مواهب الجليل ( 6/87).
[5] تفسير السعدي (1/ 355).
[6] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/214)، وأبو يعلى (13/111)، والإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/814)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن (254)؛ وجميعهم من طريق قيس بن أبي حازم قال : سمعت خالداً يقول: .. فذكره، وصححه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/277)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/353) .
[7] الموافقات (1/96).
[8] (1/220).
[9] انظر: المعيار المعرب (10/79).
[10] الحلية لأبي نعيم (6/345).
[11] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 28.
[12] انظر: زاد المعاد (3/263).
[13] صحيح البخاري (2944).
[14] تضمين من المستصفى للغزالي (1/ 449).
[15] الشرح الكبير على المقنع (10/433).
[16] كشاف القناع (3/342 ).
[17] المرجع السابق.
[18] زاد المعاد (3/ 124).
[19] زاد المعاد (3/ 347).
[20] التحرير والتنوير (6/ 206).
[21] صحيح مسلم (5096).
[22] سنن أبي داود 2666 ، وسنن ابن ماجه 2682.
[23] تفسير البيضاوي (5/ 352).
[24] المغني (12/ 15).
[25] تضمين من المغني لابن قدامة (12/ 192).
[26] المغني (20/ 471).
[27] فتح الباري (1/ 41).
[28] المغني ( 12/ 428).
[29] مجموع فتاوى ابن تيمية ( 6/ 337).
[30] صحيح مسلم (7355).
[31] أخرجه أحمد 5/69، والترْمِذِيّ 2203، وقال: حديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[32] مجموع فتاوى ابن تيمية (1/ 283).
[33] التحرير والتنوير ( 14/ 17).
[34] أخرجه الطبراني، انظر: مجمع الزوائد (7/299)، وقال رجاله رجال الصحيح.
[35] انظر: بدائع الصنائع (7/140)، أحكام القرآن لابن العربي (4/1709)، سبل السلام (4/40).


 
مجلة البيان العدد  324

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع