صالح القلاب
تصدير المادة
المشاهدات : 3119
شـــــارك المادة
حتى بعد مرور عامين على هذه الحرب المدمرة، التي لا تزال مفتوحة على أسوأ الاحتمالات بما فيها احتمال تمزق سوريا وتشظيها وإقامة الدويلة المذهبية والطائفية التي يجري الحديث عنها على جزء منها، فإن بشار الأسد، الذي يتغنى المحيطون به بعبقريته وبأن الزمان لم يجدْ بمثله، لم يدرك بعد أن العرب كانوا تغاضوا عن إلحاق والده حافظ الأسد «القطر العربي السوري» بـ«بعْثه» وبرسالته الخالدة بحوزة الولي الفقيه في طهران، بعد تلك الحماقة القاتلة التي ارتكبها صدام حسين بغزو واحتلال دولة عربية هي دولة الكويت.
قبل تلك القفزة المشبوهة التي قام بها صدام حسين، التي، بالإضافة إلى أنها قد أوصلت العراق إلى ما هو عليه الآن، قد دمرت ما كان يعتبر أمنا قوميا عربيا - كانت سوريا تعيش حصارا غير مسبوق، والسبب هو أن حافظ الأسد، بمجرد انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) 1979، قد أدار ظهره حتى للدول العربية التي ساندته في الكثير من المعارك الداخلية، التي خاضها ضد من كانوا يعتبرون رفاقه في حزب البعث الحاكم، والتي وقفت إلى جانبه بعد انفراد أنور السادات بالذهاب إلى عملية السلام وتوقيع معاهدة كامب ديفيد الشهيرة، والتي «تفهمت» احتلاله للبنان وتظاهرت بتصديق أن اتفاقه مع هنري كيسنجر في عام 1976 قد جاء من أجل إنقاذ هذه الدولة العربية من الفوضى المدمرة وأيضا من أجل انتشال المقاومة الفلسطينية من المستنقع اللبناني الي بدأت تغوص فيه. ربما باستثناء جماهيرية القذافي العظمى والجزائر بحدود معينة، فإن معظم الدول العربية، إن ليس كلها، لم تستطع استيعاب تحويل دولة عربية رئيسة وأساسية إلى مجرد رقم ملحق بالمعادلة الإيرانية الإقليمية الجديدة، ولم تحتمل انحياز حافظ الأسد إلى الخميني وثورته في حرب الثمانية أعوام على العراق، ولذلك، ورغم أن الرئيس السوري السابق قد حاول التذاكي على هذه الدول بالقول إن قربه من طهران يحميها من أي نزوة شيطانية لأكثر الإيرانيين تشددا - فإن العرب بصورة عامة قد فرضوا حصارا حقيقيا على دمشق، بعضه معلن وبعضه غير معلن، والدوافع والأسباب هنا كثيرة ومتعددة. كان العرب قد تغاضوا عن مذبحة حماه في عام 1982 التي أزهقت فيها أرواح أكثر من ثلاثين ألفا، معظمهم من المواطنين الأبرياء من لون طائفي معين، وكان العرب قد تغاضوا عن تحويل قوات الردع العربية إلى قوات احتلال فعلي للبنان، وأيضا عن استباحة الكثير من المخيمات الفلسطينية تحت إشراف هذه القوات ومساندتها، كما أنهم قد تغاضوا أيضا عن تلاعب المخابرات السورية بأمن بعض الدول العربية. لكن هذا كله قد تلاشى دفعة واحدة عندما اختار حافظ الأسد التحالف مع إيران الخمينية، التي كان قد اتضح مشروعها التمددي الإقليمي وتصدير ثورتها المنتصرة، وببعد طائفي، إلى دول المنطقة. لكن العرب، الذين كانوا قد وضعوا نظام حافظ الأسد في دائرة التضييق والمقاطعة بسبب انحيازه، وبلون طائفي ومذهبي لم يكن خافيا، إلى طهران الخمينية - وجدوا أنفسهم مجبرين ومضطرين على القفز من فوق هذا كله بعد احتلال صدام حسين للكويت، وذلك على أساس أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا بد من الأخذ بنظرية الصراع القائلة إن الأولوية يجب أن تكون للأهم على حساب المهم، وأن الأهم أصبح، بعد تلك القفزة المشبوهة التي قام بها الرئيس العراقي الأسبق، هو تحرير الدولة الكويتية ودحر الاحتلال عنها.. وهذا قد احتاج إلى تغليب الرئيس على الثانوي والقبول بالنظام السوري على علاته، لأن عملية التحرير هذه بقوات دولية كانت تتطلب مشاركة قوات سورية إلى جانب الكثير من القوات العربية. إن هذا لم يفهمه ولم يدركه بشار الأسد عندما جاء إلى الحكم في عام 2000، ولذلك فإنه بدل أن يحافظ على العلاقات العربية التي خلفها له والده مع الاستمرار في علاقات معقولة ومقبولة مع إيران الخمينية - بدأ يدير ظهره إدارة كاملة حتى للعرب الذين أحسنوا إليه وأحسنوا لوالده قبله، وذلك إلى حد أنه بات يتصرف مع هؤلاء العرب كأنه وكيل للولي الفقيه، بل كأنه مجرد مجند في «فيلق القدس» التابع لحراس الثورة الإيرانية، فأخذ يخبط خبط عشواء، وحول سوريا إلى تابع للدولة الإيرانية وإلى مجرد رقم، وإن رئيسا، في معادلتها التمددية في الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية. وهنا، فإن المعروف أن الحرص على سوريا وعلى مكانتها وعلى دورها العربي، قد جعل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يبادر، وأكثر من مرة، إلى محاولة تصحيح علاقات بشار الأسد مع الدول العربية، التي كانت علاقات نظامه معها متردية وأكثر من سيئة؛ فكانت تلك المبادرة المفاجئة العظيمة في قمة الكويت الاقتصادية في عام 2009، وكانت تلك الزيارة التي رافقه فيها إلى لبنان، وأيضا كان هناك ذلك الاستقبال المميز له في المملكة العربية السعودية.. لكن الرئيس السوري، الذي كان - ولا يزال - ينظر إلى كل شيء، إنْ في الشرق الأوسط وإنْ في المنطقة العربية، من زاوية تبعيته لإيران الخمينية، لم يدرك مغزى ومعنى هذا كله فبقي يدير ظهره للعرب بغالبيتهم، وبقي يضع بيضه كله في السلة الإيرانية. وهكذا، فقد ازداد بشار الأسد، بعد الاحتلال الأميركي للعراق، التصاقا بإيران وازداد ابتعادا عن العرب، بل ومناكفة لهم. وهنا، فلعل ما زاد الطين بلة، كما يقال، أنه - وانسجاما مع مخطط سيطرة الإيرانيين الفعلية، الأمنية والسياسية وكل شيء، على بلاد الرافدين - قد انخرط هو بدوره في لعبة الإيرانيين بالسعي لإغراق الولايات المتحدة في الرمال والأوحال العراقية، وهذا قد اضطره إلى التعاون مع «القاعدة» وإلى تحويل سوريا إلى ساحة أنشطة عسكرية واستخباراتية لـ«فيلق القدس» الإيراني ولحزب الله ولبعض الميليشيات الطائفية العراقية. ثم، ولقد كانت الخطيئة الكبرى فوق هذا كله عندما بادر إلى معالجة احتجاجات شعبه، التي كانت لا تزال سلمية، بالعنف وبفتح أبواب سوريا على مصاريعها أمام التدخل الإيراني العسكري والأمني السافر وأمام تدخل حزب الله وتدخل بعض الميليشيات العراقية، وكل هذا بأبعاد طائفية ومذهبية مكشوفة ومعلنة، وبتحويل هذا البلد إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وعلى غرار ما كان عليه الوضع في عقد خمسينات القرن الماضي - عقد الانقلابات العسكرية المتلاحقة، التي كان أولها انقلاب حسني الزعيم، الذي أكد مايلز كوبلاند في كتابه الشهير «لعبة الأمم» أنه كان انقلابا أميركيا، وكان آخرها انقلاب والده حافظ الأسد في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 الذي كان قد حظي هو أيضا بالمباركة الأميركية.
إن بشار الأسد لم يدرك هذا كله، ولم يقدر كرئيس لدولة عربية محورية أن تسليم عنقه وعنق سوريا لإيران ستكون نتيجته هذه النتيجة، وأن العرب الذين أدار ظهره إليهم والذين واجههم بالشتائم عندما حاولوا أن يمدوا إليه حبل النجاة في بدايات هذه الأحداث المتصاعدة والمتلاحقة - لا يمكن أن يتركوه يذبح الشعب السوري ويشتته على هذا النحو، ولا يمكن أن يتركوه يواصل تدمير هذا البلد العربي بهذه الطريقة. ثم، وربما أن بشار الأسد لم يدرك، حتى بعد عامين من هذه الأحداث التي هرست سوريا هرسا وشردت شعبها ودمرت مدنها وقراها، أن اصطفاف الروس إلى جانبه، وبكل هذا الإصرار، لا هو من أجل سواد عينيه ولا حرصا على نظام «الممانعة والمقاومة»، بل لتصفية حساباتهم مع الولايات المتحدة، إنْ بالنسبة لنفط بحر قزوين والجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي في مراحل الحرب الباردة وقبل ذلك والتي لا تزال تعتبر مجالا حيويا لروسيا الاتحادية، وإن بالنسبة لقواعد الصواريخ الأميركية في بعض دول أوروبا الشرقية، وأيضا وإن بالنسبة لمسألة عالم القطب الأوحد والعالم متعدد القطبية، لكن ومع ذلك فإنه، أي الرئيس السوري، مستمر في الإصرار على التمسك بكرسي الحكم وعلى ذبح وتشريد شعبه، ظانا أن موسكو ستبقى تقف معه حتى النهاية، وظانا أن الإيرانيين سيضمنون له الانتصار، ليس على «الجيش الحر» والمعارضة فقط، وإنما أيضا على العرب كلهم.
الشرق الاوسط
طارق الحميد
محمود الكن
دمتري شومسكي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة