..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

تركيا والعراق... ما بين الثورة السورية والتأثير الإيراني

علي البياتي

٤ إبريل ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3100

تركيا والعراق... ما بين الثورة السورية والتأثير الإيراني
3.jpeg

شـــــارك المادة

شهدت العلاقات التركية - العراقية تطوراً ملحوظاً وتعاوناً في مجالات مختلفة بعد سقوط بغداد عام 2003م على يد الاحتلال الأميركي، وتشكيل نظام سياسي عراقي جديد قائم على التقسيم الطائفي والقومي، كانت الرؤية السياسية التركية في بداية الأمر تعتمد في المقام الأول على البعد الأمني، خصوصاً قضية انتشار مسلحي حزب العمال الكردستاني في مناطق كردستان، وعلى البعد القومي فيما يتعلق بالأقلية التركمانية في العراق ومدينة كركوك.


وبعد اندلاع الحرب الأهلية في مناطق وسط العراق بين الأعوام 2006- 2008، فُرض على تركيا توسيع سياستها تجاه العراق من شماله وحتى وسطه وجنوبه، وكجزء من إستراتيجية وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو الإقليمية في قضية "الوساطة وحل مشاكل أطراف النزاع"، استطاعت أنقرة بناء علاقات جيدة مع جميع الأطراف السياسية في العراق لمحاولة تقريب وجهات النظر فيما بينهم، وحققت في ذلك الكثير من الإنجازات، مثل المساهمة في إقناع سياسيي العرب السنة للمشاركة في العملية السياسية بعد أن كانوا يرفضون الدخول في العمل السياسي تحت الاحتلال الأميركي.
الوقوف الحيادي من الأطراف العراقية منح الساسة الأتراك ميزة إستراتيجية لم يمتلكها أي طرف إقليمي أو عالمي، وهو القدرة على التأثير في جميع الأطراف العراقية، مما حقق مكاسب مهمة لتركيا خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، حيث أصبح العراق ثاني أهم شريك تجاري لتركيا بعد ألمانيا.
وبعد المتغيرات الإقليمية والعالمية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وبعد أن أصبح موضوع الانسحاب الأميركي من العراق حقيقة واقعة، غيرت تركيا من سياستها المحايدة تجاه العراق بسبب الفراغ الذي سيسببه الانسحاب الأميركي، وغاص الأتراك في تعقيدات المشهد العراقي، ووجدت أنقرة نفسها ملزمة بالتقرب لأطراف دون آخرين بسبب الاستقطاب السياسي الطائفي الحاد في العراق، فدعمت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة "القائمة العراقية" المكونة من أحزاب سنية يقودها إياد علاوي الشيعي العلماني، هذا الدعم كان مزعجاً جداً للأحزاب الشيعية في العراق، بل أثر بشكل كبير حتى في بعض الجهات الكردية، حيث صرح الطالباني قائلاً: "إن تركيا لم تدعم ترشيحي لولاية ثانية لرئاسة العراق، ولا أعلم من يقف خلف هذه السياسة، لكن سياستها تجاه العراق خاطئة وفشلت"، مضيفاً أن "علاوي الذي دعمته أنقرة لرئاسة الوزراء لن يتقلد هذا المنصب، وكذلك لن يصبح أحد من الذين دعموهم رئيساً للجمهورية ووزيراً للخارجية".
لم تكن هذه المرة الأولى الذي تعتقد فيها الحكومة العراقية بأن تركيا تعاكس مصالح الأطراف الشيعية في العراق، فقد شهدت العلاقات العراقية التركية توتراً في العام 2009م عندما قامت أنقرة بمهمة الوساطة بين "المجلس السياسي للمقاومة العراقية"، الذي يمثل أهم فصائل المقاومة السنية المسلحة، والولايات المتحدة، وعُقدت اجتماعات بين هذه الأطراف في إسطنبول للتوصل إلى تسوية لإيقاف العمليات المسلحة ضد الاحتلال الأميركي مقابل إعلان واشنطن جدولة عملية انسحاب قواتها من العراق، واستمر التوتر على مستوى متوسط حتى قيام الثورات العربية التي وصلت إلى محطتها الأخيرة في سوريا.
وحاولت تركيا جاهدة في بداية الثورة السورية إقناع بشار الأسد بضرورة إيجاد حلول سلمية سياسية للاحتجاجات الشعبية، إلا أن هذا الأمر لم ينجح بسبب سياسة بشار الأسد الدموية، وسرعان ما كان رد التركي بالتصعيد على محاور عديدة، مثل المساهمة في تنسيق تحركات المعارضة السورية وعقد المؤتمرات الدولية ضد النظام السوري، وكذلك توفير ملجأ آمن لقيادات الجيش السوري الحر وعلى رأسهم العقيد رياض الأسعد.
هذه السياسة التركية تجاه سوريا اصطدمت بتوجه (الصديق العدو) إيران التي تعتبر سوريا محطة مهمة من محطات تحركاتها الإقليمية، فسوريا هي محور توازن إيران الإستراتيجي الإقليمي أمام حلفاء الغرب من الدول العربية، خاصة دول الخليج العربي، وتلقت أنقرة تحذيرات الإيرانية متتالية، خاصة مع وجود مصدر أزمة آخر، تمثل في قبول تركيا وضع رادار الناتو الموجه ضد إيران في مدينة مالطيا التركية.
وتدرك إيران جيداً المخاطر المحيطة بها جراء تداعيات الثورات العربية، فهي ستكون الضحية التالية في حال سقوط بشار الأسد ونهوض الدول العربية وتحالفهم مع الأتراك.
وملالي طهران يستميتون لمنع حصول ذلك ويتحركون في كافة الاتجاهات لتقليل خسائرهم. وكجزء من التحركات السياسية الإيرانية في هذا الاتجاه، قام الإيرانيون بالتواصل مع التيارات الإسلامية الصاعدة في مصر وتونس وليبيا بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال حزب الله في لبنان وبعض السياسيين العراقيين، منها محاولة حزب الله الاتصال بالمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر قبل فترة وجيزة، أو زيارة همام حمودي رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان العراقي إلى مصر على رأس وفد من البرلمانيين الشيعة ولقائهم برئيس مجلس الشعب المصري سعد الكتاتنني وعصام العريان ومحاولتهم التوسط في القضية السورية، وهناك بعض الأنباء عن لقاء بعض المسؤولين في حزب الدعوة الحاكم في العراق براشد الغنوشي في تونس.
وقد هددت إيران جارتها تركيا في أكثر من مناسبة بشان القضية السورية، ومن أهم تلك التهديدات ما جاء على لسان "رحيم صفوي"، المستشار العسكري للمرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي في مقابلة مع وكالة أنباء "مهر" شبه الرسمية، حيث صرح: "إن سلوك رجال الدولة الأتراك تجاه سوريا وإيران خاطئ، وأعتقد أنهم يتصرفون بما يتماشى مع أهداف أميركا، إذا لم تنأ تركيا بنفسها عن هذا السلوك السياسي غير التقليدي، فإن الشعب التركي سينصرف عنها داخلياً، وستقوم الدول المجاورة لها -سوريا والعراق وإيران- بإعادة النظر في روابطها السياسية معها".
هذا التصريح الغريب الذي يهدد فيه مسؤول إيراني تركيا، لم يلق استنكاراً من قبل رئيس الوزراء العراقي أو الخارجية العراقية، بل إن تصرفات الحكومة العراقية جاءت مترجمة لهذه التهديدات الإيرانية، فبعد عودته من واشنطن، شن المالكي حملة على سياسيي أهل السنة، وعلى رأسهم حليف تركيا نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، حيث لاحقه بحجة دعم الإرهاب، واستبعد المالكي نائبه صالح المطلك وطالب بإقالته، وأصدر مجلس القضاء المتهم بانحيازه للمالكي مذكرات اعتقال بحق أعضاء في القائمة العراقية كالنائبين سليم الجبوري وحيدر الملا، وكذلك ملاحقة بعض أعضاء العراقية في محافظة ديالى بعد إعلان مجلسها عن تشكل "إقليم ديالى".
وهذه الضربة الموجهة للسياسيين السنة في العراق كانت حلقة ضمن سلسلة ضربات حكومية سابقة، كاستبعاد الأساتذة الجامعيين من الجامعات العراقية بحجة انتمائهم للبعث، أو اعتقال العديد من ضباط الجيش العراقي السابق بحجة محاولة الانقلاب.
وإثر هذه الحملات القمعية اعتبرت الكثير من الصحف العالمية ومراكز البحوث والدراسات السياسية بأن سلوك نوري المالكي هو أقرب إلى تصرفات شخص يتجه نحو الدكتاتورية، حيث إنه يسيطر على القوات الأمنية العراقية والقضاء، وهو ما يعزز نزعته التسلطية. وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه الجميع موقفاً أميركياً من تصرفات الحكومة الشيعية في العراق، فضلت واشنطن غض النظر عن تلك الأحداث في خطوة أثارت الكثير من علامات الاستغراب.
وكانت الانتقادات للسياسة الخارجية لإدارة أوباما تتركز على السلبية والبطء في التعامل مع القضايا المهمة كما حدث ويحدث في دول الثورات العربية، أما في الشأن العراقي، فإن الإدارة الأميركية مسؤولة عن صناعة العملية السياسية، فهم الذين وضعوا الأساس الطائفي والعرقي طوال سنوات الاحتلال، وعند سؤال أحد المسؤولين في الخارجية الأميركية عن سبب تلك السلبية الأميركية في التعامل مع قضية العراق، أجاب بأن هذه هي سَنة الانتخابات في أميركا، والملف العراقي هو ملف مزعج بالنسبة للناخب الأميركي، وإدارة أوباما لا تريد خسارة المزيد من رصيدها أمام الناخب بإثارة موضوع الأزمة في العراق.
وفي حين عزفت أميركا والدول العربية المنشغلة بالثورات الشعبية عما جرى في العراق، أتى الهجوم على تصرفات المالكي من تركيا، فقد صرح أردوغان بأن أنقرة ترفض سياسة الإقصاء والتهميش التي يتبعها المالكي تجاه شرائح من المجتمع العراقي، واتهم المالكي تركيا بالتدخل في الشأن العراقي، ورد أردوغان سريعاً بأن الاتهامات لتركيا بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق "قبيحة ومؤسفة"، مضيفاً بأن تركيا لا يمكنها تجاهل ما يجري في العراق، وشدد على "وجوب أن يدرك المالكي جيداً أنه بسياساته الصدامية مع الخصوم قد يشعل صراعاً طائفياً، ومن المستحيل علينا الصمت حيال ذلك".
وترجمت تركيا أقوالها باستضافة عمار الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، بهدف إيصال رسالة إلى الأطراف العراقية، مفادها بأنها لا تقف مع السنة ضد الشيعة في العراق من منطلق مذهبي، إنما تقف ضد أفعال وتصرفات المالكي الطائفية، وأن هناك أطراف شيعية أخرى من الممكن أن تحل محل المالكي، ولم تكتف بهذا الأمر، بل اتصل أردغان بجو بايدن نائب الرئيس الأميركي والمسؤول الأول عن الملف العراقي في الإدارة الأميركية، وسرعان ما خرجت وزيرة الخارجية الأمريكية هيليري كيلنتون لتقول بأن على المالكي حل مشاكله مع الأطراف الأخرى في العراق عن طريق الحوار والتفاهم المشترك.
إن تركيا هي الطرف الأهم بالنسبة للسياسة الأميركية في المنطقة، فكلا البلدين يشتركان تقريباً في الرؤية للقضايا المهمة في المنطقة، سواء في ملف الربيع العربي أو في سوريا أو قضية عدم حيازة إيران للأسلحة النووية، أو حتى بشكل نسبي في الصراع العربي - الإسرائيلي، ولكن الفرق أن تركيا باستطاعتها الوصول إلى أماكن وأطراف في المنطقة لا يمكن لأميركا الوصول إليها، وهذا يُمكن تركيا من حيازة أهمية إقليمية كبيرة.
من الممكن القول بأن الأحداث في سوريا لن تحدد مصير سوريا فحسب، بل ستحدد مصير المنطقة برمتها، وخاصة العراق، وستحدد كذلك علاقات الدول العربية مع كل من إيران وتركيا، ولا يبدو أن نظام الأسد سيتوقف قريباً عن تدمير المدن والقتل البشع بحق المدنيين العزل، لأنه لا يقاتل لأجل نظامه فحسب، بل نيابة عن منظومة إقليمية كاملة تشمل إيران وأحزاب السلطة في العراق وحزب الله في لبنان.
وقد مُنح السنة في العراق فرصة تاريخية في الثورات الشعبية العربية، خصوصاً في سوريا، وهم اليوم أمام قرار حاسم يحدد مصيرهم في هذا البلد، فقد رمت إيران بثقلها في العراق، وهي تمتلك الأدوات لتفعيل أهدافها.
وبالمقابل -لو فرضنا في أفضل الاحتمالات- أن منظومة سنية إقليمية تتشكل إثر سقوط نظام سوريا ونهوض مصر وتحالف دول الربيع العربي مع تركيا، حينها من المهم تشكيل أدوات للسنة في العراق ليتمكنوا من الاستفادة من هذا العمق الإستراتيجي الجديد، ذلك أن وضع سنة العراق اليوم بائس بسبب حالة الضعف الشديد على مختلف المستويات.
وعلى الجهات السنية الرئيسة -التي تصارعت وتحاربت فيما بينها في السنوات التسع السابقة- تضييق الفجوة فيما بينها والتلاقي على قواسم مشتركة مشتركات، وهي كثيرة، وعليها الابتعاد عن الخلافات في الوقت الحالي وإن كانت عميقة.
ومن المهم أن يدرك السياسي السني الذي شارك في العملية السياسية أن وضعه عند حكومة المالكي لا يختلف عن المقاتل السني الذي حمل السلاح ضد المحتل وأعوانه، فجميعهم خطر على المشروع الإيراني، ولهم فيما جرى لطارق الهاشمي عبرة، وقد حان الوقت كي يقدموا مصالح بلدهم على مصالحهم الخاصة، وعلى التيارات السنية الأخرى مثل مجموعات المقاومة أو المنظمات والهيئات والجمعيات السنية المعارضة للحكومة التنازل عن بعض نقدها للأطراف السنية الأخرى، فليس الوقت وقت عتاب، والمطلوب منهم وقفة جماعية أمام مخاطر إقصائهم وتهميشهم، وليس بالضرورة أن تتوحد الأطراف السنية على حزب أو جماعة، إنما التوحد على هدف ومشروع محدد.

المصدر: موقع التأصيل

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع