..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

هل اقتربنا من يوم الحسم؟

مجاهد مأمون ديرانية

٣ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2816

هل اقتربنا من يوم الحسم؟
0008899.jpeg

شـــــارك المادة

رسائل الثورة السورية المباركة (58): هل اقتربنا من يوم الحسم؟ 

3- ملاحظات استباقية:
(1) خلال الشهرين الماضيين تلقيت رسائل كثيرة تطلب مني اختصار المقالات الطويلة لتَسهُل قراءتُها، وبعد أخذ وردّ وجولة "مساومات" مع بعض القرّاء وصلتُ إلى الحجم الذي رأيتموه في المقالات الأخيرة، صفحتين أو تزيدان قليلاً. لكنّي لم أستطع اختصار هذه المقالة لأنها في الحقيقة مجموعة مقالات في واحدة، فأرجو أن تتعاملوا معها على هذا الأساس لتسهل قراءتها، وسامحوني هذه المرة!
(2) هذه المقالة ليست مرتبطة بما نُشر قبلها في الأسابيع الأخيرة، بل هي المقالة السادسة من مقالات ما بعد حماة التي نشرت الخمسَ الأولى منها في رمضان، وسوف تُفهَم بشكل أفضل إذا وُضِعَت في سياقها الصحيح وقُرئت بعد تلك المقالات:"حماة، المعركة الفاصلة" (3/8)، "حماة تهزم النظام بالضربة القاضية" (8/8)، "الفصل الأخير: ماذا بعد حماة؟"(9/8)، "الأحداث المتسارعة تقرع بابَ النهاية" (15/8)، "في الطريق إلى يوم الحسم"(24/8).
(3) كتبت هذه المقالة خلال أربعة أيام ونيّف، وقبل نشرها بساعات أُذيع خبر موافقة النظام السوري على المبادرة العربية، فلم أغيّر شيئاً من محتوياتها لأن تغييرها يحتاج إلى جهد كبير، إلا أنني أضفت إليها فقرة أخيرة صغيرة ختمت بها المقالة، على أن أعود لأتحدث عن احتمالات ما بعد الموافقة المزعومة وعمّا ينبغي علينا أن نَحْذره وما ينبغي أن نفعله، وهي أمور تحتاج إلى مقالة خاصة لعلي أنشرها خلال أيام -بإذن الله-؛ ادعوا لي، فإن العمل كثير والوقت قصير، والمُستعان هو الله، لا معين سواه.
-1-
لماذا تعطّل قطار الأحداث؟

هل تذكرون مقالة "الفصل الأخير: ماذا بعد حماة؟" التي نشرتها في التاسع من رمضان؟ قلت في أولها: "يجب أن ننتظر ما بين أسبوع وأسبوعين، أما ما سيحدث بعد هذا الوقت القصير فأتوقع أن يكون مفاجأة من العيار الثقيل؛ تطوراً حاسماً جداً وكبيراً جداً، إما أن يضع نهاية سريعة جداً للنظام ويفضي إلى انتصار حاسم للثورة، أو يقود إلى فترة انتقالية صعبة وطويلة. لا أرى حلاً وسطاً بينهما، وأتمنى أن تكون الأولى". في تلك المقالة والتي قبلها -حماة تهزم النظام بالضربة القاضية- رصدتُ ثلاثين موقفاً من المواقف الدولية الكبيرة والمتسارعة، ثم علقت عليها قائلاً: "عندما نقرأ المواقف الثلاثين معاً فسوف يتبادر إلى أذهاننا على الفور استنتاج واحد: إنهم يقرعون طبول الحرب!".
لبثت بعدها أنتظر وأراقب المؤشرات، وكان ينبغي أن تتوالى يسحب بعضُها بعضاً باتجاه "حسم" من نوع ما، وفجأة توقف كل شيء! ومضت أيامٌ طويلة ثقيلة ليس فيها من التطورات ما يستحق أن يُذكَر، وكتب إليّ أحد الأفاضل يقول: ها قد مضت المدة التي توقعتَها ولم يحصل شيء! فكتبت إليه: معك حق، لم يأت الحدث الكبير حتى الآن، وهذا يدل على واحد من أمرين: إما أنني فاشل في القراءة السياسية، أو أن التطورات المنتظَرة تستغرق وقتاً أطول مما ينبغي. كل واحد من الاحتمالين السابقين صحيح بنسبة خمسين بالمئة، بل لا يضيرني أن أعترف مبدئياً بأنني أنا الفاشل حتى يثبت العكس.
كما قلت قبل قليل: لبثت أنتظر وأراقب المؤشرات، وازددت اقتناعاً مع الوقت بأنها تمشي في الاتجاه الصحيح، لكن السرعة كانت مختلفة جداً عمّا كنت أتوقعه. لقد أوحى الانفجار المفاجئ للتطورات السياسية على المستويين الإقليمي والدولي -الذي شهدناه في أواسط رمضان- بتسارع هائل للأحداث، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى تطورات بطيئة مملّة. فما الذي حصل فعلاً؟ لقد بدأ قطار الأحداث بالتحرك نزولاً في طريق شديد الانحدار، وفجأة وقف في وسط الطريق! لماذا وقف في وسط الطريق؟
كان مما خطر ببالي مبكراً أن تأخر المعارضة في إعلان مجلسها من شأنه أن يؤخّر التحرك الدولي باتجاه محاصرة وإسقاط النظام -لأسباب أوضحتها في مقالة "في الطريق إلى يوم الحسم" التي نُشرت في الرابع والعشرين من آب-، فلما تأخر إعلان المجلس كتبت مقالة شديدة اللهجة بعنوان "المجلس الوطني: تعليق لا بدّ منه" قلت في أولها: "مَن يتابع الأحداث الجارية والمواقف الدولية المتسارعة يدرك أن الإعلان عن مجلس وطني أو هيئة جامعة تمثل الثورةَ صار هو عنق الزجاجة في المسار كله، وهو الذي يؤخر العملية الدولية التي أُعِدّت ترتيباتها وحُبكت خيوطها باتجاه إسقاط النظام… فأرجو أن تحسموا أمركم وأن تعلنوا عن مجلسكم اليومَ قبل الغد، أو غداً قبل غداة الغد، فكل يوم جديد يمر عليكم ولمّا تعلنوا مجلسكم هو يومٌ جديد يمرّ على أهلكم في المحنة والمعاناة".
نعم، غلب على ظني أن التطورات الدولية توقفت عن التدفق والتسارع بسبب تعثر وتأخر ولادة المجلس الوطني، ومع ذلك شككت في نفسي وفي تقديراتي السابقة، وراجعت المعطيات مراراً فأوصلتني إلى النتيجة نفسها -بنسبة عالية بالطبع، أما الجزم فلا يجرؤ عليه أحد-. بعد ذلك ثابرت على متابعة المؤشرات الظاهرة والخفية والمباشرة وغير المباشرة، وقد استمرت تلك المؤشرات بلا توقف ولكنها كانت بطيئة جداً للأسف الشديد… حتى وُلد المجلس أخيراً، وبسرعة البرق بدأت الرسائل الإيجابية -من ترحيب وقبول- بالتوارد من العواصم العالمية، وبدأ قطار الأحداث بالتحرك مرة أخرى، بما يوحي بأن الصورة التي رسمَتها تطوراتُ رمضان لم تكن عشوائية؛ لقد كانت حلقاتٍ من مسلسل انقطع بثُّ حلقاته بسبب "عطل فني"، هو غياب وكيل للثورة يمكن أن ينطق باسمها ويمثلها في المحافل الدولية، فلما تم إصلاح ذلك العطل الفني ووُلد المجلس استُؤنف بثّ الحلقات من جديد.
-2-
عينٌ على النظام:

نحن كلنا نتابع باهتمام المؤشرات الدالّة على تدهور النظام وعلى اقتراب لحظة انهياره الكامل، ولكن النظام نفسه أشد اهتماماً وأحرص على المراقبة، ولا شك أنه يمر بلحظات عصيبة وهو يرى الحبل يلتف حول رقبته ويزداد في كل يوم التفافاً وضيقاً. لعله راقب بفزع المؤشرات التي تسارعت في رمضان منذرة بعمل حاسم يمكن أن يقتلعه من جذوره، وما كاد رمضان ينقضي حتى فوجئ بضربة من العيار الثقيل: انشقاق وهروب المحامي العام الأول في حماة، الأستاذ عدنان بكور. آخر ما نُشر عن تلك الحادثة المهمة هو أن الرجل وصل إلى تركيا وأنه نجح في حمل وثائق خطيرة تحمل توقيع بشار الأسد وتتضمن أوامر صريحة بقتل المتظاهرين السلميين، وقد سُلّمت الوثائق إلى محكمة الجنايات الدولية كما قيل. أرجو أن لا تنسوا تلك الحادثة المهمة لأن لها ما بعدها، ولا ريب أنكم ما زلتم تتذكرون الحالة الهستيرية التي أُصيب النظام بها بعد إعلان الهروب، وسوف تدركون من درجة هيجانه وجنونه القيمةَ الحقيقية للرجل ولما حمله معه من وثائق.
ثم جاءت الضربة الموجعة الجديدة التي حاول النظام أن يتجنبها طويلاً، ولادة "المجلس الوطني السوري" والإعلان الرسمي عنه في الثاني من تشرين الأول الماضي. هل تذكرون ردّ الفعل الجنوني من قِبَل النظام؟ من الواضح أنه فَقَدَ أعصابه لأنه أدرك حجم الكارثة القادمة، وحينما تتابعون تصريحات وزير الخارجية وتهديداته الفارغة لكل من يعترف بالمجلس، وتسمعون هذيان "المفتي" عن الحرب المقدسة والعمليات الانتحارية "في العمق الأوروبي"، عندما تتابعون كل ذلك سوف تتساءلون: أهذا إعلام دولة عاقلة؟ لا، ليس كذلك، ولكنه المذبوح يرقص رقصة الموت.
إن النظام يشعر بأنه يقترب من نهايته يوماً بعد يوم، وما زيادة جنونه وعنفه وهيجانه على الأرض -في حمص وفي ريف دمشق خاصة، وفي سائر مناطق الثورة على العموم- إلا انعكاس لقلقه وتوتره وإدراكه أن خياراته تتآكل وأن أيامه تنقضي بسرعة. بالإضافة إلى الجنون والإجرام اللذين يعبّران عن قلقه وذعره إليكم ثلاث علامات مهمة رصدتُها خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة:
أ- أفاد تقرير نشرته صحيفة الديلي تلغراف يوم الجمعة 7-10 بأن أفراداً من عائلة الرئيس السوري بدؤوا ببيع إمبراطوريتهم العقارية المنتشرة حول العالم، وأبرزها مجموعة من المنازل يملكونها في لندن. وأشارت الصحيفة إلى أن تصرف عائلة الأسد في جميع ممتلكاتهم العقارية في الخارج يأتي تحسباً لإجبار النظام على التخلي عن إدارة البلاد في أي وقت، وأضافت: الملاحَظ أن رفعت الأسد يشارك في بيع جميع ممتلكاته في أميركا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا تحسباً للملاحقات القضائية وعمليات المصادرة التي قد تطوله هو أيضاً في حالة سقوط النظام.
ب- بعد ذلك بأسبوع واحد (14/10) وردت من دمشق أخبار تشير إلى أن حالة هلع انتشرت بين كبار التجار في العاصمة بعد تسرّب معلومات عن تهريب أكثر من عشرة أطنان من الذهب والعملات الصعبة من البنك المركزي إلى طهران.
ج- في اليوم التالي (15/10) انتشرت في اليوتيوب معلومة مهمة جداً قدّمها مساعدٌ منشقّ اسمه محمود عبد الرحمن، حيث أكّد أن كبار الضباط العلويين بدؤوا بتسفير عائلاتهم إلى خارج سوريا مؤخراً. أهمية المعلومة هي أن مصدرها واحد من موظفي الأمن الداخلي في مطار دمشق الدولي.
-3-
المواقف الغربية والدولية:

الإعلان الرسمي عن المجلس السوري الوطني كان قبل شهر من اليوم، ومنذ ذلك الوقت صدرت عن مجموعة من المسؤولين الكبار في أوروبا والولايات المتحدة والأمم المتحدة مواقف وتصريحات تتجه كلها باتجاه واحد، وهو الإعداد لعمل كبير من شأنه إسقاط النظام. فيما يلي عرض لأهم المواقف مرتّبةً بتاريخ صدروها:
3/10- "الاتحاد الأوروبي رحب بالمجلس الوطني ودان القمع الوحشي بأشدّ العبارات، وكرّر مطالبة الأسد بالتنحي الفوري، ودعا إلى محاكمة المسؤولين عن المجازر في سوريا".
3/10- "أعلن وزير الدفاع الأمريكي بأن سقوط النظام السوري هو مسألة وقت". عندما تسمعون هذا الرأي الصريح من فرد من أفراد الناس فإنكم تقولون إنه رأي شخصي، أما عندما يصدر عن مسؤول رفيع في الإدارة الأمريكية بحجم وزير الدفاع فإن معناه مختلف تماماً، فهو يكاد يحمل رسالة ضمنية مفادها: نحن نعمل على ذلك.
10/10- "دعت واشنطن رعاياها في سوريا إلى مغادرتها فوراً قبل أن يشهد المستقبل توقف الرحلات الجوية". أليس من المنطقي أن نتساءل: لماذا ستتوقف الرحلات الجوية؟
11/10- "قال الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون: إن الرئيس السوري لم يَفِ بالوعود الكثيرة التي قطعها، ودعا إلى القيام بعمل دولي موحّد ضد النظام السوري". ترى ما هو هذا العمل الدولي الموحد؟ هل يعلم الأمين العام للأمم المتحدة ما لا نعلم، أم أنه يدفع باتجاهٍ ما بناءً على ترتيبات مع بعض الدول الكبرى؟
14/10- الأمم المتحدة مرة أخرى: "دعت الأمم المتحدة إلى إجراء دولي لتجنب حرب أهلية شاملة في سورياً، وطالب أمينها العام السلطات السورية بوقف حمامات الدم فوراً".
21/10- بعد فشل التحالف الغربي في تمرير قرار ضد النظام السوري في مجلس الأمن أوائلَ الشهر بسبب الفيتو الروسي-الصيني: "صرح وزير الخارجية الفرنسي، ألان جوبيه، بأن الاتحاد الأوروبي ما زال يعمل على مشروع قرار لإدانة النظام السوري".
23/10- تصريح ملفت للانتباه من واحد من أهمّ أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي وأكثرهم تأثيراً في السياسة الخارجية: "صرّح السناتور الأيريكي ورئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، جون ماكين، بأن العمل العسكري ضد النظام السوري سيؤخَذ بالاعتبار بعد أن تجاوز عدد ضحاياه ثلاثة آلاف، قائلاً: إن واشنطن تصغي إلى طلب المعارضة المتكرر لنوع من التدخل العسكري الأجنبي، وإنها تعمل مع المجلس الوطني السوري بهذا الشأن".
23/10- "نقلت مصادر صحفية عن مسؤول بريطاني أن حظراً جوياً سوف يُفرض على سوريا خلال أسابيع قليلة".
24/10- "سحبت واشنطن سفيرها روبرت فورد من دمشق -بسبب ما وُصف بأنه مخاوف أمنية-".
الملخص السابق يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع الدولي يمشي جادّاً باتجاه إسقاط نظام الأسد، أما المؤشرات الخفية وغير المباشرة التي تتسرب من وراء كواليس الإدارة الأمريكية فتقول ما هو أكثر من ذلك: ليس أمام النظام سوى واحد من خيارين: الاستسلام والتنحّي أو الحرب. أما التوقيت فلا يبدو بعيداً جداً، حاولوا أن تتابعوا -منذ اليوم- المؤشرات من خلال التحركات العسكرية والمناورات المشتركة مع دول الجوار، وراقبوا البحر؛ إن تحرك الأساطيل والقطع البحرية من المؤشرات المهمة في النزاعات الدولية.
-4-
ماذا يحدث في تركيا؟

برأيي فإن أهم المؤشرات هي التي تأتي من تركيا. ما هي هذه المؤشرات؟ تقريباً لا شيء! لا تظنوا أني أمزح، لا والله، بل أنا جادّ غيرُ هازل، فإن الصمت التركي هو أشد الإشارات أهمية، وهو أكثر ما يثير قلق النظام السوري. لقد قال القادة الأتراك ما ينبغي أن يقولوه وحرقوا الجسور مع النظام السوري ثم سكتوا، سكتوا ولكنهم ما سكنوا، بل استبدلوا بالكلام أفعالاً، وبدؤوا بالعمل لإسقاط نظام الأسد وبإعداد المسرح لما بعده. المؤشرات المعلَنة في هذا الاتجاه ليست كثيرة حتى الآن، ولكن التسريبات كثيرة وتكفي لرسم صورة أكثر وضوحاً وتؤكد ما كنت قلته قبل شهور: إن تركيا ستكون هي رأس الحربة لأي مشروع حقيقي لتحرير سوريا. الأيام القادمة سوف تكشف الكثير، أما الآن فبين أيدينا قليل من المعلومات والمؤشرات الواضحة:
أ- وجهت تركيا الإنذار الأخير للنظام السوري قبل نهاية آب بأيام، وأثار الموقف التركي حفيظة الإيرانيين الذين اعتبروا أنهم مكلَّفون بالرد على التهديد التركي لحماية حليفهم في سوريا. في اليوم الأول من أيلول أعلن الناطق باسم الخارجية التركية سلجوق أونال بأن تركيا وافقت على نشر الدرع الصاروخي التابع لحلف شمال الأطلسي على أراضيها -وأشارت وكالة فرانس برس إلى أن تركيا طلبت أن يغطي الدرع كل الأراضي التركية وليس فقط المناطق القريبة من إيران كما كان مخططاً أصلاً-. لقد بدأت المفاوضات على نشر الدرع الصاروخي في قمة لشبونة التي عُقدت في العشرين من تشرين الثاني من السنة الماضية، أي أنها استغرقت قريباً من سنة، وكان من المرجَّح أن تستمر لعدة شهور أخرى، فلماذا عُجِّل بإعلانها في هذا التاريخ تحديداً؟ ربما كان للتوقيت علاقة بتطور الموقف التركي من الثورة السورية وربما لم يكن، لا أستطيع الجزم ولا غيري يستطيع ما لم يطّلع على خفايا المفاوضات التي جرت بين أطراف الاتفاق، لكنه يبقى احتمالاً وارداً، وإذا كان الغضب الروسي مفهوماً ومنسجماً مع موقف روسيا من المشروع منذ البداية فإن الثورة الإيرانية العارمة التي حملت المسؤولين الإيرانيين على تجاوز اللغة الدبلوماسية المتحفّظة في تعليقهم على الاتفاق، هذه الثورة تستحق التأمل والتفكير.
على أي حال، وسواء أكان التوقيت مقصوداً أم لم يكن، سيبقى أهمّ ما في موضوع الدرع المذكور هو أن الرادار الذي سيُنشَر في تركيا قبل نهاية السنة الحالية يستطيع أن يغطي مناطق تبعد بضعة آلاف من الكيلومترات جنوباً وشرقاً، مما يعني أن كامل التراب السوري صار تحت عين جيوش حلف الأطلسي، وهو أمر يؤخَذ في الحسبان في ظل الاحتمالات القائمة لتدويل الأزمة السورية أو للتدخل العسكري لحسمها.
ب- في الخامس والعشرين من أيلول صرّح أردوغان بأنه يريد تحقيق رغبة الشعب السوري في تنحي رئيسه. في الثاني عشر من تشرين الأول قال وزير الخارجية التركي داود أوغلو إنه يتوقع انقلاباً داخل النظام في سوريا، ومن المفهوم أن تصريحاً بهذا الوضوح يحمل دلالة أهم من التوقع المجرَّد كما لا يخفى، لا سيما حينما نربطه بتسريبات متناثرة تحدثت عن خطط سرّية تركية تمشي في هذا الاتجاه. بعد ذلك بأسبوع واحد التقى أوغلو بممثلي المجلس الوطني، وهو لقاء رمزي مهم يعني أن تركيا قطعت طريق العودة الذي يربطها بالنظام السوري.
ج- ألقى رئيس الوزراء التركي أمس (1-11) كلمة أمام كتلته البرلمانية تضمنت أشد وأعنف تصريح يصدر عن جهة رسمية دولية حتى الآن، حيث اعتبر ضحايا النظام السوري "شهداء" لأن النظام الذي قتلهم لا يستند إلى إرادة الشعب، وتساءل: النظام السوري ما زال يتحدث عن إصلاحات وعن حاجته لمزيد الوقت لتنفيذها، إلى متى سنتريث؟ وقال إن بشار الأسد يقتل شعبه بالآلاف بأسلحة اشتُريت للدفاع عن الوطن، وشدد على أنه صار فاقداً للشرعية، وأعرب عن ثقته في أن الشعب السوري سيحقق أهداف "ثورته المجيدة". وقال أردوغان بأوضح عبارات ممكنة: لقد جمعتنا صداقة تسع سنوات مع النظام السوري، لكن هذا النظام لم يقدّر صداقتنا وأطاح بها رغم نصائحنا، وهو يواصل قتل شعبه في حماة وحمص ودير الزور ودرعا بإرث أعتقد أنه ورثه عن أبيه، ونحن لا يمكننا أن نسكت على ذلك ولا بدّ أن نتخذ موقفاً.
د- يبدأ وزير الخارجية التركي داود أوغلو غداً بحملة دولية لحشد المجتمع الدولي ضد النظام السوري، ستكون ألمانيا أولى محطاتها، وذلك بعد جولة عربية محدودة في الأسبوع الماضي خصّصها لبحث الملف السوري، زار فيها قطر أولاً، ثم الأردن حيث صرّح قائلاً: إن "ما يحدث ضد المدنيين في سوريا غير إنساني، وعلى الحكومة السورية سحب قواتها العسكرية من المدن والقرى على الفور"، وأكّد أن تركيا "لا تستطيع أن تغضّ النظر عما يجري، وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا لوقف تلك الأعمال". وحسب تسريبات غير مؤكدة -جرى تداولها بعد زيارته للأردن- فإن من غير المستبعَد أن يكون هدف الزيارة هو تنسيق عملية عسكرية مشترَكة بين الأردن وتركيا ضد النظام السوري. وللتذكير فإن الأردن وقطر هما الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان كان لهما وجود عسكري على الأرض الليبية في أثناء حملة الناتو على نظام القذافي البائد.
-5-
انقلاب الموقف الإيراني:

أ- الموقف الإيراني تغير في الشهر الأخير بزاوية حادّة. يبدو أن وصول الإيرانيين إلى قناعة نهائية بفشل النظام السوري وضعفه وعجزه عن إنهاء الثورة الشعبية قد حملهم أخيراً على الاستعداد لمغادرة السفينة الغارقة والتخلي عن الحصان الخاسر. ربما كانت هذه القناعة قد تراكمت خلال الشهور الثلاثة الماضية، منذ اقتحام حماة الفاشل إلى اليوم، لكني أكاد أجزم أن السبب المباشر للتحول الكبير جاء من الولايات المتحدة. ففي وقت من أسوأ الأوقات بالنسبة لإيران وأقلها احتمالاً لأي عمل أخرق يمكن أن تُقدم عليه القيادة الإيرانية، في ذلك الوقت تحديداً فجّر الأمريكيون قنبلة إعلامية ودبلوماسية من العيار الثقيل، عندما كشف مسؤولون فدراليون في واشنطن عن إحباط عملية إرهابية كبرى كان هدفها اغتيال السفير السعودي عادل الجبير، واتهمت الإدارة الأمريكية رسمياً عناصرَ إيرانية بالتخطيط للعملية، مؤكدة أنها ستتخذ إجراءات لمعاقبة إيران على ذلك!
لا شك أن الأطفال يدركون أن المؤامرة المزعومة ليست سوى مسرحية تعمّد الأميركيون تأليفها وإخراجها في هذا الوقت بالذات لإحراج إيران وإخراجها من معسكر الدول الداعمة للنظام السوري، وأكاد أجزم أنها كانت هي الطلقة الأخيرة التي حسمت الموقف الإيراني. لقد بدا الإعلان الأمريكي عن اكتشاف المؤامرة المزعومة وكأنه إعلان حرب من جهة واحدة، ثم مضت ثلاثة أسابيع وطُوي الملف بما فيه ولم نعد نسمع عن أي إجراء، لا من الطرف الأمريكي ولا السعودي، فما الذي حصل وراء الكواليس؟ ما علاقة ذلك الحدث المفاجئ بالانقلاب الملحوظ في الموقف الإيراني؟ إنه لغز ستكشفه الأيام.
ب- فيما كنت أجمع مادة هذه المقالة وأكتب مسودتها صدرت لأخي الفاضل الدكتور بشير زين العابدين مقالة قيّمة عنوانها "سوريا: الثورة بين المنظومة والنظام -هل يأتي الحسم من الخارج؟-"، وهي مقالة قيمة رصينة على عادة مقالات الدكتور بشير التي يتحفنا بها بين وقت وآخر، فأرجو أن تبحثوا عنها وتقرؤوها وسوف تستفيدون منها كثيراً. في المقالة وصف للانقلاب الواضح في موقف إيران من النظام السوري بسبب الأداء الضعيف والعجز الواضح للقيادة السورية، يقول: "شهد الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر تدهوراً ملحوظاً في العلاقات بين طهران ودمشق، وظهرت بوادر الأزمة لدى إلغاء وزير الخارجية الإيراني صالحي زيارته التي كانت مقررة إلى دمشق في الخامس والعشرين من الشهر دون ذكر الأسباب. وكان رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي أكبر ولايتي قد عقد اجتماعاً مع المرشد الأعلى علي خامنئي لمناقشة تأثير الأوضاع في سوريا على إيران، واتفق الطرفان على أن نظام الأسد مُقْدم على انهيار يصعب تفاديه، وتقرر في ذلك الاجتماع إعادة صياغة الإستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا". ثم يحدثنا -نقلاً عن مصادر أمريكية- أن مكتب أحمدي نجاد "اتصل بقناة السي إن إن وأصرّ على إجراء لقاء معه، وبعد تشاور مدراء القناة مع البيت الأبيض تم إيفاد مراسلها فريد زكريا إلى طهران يوم 22 أكتوبر لسماع ما يرغب نجاد بقوله، وكانت المفاجأة هي أن نجاد كان واضحاً في الإعلان عن تغير مزاج طهران تجاه دمشق عندما قال: "ليس لأحد، ليس لأحد، ليس لأحد الحق في أن يقتل الآخرين، لا الحكومة ولا معارضيها".
ج- لاحظ الناس الذين يتابعون الأخبار العودةَ المفاجئة لعمليات حزب العمال الكردستاني بعد انقطاع استمر لعدة سنوات، ولم يشكّ أحدٌ منهم في أن النظام السوري هو من يقف وراء ذلك التصعيد. الأتراك هم أول من يعرف أن النظام السوري هو الذي قذف الحجر على سطح الماء الراكد وهو الذي حرّك حزب العمال، وهم علموا منذ البداية أن أكراد تركيا سيكونون ورقةَ ضغط في يد النظام السوري. لكن تركيا ليست بلا أوراق، بل هي تملك ورقة مشابهة مهمّة تستطيع أن تضغط بها على إيران، أقوى حلفاء الأسد، وهي بدورها يمكن أن تضغط على حليفها السوري. في وقت قريب من عودة العنف إلى المناطق التركية الكردية انفجرت في إيران اضطرابات واسعة في الأقاليم ذات الأغلبية الأذرية، حيث شهد إقليما أذربيجان الشرقية والغربية مظاهرات واحتجاجات واسعة شملت أكثر المدن. في إيران تشكل القوميات غير الفارسية أكثر من نصف السكان، والترك الأذريّون (الأذربيجانيون) هم ثاني أكبر قومية في البلاد بعد الفرس، ينتشرون في أربعة أقاليم في شمال غرب إيران ويبلغ عددهم نحو 18 مليون نسمة. وكما يحصل في سوريا، قام النشطاء الأذريون بنشر أعداد كبيرة من أفلام الفيديو على اليوتيوب تصوّر المتظاهرين الذين يعبّرون عن احتجاجاتهم باللغة التركية. هل كان لتلك الاضطرابات أثر في تغيّر الموقف الإيراني ودفع إيران إلى التخلي عن دعم سوريا؟ ربما، إن لم نستطع الجزم بالإثبات فلن يستطيع أحدٌ الجزمَ بالنفي.
د- يوم الأحد كان وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي في الدوحة، حيث عقد محادثات مع الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري وعدد من المسؤولين القطريين، وبعدها توجه إلى بغداد "لإجراء مباحثات مع كبار المسؤولين العراقيين" كما قيل. لم يخبرنا لا الإيرانيون ولا القطريون بما دار في ذلك الاجتماع، ولا عرفنا أيضاً الهدف من زيارة صالحي لبغداد، وفي غياب المعلومات لا يملك المرء إلا التخمين. من الممكن تقديم نظريات متعددة، أما أنا فنظريتي هي أن إيران فقدت الأمل نهائياً في نظام الأسد، لكنها تريد إنقاذ بقية أجزاء التحالف. هل تذكرون الوصف الذي دوّنَه المؤرخون لمعركة اليرموك؟ قالوا: إن الروم كانوا مُسَلسَلين كلّ أربعة في سلسلة واحدة لمنعهم من التفرق والهرب، فكان الواحد منهم إذا سقط في الواقوصة جرّ معه أصحابَه. الإيرانيون يريدون -فيما يظهر لي- تفكيك السلسلة لكي يسقط الأسد وحده وينجو المالكي في العراق وحزب الله في لبنان. ما سنشهده في الأسابيع المقبلة على جبهتَي العلاقة السورية -العراقية والسورية- اللبنانية سوف يقوّي هذه النظرية أو يضعّفها، والله أعلم.
-6-
روسيا والصين:

أ- ما هي الرسالة التي أرادت روسيا إيصالها عندما أجهضت مشروع قرار مجلس الأمن ضد سوريا في الخامس من الشهر الماضي باستعمال حق النقض (الفيتو)؟ نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، قال: إن موسكو "كان يمكن أن تصوّت إلى جانب القرار الذي طرحته البلدان الغربية لو أنه تضمن ما طلبته من ضمانات تمنع استخدام القوة العسكرية ضد سوريا على غرار ما حدث مع ليبيا لدى تطبيق القرار 1973؟. روسيا إذن لم تعد في موقف الداعم المطلق للنظام السوري، لكنها لا تريد أن تخرج من المسرح وتفقد كل مصالحها في سوريا كما حصل في ليبيا.
النظام السوري فسّر الفيتو الروسي على أنه تعاطف وتأييد مطلق معه وأسرع برفع لافتات الشكر لروسيا في مسيرات التأييد (المزعومة)، واستمر في القتل والتنكيل كما كان أولاً، فسارع الرئيس الروسي ميدفيديف -بعد الفيتو بأقل من أسبوع- إلى انتقاد إدارة بشار الأسد للأزمة وعجزه عن الإصلاح، وقال: إن "على النظام السوري الرحيل إذا لم يحقق الإصلاحات"، وبعد ذلك بيوم واحد استقبلت روسيا وفداً من المعارضة السورية. هل يمكننا القول إن الموقف الروسي الرسمي تغيّر فعلاً خلال تلك المدة القصيرة؟ غالباً ليس هذا هو التفسير الصحيح لتناقض المواقف الروسية، بل لعله اختلاف المواقف والقناعات بين الرئيس الروسي ميدفيديف ورئيس الوزراء بوتين، حيث يبدو أن الرئيس أكثر تشدداً مع النظام السوري فيما يبدو رئيس الوزراء أكثر حرصاً على مصالح روسيا في سوريا، ولذلك فإنه يبحث عن حل توفيقي يُبقي الأسد في الحكم مع إجراء إصلاحات جزئية يتصور أنها يمكن أن تمتص غضب الشارع وتساعد على إنهاء الثورة الشعبية.
لكن روسيا بدأت تفقد ثقتها أخيراً في قدرة النظام السوري على الاستمرار، وقد بدا من لقاء ميخائيل مارغيلوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي، وميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، بدا من لقائهما مع وفد المعارضة السورية في موسكو قبل ثلاثة أسابيع أن روسيا تضغط على الرئيس السوري للإسراع في الإصلاحات (المزعومة) وأنها لن تنتظر إلى الأبد. علينا أن نتذكر أن روسيا باعت بسهولة عدداً من حلفائها في الماضي، صربيا وليبيا مثلاً، وهي يمكن أن تبيع نظام الأسد بالسهولة نفسها عندما تحصل على صفقة مناسبة، ولا نستبعد أن تُرتَّب صفقة من هذا النوع بمشاركة الولايات المتحدة أو بعض الدول العربية الغنية، وها هي روسيا -مبدئياً- تدعم مبادرة الجامعة العربية.
ب- الصين أيضاً استعملت حق النقض (الفيتو) لتعطيل قرار يدين النظام السوري في مجلس الأمن، وكان ذلك هو أول "فيتو" تستعمله في تاريخها في تصويت لا يخصّ نزاعها التقليدي مع المجتمع الدولي على تايوان. بعد أقل من ثلاثة أسابيع دعت الصين سوريا إلى التحرك بشكل أسرع للوفاء بوعودها بتطبيق إصلاحات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تخالف فيها الصين موقفها الدائم والقائم على عدم التدخل في الشأن السوري. ثم أيّدت المبادرة العربية، وهي خطوة ملفتة جداً للانتباه وتدل على تغير حقيقي في الموقف الرسمي الصيني. بعد ذلك وصل إلى دمشق المبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط، وو سي كي، وهو -بالنسبة للملف السوري- أهم شخصية صينية في الوقت الحاضر فيما يبدو لي، وأحسب أن لتصريحاته التي أدلى بها في القاهرة عشيّةَ مغادرة دمشق قيمة كبيرة ومغزى لا يخفى. ماذا قال؟ وصف الأوضاع في سوريا بالخطيرة، وأكد أنه حذّر السلطات السورية من أن قمع المظاهرات لا يمكن أن يستمر، وأكّد لمسؤولين رفيعي المستوى في سوريا أن الرئيس السوري بشار الأسد يجب أن يستجيب للتطلعات والمطالب المشروعة للشعب السوري، داعياً إلى وقف كافة أعمال العنف وإجراء إصلاحات من خلال الحوار والطرق السلمية، مضيفاً: "يجب احترام خيار الشعب".
-7-
المبادرة العربية:

أخيراً وبعد جمود امتدّ عشرة أسابيع تحرك تمثال الشمع من جديد، حيث تداعى وزراء الخارجية العرب لعقد اجتماع في القاهرة "لبحث الوضع المتفجّر في سوريا"! وبعد مخاض عسير طويل وُلدت أخيراً مبادرة عربية واضحة المعالم.
ماذا تقولون في المبادرة العربية الأخيرة؟ كثيرون لا يرون فيها سوى حركة شكلية هدفها ترضية الشارع العربي والإيحاء إليه بأن الجامعة والدول العربية قامت بالواجب، أي من باب رفع العتب لا غير، أما أنا فلا أراها كذلك لأكثر من سبب، أولها: أن الجامعة علّمتنا من قديم الزمان أن لا نتوقع منها شيئاً، وقد خلعت ثوب الحياء من قديم فلا تبالي بأي دِثار تدثّرت. أما دول العرب فلم يهتموا بشُجون العرب وهموم العرب قط، فلماذا اليوم؟ الأمر الثاني: المحنة في سوريا لم تبدأ في الأسبوع المنصرم، ها هي الآن تختم شهرها الثامن. مضى ثُلُثَا سنة والشعب السوري يعاني من القمع والتنكيل والعرب ساكتون، إلا من بعض عبارات الشجب والاستنكار المبعثرة التي هي أشبه بالطلقات الفارغة في الهواء، باستثناء تحرك رمضان الملفت للانتباه -الذي كان من المؤشرات التي اعتمدتُ عليها لبناء توقعاتي آنذاك-، فما هو السر في عودة الحياة إلى تمثال الشمع اليوم؟
ثم لماذا تُحرج الدول العربية نفسها بتحديد حدود زمانية تحصر داخلها النظام السوري وتطالبه بتنفيذ عمل محدد قبل انقضائها؟ الشجب والاستنكار والامتعاض وغيرها من التعبيرات المطاطة لغةٌ دبلوماسية معروفة، وهي كافية لرفع العتب لو كان الغرض رفعَ العتب، أما أن يطالب العربُ النظامَ السوري بأمور ثلاثة كبيرة وصعبة عليه، وفي خمسة عشر يوماً لا غير، فهذا يدل على أمر من ورائه أمور.
هذا الظن يبدو مرجَّحاً بنسبة أكبر عندما نراقب ردة فعل النظام السوري، فمن الواضح أنه يتعامل مع المبادرة العربية بقلق وجِدّية غير مسبوقة، ربما لأنه يدرك أن الحبل قد أُحكم لَفُّه حول رقبته، ربما يدرك أن الجامعة العربية لا تتحرك في فراغ بل في سياق ترتيبات أممية أعدّت العدةَ لضربه ضربة نهائية. لو أنه أصرّ على المكابرة والرفض فإن تجميد عضوية سوريا في الجامعة أمرٌ محتمَل جداً، بل إنه يبدو مرجَّحاً، وإذا جُمِّدَت عضويتها فسوف تفقد الغطاء العربي ويصبح التدخل الدولي المباشر قانونياً دون الحاجة إلى تفويض عربي.
يمكن أيضاً أن تبادر الجامعة إلى الاعتراف بالمجلس الوطني، ولن يكون اعترافٌ من هذا النوع تصريحاً شفهياً عابراً. الدولة الواحدة لا تمثلها سلطتان بل واحدة، وعندما تعترف بإحداهما تسحب اعترافك من الأخرى تلقائياً. إذن فإن أي دولة تعترف بالمجلس الوطني ستقطع فوراً علاقاتها الدبلوماسية بالنظام الحالي وتسحب سفيرها من دمشق وتعتبر المجلس ممثلاً شرعياً وحيداً لسوريا.
من دراسة كل المواقف والتطورات التي استعرضتها في هذه المقالة يبدو أن المجتمع الدولي جادّ في حملته على النظام هذه المرّة، ولا بدّ أن يكون النظام نفسُه هو أول من يدرك هذه الحقيقة ومن يخشاها. لماذا يبيع كبار المجرمين أملاكهم في أوروبا؟ لماذا يهرّبون احتياطي الذهب إلى إيران؟ لماذا يسفّر المسؤولون الكبار عائلاتهم خارج سوريا؟ ألا تدل هذه المؤشرات على فزع حقيقي يسيطر على العصابة الحاكمة؟ ألا يعبّر عنها الكلامُ الأهوج لرئيس العصابة حينما هدّد بزلزال سيضرب المنطقة كلها لو تعرض أحد لنظامه؟ كل هذا يدل على أن النظام السوري يعيش لحظات عصيبة وأنه أدرك أخيراً أن بقاءه صار أمراً مشكوكاً فيه، وإذن فإنه سوف يستعمل كل ما بقي في جعبته من أسلحة… والذي بقي في جعبته قليل قليل لحسن الحظ، فإذن لم يبقَ بيننا وبين النصر الكبير غيرُ وقت قصير -بإذن الله-.
-8-
الخلاصة:

بعد استعراض التطورات الأخيرة ما تزال النتائج التي وصلَت إليها مقالات رمضان هي هي، وما زلنا بحاجة إلى بعض الوقت لنعرف السيناريو الذي سيختاره المجتمع الدولي لإسقاط النظام. ما يزال أكثر السيناريوهات تداولاً وراء الكواليس هما اللذان كانا مطروحَين قبل شهرين: (أ) عملية اختراق سريعة تنتهي باعتقال أو قتل أو هروب أكثر الرؤوس الكبيرة وانهيار سريع جداً للنظام، أو (ب) حرب استنزاف تعتمد على حرب عصابات يقودها جيش سوريا الحر انطلاقاً من مناطق آمنة. وبالطبع لا يمكننا استبعاد سيناريوهات أخرى (ثالث ورابع وخامس أو أكثر، إنما أعرض هنا الأكثرَ تداولاً والأكثر ترجيحاً من سواه).
في رمضان كان ترجيحي مائلاً إلى الاحتمال الأول بسبب الأدلة المتوفرة في ذلك الوقت، أما الآن فيبدو أن الاحتمال الثاني صار أقرب، مع التأكيد على أن الاحتمالات كلها تبقى قائمة. إن الإنسان العادي -مثلي ومثلك أيها القارئ العزيز- يضع دائماً خططاً بديلة، فربما ذهبتُ إلى الحلاق لأحلق شعر رأسي -أو ما بقي منه، ولم يبقَ الكثير- وفي نفسي أنني لو وجدت في دكّانه ازدحاماً فسوف أذهب إلى الحلاق الآخر. إذا كان بسطاء الناس يضعون في حياتهم اليومية خططاً أصيلة وخططاً بديلة فما بالكم بالدول الكبرى؟ لا شك أنها تفعل أكثر من ذلك، فتضع خططاً كثيرة وتوفّر لها كلها الإمكانيات الكاملة، فإذا بدأت بالأولى وتعذّر تنفيذُها لأي سبب فإنها تنتقل من فورها إلى الثانية دون إضاعة الوقت ودون الحاجة إلى البدء بالتفكير والتخطيط من جديد.
على أنني أعود إلى التأكيد: إن كون الاحتمال الثاني احتمالاً راجحاً أو أقوى من غيره في الوقت الراهن لا يعني أنه حتمي، فنحن -عامة الناس- ليس لنا إلا ما نراه فنحكم بناء عليه، وهو قد يكون مغايراً للحقيقة، وقد يكون هو الحقيقة لكنها حقيقة متغيرة، تصحّ يوماً ثم لا تصح في اليوم التالي. ما نراه حتى الآن يشير إلى أن تركيا تقترب من إنشاء منطقة عازلة (أو منطقة آمنة) تكون مأوى للمدنيين المهدَّدين وقاعدة لجيش سوريا الحر الآخذ بالتضخم يوماً بعد يوم بحمد الله، ويبدو أيضاً أن حلف الأطلسي سيطبق منطقة حظر طيران في القسم الشمالي من سوريا، ربما من خط عرض 35 مثلاً، وربما أيضاً منطقة حظر في الجنوب.
قبل عدة أسابيع أثار وزير الخارجية التركي داود أوغلو الاهتمام عندما قال: "ليس في نيتنا إقامة منطقة عازلة مع سوريا، إلا أننا نترك الشعب السوي ليقوم بما يتوجب عليه". خبراء السياسة الذين قرؤوا رسالة أوغلو ترجموها من اللغة الدبلوماسية إلى اللغة التي يتفاهم بها الناس، فقالوا إن معناها هو أن تركيا تدفع الثوار والمنشقّين العسكريين إلى إقامة منطقة عازلة في وقت قريب جداً لتسريع إسقاط النظام السوري.
في وقت قريب من تصريحات أوغلو، في الرابع من تشرين الأول الماضي، صرّح قائد الجيش السوري الحر العقيد رياض الأسعد بأنه موجود في مكان آمن في تركيا، شاكراً حكومة تركيا وشعبها على حسن الضيافة الرعاية والحماية التي يتلقاها هو والجنود الأحرار، وتمنى أن يحافظ الشعب السوري على معنوياته المرتفعة، قائلاً: "سندخل سوريا قريباً -بإذن الله- وندمّر النظام السوري". الملفت للانتباه أن الجهة التي نشرت تصريحات العقيد الأسعد هي وكالة أنباء الأناضول الرسمية التركية، مما يدل على أكثر من مجرد توفير المأوى والحماية، إنه تقريباً اعتراف ضمني مبكر بشرعية الجيش الحر.
أيضاً ما تزال تتوارد وتتواتر منذ شهرين أخبار تؤكد أن تركيا تمد الجنود الأحرار بالذخائر وببعض الأسلحة الخفيفة، ويبدو أنها توفر لهم أيضاً دعماً لوجستياً يشمل الخدمات الاستخباراتية المهمة لتوفير تحرك آمن، ولا يُستبعَد أن تعلن تركيا في وقت قريب اعترافها الرسمي بالجيش الحر وقيادته وأن يوفر الجيش التركي الحماية للمنطقة الآمنة، وقد تصبح هذه المنطقة هي المقر الرسمي للمجلس الوطني وتمثل قاعدة للتحرير على غرار بنغازي في ليبيا.
حسناً، لنصل إلى السطر الأخير ونتفق على القاعدة الذهبية: سواء أصحّت التوقعات السابقة أم لم تصحّ فنحن ماضون في ثورتنا، لأن العالم سيتخلى عنا في اللحظة التي نترك فيها الشوارع ونعود إلى البيوت. قد لا نعرف أي المسارات (السيناريوهات) سيسلك قطارُ الحل، ولكنّا نعلم أن محطة الختام في رحلته هي سقوط النظام -بإذن الله ذي الجلال والإكرام فامضوا في ثورتكم ولا تهادنوا النظام، واصبروا وصابروا يا أيها الأحرار الكرام.
-9-
ماذا بعد موافقة النظام على المبادرة العربية؟

لا أريد أن أدّعي ولا أن أتعالم فأزعم أنّي توقعت موافقة النظام على المبادرة العربية. الحقيقة أنني توقعت أن يرفضها رفضاً كاملاً، فكيف له أن يوافق على دخول الصحافة الحرة إلى سوريا؟ كيف يسحب الجيش والمسلحين من جميع المدن؟ كيف يطلق المعتقَلين من السجون؟ إنه يوقّع على بيان الانتحار حينما يصنع ذلك. على أننا لن نجزم أنه وافق إلا بعد الفعل، وهو لا يملك الوقت للمناورة لأن نص الجامعة كان صريحاً وقاطعاً: "الاتفاق ساري المفعول من لحظة إعلانه، وسنوفد فوراً مجموعة للتحقق من تنفيذ سوريا لبنود الاتفاق".
إذن؛ ربما يسقط في الاختبار قبل أن تقرؤوا هذه الكلمات، وربما يراوغ ويخادع وينفّذ الشروط مجزوءة فيُفقدها قيمتها، فيملأ المدن بعناصر أمن وشبيحة باللباس المدني ويطلقهم على المتظاهرين كالكلاب المسعورة فيَضربون ويعتقلون، وربما يُخفي الدبابات في مخازن وملاعب قريبة من الأحياء السكنية ليبقيها قريبة ويعيد استعمالها عند الحاجة، ولعله يختلق المعاذير لكي يُبقي عدداً كبيراً من المعتقلين في السجون، كأنْ ينكر وجودهم أصلاً أو يتهمهم بحمل السلاح أو بالتخريب فيعتقلهم على أنهم مجرمون جنائيون لا سياسيون… إلى غير ذلك من الحيل والألاعيب التي نعرف أن النظام السوري الماكر يجيدها ويعيدها كلما تعرض إلى تهديد حقيقي، كما صنع في أزمته مع المحكمة الدولية قبل بضع سنوات.
لكن مهما فعل النظام، سواء أطبّق شروط المبادرة العربية أم لم يفعل، وسواء أخلص في تطبيقها أو راوغ وخادع، فلا بدّ أن تمضي الثورة قوية كما كانت، بل أقوى مما كانت. احفظوا درساً واحداً وانسوا ما عداه إن شئتم: إنكم ما وصلتم إلى هنا إلا بثورتكم السلمية، ولم يتحرك العالم أخيراً إلا بسبب ثورتكم السلمية، ولم يَحْنِ النظام رأسه الذي ما حَناه من قبلُ قَطّ إلا بسبب ثورتكم السلمية، وحينما تستمرون في هذه الثورة فسوف تَصلون إلى الغاية وتقطفون الثمرة -بإذن الله-.
لا يضرّكم ولا يغرّكم ما فعل النظام، فإنه مهما يفعل زائل -بإذن الله-، ولا تهنوا ولا تضعفوا ولا ترضوا بالدنيّة، فإن ثورتكم منصورة -بإذن الله-.

المصدر: الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع