..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

المعارضة السورية أمام تحدي حماية المدنيين

أكرم البني

٢٠ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2764

المعارضة السورية أمام تحدي حماية المدنيين
78996.jpeg

شـــــارك المادة

ليس غريباً أن تتواتر الدعوات لحماية أرواح المدنيين السوريين وممتلكاتهم، رداً على تصاعد القمع المروع والتنكيل وأعداد الضحايا، وعلى تمسك النظام بخياره الأمني والعسكري والادعاء بأنه بات مطلباً شعبياً متوسلاً عبارات السحق والتطهير التي عادة ما يجري استخدامها تحضيراً للمعارك الكبرى.


وليس غريباً أن تتباين مواقف المعارضة السورية وآراؤها حول كيفية حماية المدنيين جراء تباين منابتها الأيديولوجية واختلاف مواقفها السياسية من أهل الحكم ومن الحراك الثوري وأسباب نصرته، لنلحظ ثلاثة اتجاهات تتنامى في صفوفها لمواجهة هذا التحدي:
أولاً: دعاة الدور الأممي، ومعظمهم ينضوي في إطار المجلس الوطني السوري، وهم الطيف المعارض الأكثر استعداداً، بحكم انتماء غالبيته إلى التيارات الليبرالية والإسلامية، للقطع التام مع الواقع القائم ونزع القدسية عن الشعارات الوطنية والقومية التي عادة ما ترفع في وجه أي تغيير، وهؤلاء يدفعون اليوم موقفهم إلى حد المطالبة الفورية بالتدخل الأممي لحماية المدنيين، استناداً إلى المعاناة الشديدة وطابع الآلام والمآسي التي يتعرض لها الشعب السوري وإلى مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بهذا الشأن، وأولها "لكل إنسان الحق في الحصول على مساعدة إنسانية مناسبة تضمن له حقه في الحياة والصحة والحماية من أي معاملة وحشية أو مذلة"، وأهمها البند السابع الشهير بأنه "يجوز لهيئات الأمم المتحدة المختصة والمنظمات الإقليمية المختصة أن تتخذ التدابير الضرورية، بما في ذلك التدابير الجبرية، وفقاً لتفويضاتها، إذا قاسى بعض السكان عذابات خطيرة وجسيمة وطويلة الأمد من شأن المساعدة الإنسانية أن تخفف من حدتها، ويجوز تطبيق هذه التدابير إذا رفض أي عرض دون مبرر، أو إذا تعرض منح المساعدة الإنسانية لصعوبات وعقبات خطيرة".
ورداً على من يضع إشارة تعارض بين مسؤولية المجتمع الدولي في حماية المدنيين وبين السيادة الوطنية، يثير أصحاب الخيار السابق نقطتين؛ أولاهما: أن العالم أصبح قرية صغيرة، وأن فكرة السيادة المطلقة لم تعد أمراً ممكناً عملياً، ولم يعد مقبولاً استمرار الترويج لأوهام الماضي عن الوطن والاستقلال لتسويغ القهر والعنف وللتحايل على الالتزامات الدولية والتنصل من واجب احترامها، بل إن موضوع السيادة الوطنية لا يعني سيادة الأنظمة الاستبدادية وإطلاق يدها كما تشاء، بل سيادة شعوب متحررة من كل قيود، ومنعتقة من القمع المسوغ بالأطروحات الأيديولوجية المتزمتة، وقادرة على ممارسة حقوقها في الرأي والتعبير والنشاط السياسي واختيار ممثليها في الحكم!
ثانيهما: أنه لم يعد مقبولاً في عالمنا المعاصر أن تتعامل أية سلطة مع حقوق الناس بصفتها قضية داخلية بحتة، وأن التمثيل الأصيل للسيادة الوطنية لا يعلو على الالتزامات العالمية بحقوق الإنسان، فالبلدان التي انضمت إلى الأمم المتحدة ووقعت على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وملحقاتها قد تنازلت طوعاً وبكامل إرادتها الوطنية عن جزء من "سيادتها" إلى المجتمع الدولي، وأخضعت نفسها لشروط لا تستطيع الخروج عليها، وأهمها السماح للمنظمة الأممية بالتدخل لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان وحرياته وحماية أرواح المواطنين أياً كانوا.
ويضيف أصحاب هذا الخيار بأن التدخل الأممي الإنساني هو عنصر حماية للثورة السورية من الانزلاق إلى استبداد جديد، وأن الثورات الديمقراطية التي احتاجت هذا النوع من التدخل لحماية أرواح المدنيين ونصرة مطالبها في الحرية وحقوق الإنسان، ستكون بداهة أكثر التزاماً أخلاقياً باحترام هذه الحقوق وأضعف من الارتداد عليها!
وطبعاً، يرى هؤلاء أنهم أكرهوا على خيارهم هذا، وأنه لولا استمرار وتصاعد القهر والتنكيل ولولا انعدام التدابير الوطنية القادرة على حماية المدنيين بعد عقود من التصحر السياسي وتغييب المجتمع المدني، ولولا استنفاد دور المبادرة العربية بعد فشل بعثة المراقبين في تطبيق بنودها وتالياً في وقف القمع المعمم، وأيضاً لولا ضعف فاعلية العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على اتساعها وشدتها في ردع ممارسات النظام العنيفة، لما ذهبوا إلى هذا الطور من الرهان على الدور الأممي، ولا يغير من هذه الحقيقة تباين مواقفهم، بين قلة قليلة لا تمانع حصول تدخل عسكري حاسم وفق رؤية تقول بأن هذا النوع من الأنظمة لا يمكن هزمه إلا بالكسر الخارجي، ويستحضرون أمثلة العراق ويوغسلافيا وليبيا، وبين من يقف عند سقف المطالبة بحظر جوي أو بمنطقة عازلة وممرات آمنة يلوذ بها الناس المتضررون، أو يرى في حضور مراقبين دوليين مشهود لهم بالنزاهة والحياد وإعلام حر وصحافة أجنبية ما قد يفي بالغرض للحد من العنف وحماية أرواح الناس، وتالياً نقل الحراك الشعبي من الشروط الأمنية القاتلة إلى مستواه السياسي.
وإذ يصطدم هذا الخيار بالعجز الأممي، حتى الآن، عن اتخاذ قرار في مجلس الأمن حول الملف السوري بسبب الفيتو الروسي، لكن ثمة من يعتقد بوجود بارقة أمل خلقها جديد موقف الجامعة العربية، حين سارعت إلى وضع مبادرتها على طاولة مجلس الأمن طلباً لدعمه، ففي ذلك فرصة أقوى وأكثر إحراجاً للدول الرافضة وبخاصة روسيا التي قد تجد نفسها في حال استخدام الفيتو كأنها تواجه المجموعة العربية ككل، ويزيد إحراجها ما يثار من اجتهادات عن اللجوء إلى الجمعية العامة، فالأغلبية هناك يمكنها تجاوز الفيتو وأن تفرض على مجلس الأمن تنفيذ التزاماته بالتدخل الإنساني وحماية المدنيين!
ثانياً: المراهنون على استمرار الدور العربي، وهؤلاء لم يفقدوا الأمل بالمبادرة العربية وببعثة المراقبين، بل يعتبرون هذا الطريق هو الأسلم ليس فقط لحماية المدنيين السوريين، وإنما أيضاً لتجنب أية اشتراطات سياسية أو آثار سلبية تمس وحدة البلاد وسيادتها الوطنية، وتنضوي الكتلة الأكبر من أصحاب هذا الخيار في إطار هيئة التنسيق الوطني، وهو أمر مفهوم وينسجم مع الجذر الأيديولوجي القومي لأهم أحزاب هذه الهيئة وشخصياتها، ويرى هؤلاء أن الأصل في العلاقات الدولية هو الحق المطلق للدولة في السيادة على أراضيها وثرواتها ومواردها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أياً تكن الظروف!
ثم ومن زاوية التركيز على حسابات المصالح والمنافع، يحاولون دعم موقفهم، مرة بالقول إن الدور الأممي الخاضع لتوافقات الدول الكبرى يعني فتح الأبواب على مداها أمام التبعية والارتهان، ومرة بالطعن بصدقية المنظمة الدولية وأن قراراتها تتسم بالازدواجية والانتقائية، حين تضخم بعض الأزمات وتغض النظر عن بعضها الآخر تبعاً للأهداف والتحالفات السياسية!
وأيضاً يحاول هؤلاء تسويغ خيارهم بإثارة الجوانب السلبية التي قد تنجم عن التدخل الأممي مستندين إلى تجارب سابقة أفضت برأيهم إلى تزايد المعاناة الإنسانية بدل التخفيف منها، وأحياناً إلى تشظي هذه المجتمعات وتفكك دولها، ويسوقون أمثلة لكل منها خصوصيته في محاولة لمقاربة الوضع السوري، عن يوغسلافيا السابقة حيث أدت خطة المناطق الآمنة إلى تقسيمها، ثم الخراب الذي أصاب الصومال بعد إنشاء الحظر والممرات الإنسانية، ثم ما حل بالسودان من تقسيم واندلاع حرب أهلية سقط فيها الكثير من الضحايا، وأيضاً تنامي الصراعات العنيفة في الشمال بين القوى الكردية وفي الجنوب بين القوى الشيعية عندما فرض المجتمع الدولي الحظر الجوي والمناطق الآمنة في العراق!
وعلى الرغم من اعترافهم بعجز الجامعة العربية في تركيبتها الراهنة عن إجبار السلطات السورية على الإيفاء بالتزاماتها، ورفضهم للنتائج التي وصلت إليها بعثة المراقبين والتي بدا تقريرها الأخير كأنه محاولة لتغطية الحملات الأمنية والعسكرية ولتبرير استمرار العنف وقمع الاحتجاجات، فهم يخطّئون لجوء الجامعة العربية إلى مجلس الأمن ويطالبون بمنح مبادرتها مزيداً من الوقت ومزيداً من الفرص لأن ما تقوم به هو تجربتها الأولى على صعيد التدخل الإنساني ولم تمتلك بعد الخبرة والآليات المناسبة لتحقيق هذا الهدف بصورة ناجحة، وينصحون بكبس الملح على الجرح، والتمسك ببنود المبادرة العربية والمساعدة على تمكين بعثة المراقبين، لأن في ذلك ما يكفل برأيهم وقف العنف وحماية المدنيين بالطريقة الأكثر جدوى وأماناً!
ثالثاً: دعاة الاعتماد على الذات، ومعظمهم من شباب الثورة وبعض رجال التنسيقيات والقادة الميدانيين، وهم الأكثر تعرضاً للأذى من عسف السلطة وتنكيلها، يحدوهم المثل القائل: "ما حك جلدك مثل ظفرك"، وقد وصلوا، بعد فقدان الأمل بدور عربي أو أممي يرد عنهم الضرر، إلى نتيجة مفادها أن حماية المدنيين السوريين هي مسؤولية وشأن داخليان، بدليل تواتر شعار "مالنا غيرك يا الله"، وتسمية الجمعة الأخيرة من الشهر المنصرم بـ "جمعة الدفاع عن النفس"، الأمر الذي عزز الثقة بدور ما يسمى الجيش السوري الحر وتزايد حالات الانضمام إلى صفوفه لحماية المظاهرات وضمان سلامة عدد من أماكن الاحتجاج الساخنة، رافق ذلك ظهور جماعات أهلية منظمة، تحسب على المجتمع المدني "كجماعة نبض" و"كتلة معاً" و"مجموعة المواطنة" و"لجان مناهضة الطائفية" وغيرها، لتساهم إلى جانب المعارضة في حماية الحقل السياسي وتعرية حملات الحصار والتنكيل وفي نشر ثقافة التعايش ونبذ العنف والتعصب والطائفية، والأهم في ضبط وتطويق ردود أفعال الناس الثأرية والحفاظ على أخلاقية الثورة السلمية!
وما كان لهذا الخيار أن يتقدم لولا انسداد الأفق واستحكام الاستعصاء ولولا استمرار العجز العربي والعالمي عن وقف العنف الرهيب والقمع المعمم وفرض مسارات سياسية لمعالجة الأوضاع المتفاقمة، لكن يفترض بهذا الطيف المعارض أن يحذر من خطورة تشجيع منطق السلاح للرد على إفراط السلطة في ممارساتها العنيفة، ومما يحصل من ترويج لشعار "الشعب يريد إعلان الجهاد" فمظاهر العسكرة في حال استمرارها واتساعها سوف تلتهم الميدان السلمي، وصور المظاهرات الضاجة بالغناء والرقص والتحدي التي صارت أشبه "بماركة مسجلة" للثورة السورية!
إن الحفاظ على الخيار السلمي كوجه رئيس يدرأ كثيراً من المخاطر عن مجتمعنا وفرص تطور ثورته، خاصة وأن أهل الحكم هم أصحاب المصلحة في تحويل الاحتجاجات من مسارها السلمي والسياسي إلى مسار عنفي، وهم يراهنون على جر المجتمع نحو قواعد لعبة يتقنونها جيداً ويتطلعون من خلالها لسحق الثورة عبر عزلها عن دوائر التعاطف وتسويغ كل أنواع القهر والتنكيل ضدها في ظل توازن قوى عسكري يميل على نحو كاسح لمصلحتهم، وهم الذين لا يضيعون فرصة لتأجيج الغرائز والانفعالات ودفع الأمور نحو صراع أهلي، لتغدو معه مهمة حماية المدنيين من أي طرف كانوا، مهمة شبه مستحيلة، ويكون ثمنه تدمير التراكمات الإيجابية التي حققتها الاحتجاجات السلمية طيلة شهور وإضعاف شرعية مطالب الحرية والكرامة والمساواة التي نهضت من أجلها!
والحال، مع كل يوم يمر وتحت وطأة الضغط الأخلاقي لهذه الأعداد المخيفة من الضحايا، تغدو مهمة حماية أرواح الناس العزل أكثر حيوية وإلحاحاً لدى المعارضة السورية على اختلاف أحزابها وتحالفاتها، مهمة لن يقف دونها أي نوع من الحساسيات أو التخوفات من دور عربي أو أممي يردع أنواع التسلط والبطش ويخفف مسار العسكرة ويشرع الباب أمام الحقل السياسي للانتقال إلى الديمقراطية، ويبقى الأفق مفتوحاً والجواب معلقاً، هل ثمة إمكانية لبناء آليات داخلية تفرض احترام حياة الناس وحقوقهم وخياراتهم، أم لن ينجح الأمر إلا بتضافر جهود جميع المعنيين بضمان هذا الحق البديهي للإنسان في الأمن والحياة؟!

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع