مدادي لبلادي
تصدير المادة
المشاهدات : 3907
شـــــارك المادة
لم أكن أتصور أن هذه الكمية من الإبداع والتفاني موجودة لدى أبناء شعبنا. كنّا في السابق نراهن على مظاهرة أو اثنتين ولم نكن نحلم أن شعبنا قادر أن يصنع ثورة كاملة تدهش العالم بأسره من شجاعة هذا الشعب الأبيّ. ولكن المقدّر لثورتنا أن تنطلق من الفن والجمال، من رسومات نقشها أطفال درعا على جدران مدارسهم. وهل أجمل من رسومات الأطفال وبراءتهم لتبدأ به ثورتك؟ وهل أسمى من باحات العلم التي دنّسها البعث أن تضع هذا الفنّ فيه؟ أراد الأطفال أن يقطعوا بنا وبأحلامنا أشواطاً طويلة ما كنّا لنقطعها في سنوات لو بقينا على تخطيطات وتكتيكات الكبار. أقف في كل يوم مشدوهاً أمام إبداع الشعب السوري الذي يرسم أبهى ألوان الثورة، والذي فجّر طاقات ومواهب فريدة لم يكن أحد يتصور وجودها لدى شعب عانى القهر والحرمان لعقود. شعب بإبداع أفراده تجاوز نتاجه خلال الأشهر الماضية ما تنتجه كبرى الشركات والهيئات والمنظمات والدول. الجميع يدرك أنه خلال العام الماضي قد خسر الكثير ممن ظنّهم أصدقاء من قبل ولكنّه بالمقابل كسب أضعافهم من أصدقاء لم يعرف أسماءهم قبل ذلك، ولكنه رأى حبّهم وشغفهم بمستقبل أفضل له ولهم. الجميع يدرك أن ما مرّ كان مليئاً بالألم، ولكن في عيونهم جميعاً ترى الأمل الذي يدفعنا إلى المضيّ نحو الأمام. كنّا نقرأ أن متوسط القراءة لدى الشعوب العربية هي دقائق معدودة في السّنة، ولكننا أصبحنا نرى أن السوريين أصبحوا يقرؤون بالساعات عن ماضيهم وعن حاضرهم، والبعض لم يكتف بقراءة التاريخ وإنما أصبح ممن يكتبونه بدمائهم ليرسموا أجمل صورة يمكن أن ترسم لثورة. كنت أقرأ أن حركة التاريخ إنما يصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً، ولكن لم أكن أتصور أن ثورة يمكن أن تقوم وتبنى على ملايين الجهود، وذلك دون مبالغة، وأي شخص قريب من الثورة يعرف ما أعني. كل مشهد من مشاهد ثورتنا تجتمع جهود الآلاف ليكملوه، تستيقظ حرّة في الصباح لترى على باب منزلها منشوراً ودعوة قام بتصميمها شاب متحرق للمساعدة، أوصلها من خاطَر بمستقبله وتخفّى عن العيون فتستجيب وتخرج من منزلها وتقف إلى جانب حر آخر وصلته رسالة قام بإرسالها سوريّون مغتربون إلى أرقام قام آخرون بجمعها وترتيبها، فيقف هذا الحر إلى جانب الفتاة مع أحرار آخرين جمع بينهم من سهر ليلته ينسّق ويقدّر ويدرس ويستطلع ليجمع هؤلاء كي يهتفوا بحناجرهم يواجهون بصدورهم يتحدّون الظالم بعيونهم، يضحّون بأرواحهم، يحملون أعلام تعبت أنامل نسوة بحياكتهن، ولافتات تعبت أيادي الأطفال بكتابتها، وشعارات قام الشهداء بتأليفها ليرددوها بمكبرات تبرّع بها بعض المسنّون. يقف وراءهم شجاع يخفي ما يستطيع به نقل صوتهم، وتسجيل صورتهم ليجتاز الحواجز ويذهب وينقل ما حصل عليه إلى شخص كرّس وقته وماله لإيجاد طرق آمنة لإخراج ونقل هذه المعلومات لتقوم مجموعات أخرى بنشرها ليقوم غيرهم بترجمتها لتصل إلى بقاع العالم. وإلى جانب كل هؤلاء نجد من يعمل على جمعها وأرشفتها ليعمل عليها حقوقيون وإعلاميون وسياسيون وكتّاب ليُجمع كل ذلك في تقرير يقرأه رئيس دولة عظمى فيجبر أن يخرج ليدعو الطاغية للتنحّي فيظن بعض الحمقى أن الثورة بدأت من هنا. هذا المشهد تكرّر يوم الجمعة الماضي في أكثر من 400 نقطة ليواجه الأمن والجيش المتظاهرين، فيطلق جندي النار عليهم فينشق زميله الواقف بجانبه وينضم إلى صفوف من يحمي المتظاهرين الذين يلهمون إخوانهم المغتربين لينسقوا مع فدائيين لمساعدة صحفيين على التسللّ إلى الداخل لنقل ما يحدث وآخرون يمنتجون ويخرجون الأفلام الوثائقية، وغيرهم يكتب ويلحن ويغني أغاني الثورة ليأتي من يصنع منها فيديوهات تزيد من حماسة الناس لتخرج في مظاهرات من جديد يرمون فيها منشورات تدعو من لم يشاركهم التظاهر أن يشاركهم في إضراب دعا إليه شباب يعملون على دراسته ونقل مجرياته، وآخرون يحللون تداعياته، واقتصاديون يحاولون إيجاد صيغة مناسبة تساعد الناس على تحمّله لإضعاف النظام حتى يخفف قبضته ليعود الأحرار من جديد للتظاهر. هو دولاب يدور، وهي كرة ثلج تكبر في كل دورة وما زال البعض يظنون واهمين أنهم قادرون على إيقافها. صدقوني لا أبالغ عندما أقول ملايين الجهود وفي كل مشهد ترونه تذكّروا دورة الحياة الكاملة له. الثورة تمضي والركب يسير فلا تفوّتوا الالتحاق بهم، فقد خطّ الكثير من أبناء البلد ما يستطيعوا أن يرووه لأبنائهم ويقدّموه أمام ضميرهم ويرضوا به ربّهم. ولكنّ هذه العجلة تأبى إلا أن تحوي كل مقومات الجمال، الجمال موجود في هتافات المتظاهرين، وفي نهفات الثائرين، وفي ضحكات الشهداء، وفي أغاني الثورة وكتاباتها، وفي منشوراتها وفي يوميّاتها. كله مصنوع بإتقان، وكلّه مليء بالجمال الذي كدنا ننساه في إعلامنا الرسمي وفي صحفنا المملّة، وفي إعلاناتنا الجافّة، وفي كتبنا المكتوبة خارج نطاق الزمان، ولكن الثورة أتت لتعيد الجمال. علّمتنا هذه الثورة أن المستحيل لا وجود له، وأن من يحلم بشيء يستطيع الوصول له، ولا أنسى مشاعرنا في شهر شباط الفائت، وكيف بدأ الإحباط واليأس يتسلل إلينا ونحن نرى الشعوب العربية انتفضت على واقعها، وبدأنا نخشى أن يفوتنا قطار الحريّة حقاً. أحرارنا عندما ذهبوا للتضامن مع شعب مصر وليبيا أمام سفاراتهم في دمشق كانوا يدركون أننا نحن من نحتاج هذه الوقفة وليس شعوب مصر وليبيا، ولكنّها كانت الطريقة الوحيدة لإشعال الشرارة. يستغلون أي حادث لتجميع الناس وتأليبهم؛ فمن قصة خطف الطفل هاني، إلى قصة تقاعس الخطوط السورية عن إجلاء الجالية في ليبيا، إلى قضية الحريقة والشرطي الذي صفع شابّاً هنا. سقف الأحلام كاد أن يبدأ النّاس بالكلام. لا أنسى عندما بعث لي أحد الأصدقاء المتحرّقين في شباط يسألني أن أشاركه صفحة أراد تسميتها نعم لبشار القائد ولا للنظام الفاسد، علّها تكون الخطوة الأولى لتحريك النّاس، خطوة على بساطتها كان من الممكن أن تودي بحياة صاحبها في ذلك الزمان قبل أن يزورنا الرّبيع. ولكنّها كانت خطوة تبعها خطوات قام بها ملايين السوريين. إذا كنت حتى هذه اللحظة لم تخط خطوتك، ووقفت متفرّجاً على هذه الثورة، ولم تزد عليها شيئاً؛ فأدعوك للتحّرك، فقطف الثمار اقترب، وأجل الظالمين قد حان، ولا تقل أنك تريد المساعدة، ولكنّك لا تعرف الطّريق، فالشّهداء قد رسموا بدمائهم شاخصات في كل مكان تدلّ على الحرية وتشير إليها، وما عليك إلا تتبّعها؛ تظاهر، صوّر، نسّق، وثّق، انشر، تبرع، ترجم، صممّ، سجّل، ارسم، فكّر، شارك، خطط، ادعم، حفّز، مثّل، غنّي، اكتب. جلست لأكتب عبارة عن آخر العام ولكن مرّت أمام عينيّ آلاف المشاهد والذكريات ولم أعرف ماذا أسجل! فوجدت نفسي أكتب عن جمال هذه الثورة، لا أعرف هل أكتب عن صديقتي التي دخلت تجرّ أختها التي كانت تبكي وراءها وتسألني أن أطلب منها ألا تذهب إلى المظاهرة خوفاً عليها، فنظرت في عيون الأولى فوجدت رغبة بالتظاهر، ونظرت في عيون الثانية فوجدت رغبة أكبر بالتظاهر، فلم أستطع أن أطلب منها عدم الذهاب. أم أكتب عن تلك الفتاة التي سألتها كيف توفّق بين عملها وكل هذا الجهد الذي تقدمه للثورة؟ فأجابتني: أنها استقالت من عملها منذ أشهر وهي متفرغة تعمل أكثر من 10 ساعات يوميّاً للثورة، لأكتشف لاحقاً أن كثيرات مثلها. أم عن ذلك الأب الذي أشار لي أن أدخل سيارته فدخلتها فإذا به ينتظر ابنه أمام المظاهرة حتى إذا دخل ابنه بوجهه المدمّى إلى السيارة نهره والده أنه أسرع بالهرب، وكان عليه أن يناور الشبيحة ويضربهم قبل أن يهرب. أم أحدّثكم عن تلك الفتاة التي تتتبّع أخبار المظاهرات لتقف هناك وتحاول إنقاذ أي شاب من قبضة الشبيحة بحجّة أنه أخوها وهي تعرف أن مصيرها قد يكون أن تعتقل معه. أم عن ذلك الأب الذي كان يطلب من ابنه في كل جمعة عدم الذهاب إلى المسجد الذي تخرج منه المظاهرة، وعندما خالفه ابنه وذهب دون علمه وجد والده هناك يتظاهر. أم عن تلك الأم التي رأت أبناءها يذهبون إلى الاعتقال واحداً تلو الآخر وهي تقول: إن هذه ضريبة يجب علينا جميعاً أن ندفعها. ومثل تلك القصص مئات عايشها كل واحد منّا وانطبعت ذكرياتها بمخيلتنا وستبقى ما حيينا، قُدِّر لبعضها أن ينتشر بينما بقي الكثير منها في صدور أصحابها. الثورة تحتاجك، وهناك آلاف الطرق التي تستطيع المشاركة بها… فقط شارك… وتذكّر أن ثورتنا... فائقة الجمال.
المصدر: مدادي لبلادي
عبد الكريم بكار
مجاهد مأمون ديرانية
أحمد أبازيد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة