..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

أهل الأعراف يصمتون.. وسوريا تحترق!

ياسين عبد اللطيف

٢٧ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3044

أهل الأعراف يصمتون.. وسوريا تحترق!
111.jpg

شـــــارك المادة

اللغة ليست من الدين، لأن مادتها من العقل، وميدانها الرأي، أما الشريعة فهي يقين! لذا سأستخدم مصطلح الأعراف، استخداماً لغوياً، للدلالة على حالة: اجتماعية سياسية معقدة، تمثلها الفئة الصامتة من عموم السوريين، الذين طالت رقدتهم، وهم ينظرون إلى سوريا وهي تحترق من تحت أقدامهم بأيدي حكامهم، وكأن القيامة تقوم على السوريين وحدهم!
يتفرجون كشريك صامت، على فنون البلاء العظيم، ولا يتحركون، لأنهم يتعلقون بالوهم، وهم يلبِسون الخنوع، ثوب الأمان الكاذب، لحماية وحدة البلاد والعباد، والنسيج الاجتماعي الذي "تخَّ" من كثرة ابتذال استخدامه على لسان الناعقين، والسلطة!
والأعراف في اللغة: جمع عُرفٍ، ومنه أعرَافُ الفرس، وغير ذلك من المعاني. وفي المصطلح القرآني: هو سور، أو موضع مرتفع بين الجنة والنار، والتسمية مستعارة من المعنى اللغوي! وأهل الأعراف في القرآن الكريم: ليسوا من أهل الجنة، ولا من أهل النار، بل هم في  برزخٍ عالٍ مرتفع، يرون منه أهل الجنة، ويرون أهل النار. وهم قوم تجاوزتْ بهم حسناتهم عن النار، وقصَّرتْ بهم سيئاتهم عن الجنة! ويبقون فيه إلى ما شاء الله؛ إلا أنه  ليس مستقراً دائماً، لأن رحمة الله واسعة! {..... وعلى الأعراف رجال يَعْرِفُونَ كُلا بسِيمَاهُم ونادوا أصحابَ الجنة أن سلامٌ عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون} [الأعراف:46].
اختار أهل "الأعراف" في سوريا، منزلتهم النائية بين منزلتين، بين السلطة، والثورة، ولاذوا بالصمت طيلة أشهر المحنة الشديدة بدعوى الأمان، فشارك صمتهم  -المُخَادن- السلطةَ في قتل الثائرين في وجه العسف والظلم والاستبداد الذي امتد لعقود طويلة.
هذا الأمان خادعٌ للعقل والوجدان -لو عقلناه- وكاذب في المعاملات التي يرقيها أدب العوام إلى مرتبة الدين، إذ يؤمنون بأن الدين المعاملة. كيف تكون المعاملات ديناً وهي تقوم على المشَاحة والنَكْلِ؟! ومن هذا الاستدلال، سأجرّحُ هذا الأمان المُضللِ، لأنَّ الإنسان في معرض نشاطه العادي يسعى بين واشٍ وحاسدٍ -كما يقول المناطقة-، فكيف تكونُ حاله في ظل دولة الاستبداد التي تريد رعاياها أمواتاً يمشون، أو ثياباً ملونة، خالية من الأجسام والنفوس!
عجز المراقبون والمحللون عن الإمساك بأسباب هذا الصمت اللاأخلاقي المريب الذي يهين قيم الإنسان السامية. فراحوا يستعينون بالوصفات السوسيولوجية الجاهزة ويرمونها على حالة أهل الأعراف، علها تصيب، وهم بذلك ينظرون إلى المشهد كمن ينظر من نافذة الطائرة! وقد تراوحت آراؤهم بين قصور الفهم وصوابه في بعض مواطن التحليل:
تحدثوا عن الترتيب الطبقي لمدينتي دمشق وحلب، اللتين تخلفتا عن الحراك الشعبي في المدن والقرى والبلدات السورية التي خرجت بنفرةٍ عظيمة لإسقاط النظام، وخلصوا إلى أنَّ: من يملك وسائل الإنتاج، ويحتكر التجارة، وتربطه وشائج مادية مع رجال الدين الرسميين، وبعض رموز الطبقة المتوسطة النافذة يفرضُ نمط  ثقافته، وشكل حكومته التي تماهت مع سلطة العائلة، فتعاونوا على الإثم وعلى أكل الدولة، تحت ظلال فتوى ملالي السلطة! وقد وقع في هذا الرأي الجاهز محمد حسنين هيكل، وبعض كتاب العلاقات العامة من الغربيين والعرب.
وعليه أقول، قبل تفنيد هذا الرأي الجاهز: إنَّ التاجرَ لا يشاركُ في السياسة إلا بالقدر الذي يستعينُ به على التجارة، وما يتجاوزه يَحْسِبُهُ خيانة لرسالته! ومن هذه  القاعدة  الذهبية: إن التاجر الذي يبايع الحاكم اليوم لمصلحة مادية، سيبيع هذا الحاكم غداً لذات السبب دون أسف عليه؟!
إنَّ تجار سوريا -ومنهم تجار دمشق وحلب الملتصقين بالسلطة كالتوائم السيامية، الذين  ضمتهم "قائمة المائة"- ليسوا سوى واجهة ناعمة لسلطة العائلة التي استولت على موارد الدولة، وعلى خيرات البلاد والعباد!
وقد وضعت السلطة في أيدي تجار الصدفة، الوكالات الحصرية، التي تحتكر حاجات الناس والحكومة بدءاً من زر القميص، مروراً بالسكر والأرز والشاي والزيوت، وتجارة اللحوم وعلف البهائم والدواجن، وصولاً إلى النفط والغاز والإسمنت والحديد والاتصالات، والنقل، والعقارات، والطيران التجاري وخدمات المطارات، ومكاتب الطيران والسفر ومنافذ الحدود، والأسواق  الحرة، والترانزيت، والمعامل والمصانع، والمدارس والجامعات والمستشفيات الخاصة، وتجارة المخدرات والسلاح، والمشروبات الغازية والروحية، والدخان، والنوادي الليلية وفنون الأنس، والمطاعم والسياحة، والفنادق، والإعلام المرئي، وإذاعات الـ"إف. إم"، والصحافة المقروءة الخاصة، وشركات الإعلان والبنوك، وشركات الصرافة، وشركات التأمين، والإمداد والتموين للجيش العقائدي ليقتل شعبه، والقائمة طويلة، عدا غسل الأموال وتهريب المال والذهب والماس، وكنوز الآثار السورية خارج البلاد و... و...!
إنً تجار الصدفة من قائمة المائة، هم عباءة لسلطة العائلة، وأشباح لا يعرفهم الجمهور العريض كسائر خلق الله الذين يملكون شركات عائلية في الدول العربية. ونشاطهم الاستثماري والتجاري الاحتكاري لم يخلق فرصاً تذكر في سوق العمل للسوريين، إذ اقتصرت شركاتهم على الأقارب والإخوان، وحلقة ضيقة من الأعوان والسماسرة والشبيحة والمهربين الذين اجتمعوا كالأكَلَة على القصعة، لنهب موارد الدولة وخيرات البلاد، وأخذ كل شيء من أفواه الناس وأيديهم.
أما حكومة السلطة فقد بدَّلتْ سياساتها الاقتصادية المغلقة، وتحولت خلال عقد من الزمن: من حكومة "راعية، إلى ريعية" متوحشة، تسعى بشتى الوسائل والسبل لحل مشاكلها المستعصية من مال الناس، إذ تضع يدها الطويلة في جيوب رعاياها صباح مساء، وتأخذهم رهينة لسياساتها المهلكة التي تختطف حاضرهم من بين أيديهم، وتصادر مستقبلهم وأحلامهم. وفي ظلِّ هذه المَخْمَصَة ليس للناس إلاَّ الله، والثورة على الظلم المتين!
قد يقول قائل: قياساً على ما ذكرته ليس في الشام وحلب، وسواهما تجار سوق! ماذا عن الاتصالات والفنادق، والعقارات والبنوك، واقتصاد السوق الاجتماعي، و... و...؟  أقول : بلا!  يوجد تجار "سوء" وآثارهم بادية في حياة الناس المُضنية، إذْ إنَّ دخلَ موظفِ الدرجة الممتازة لا يُغطي أجرَ منزله البسيط، في حي متواضع، لو كان شريفاً لا يرتشي! أما امتلاك منزل فقد زال من التداول في ظل توحش المال في سوق العقارات المملوك من عصابة المائة، وأصبح حلماً لن يطاله السوري لو عاش مائة سنة يجمع ثمنه، دون أن يأكل أو يشرب؛ وهو ينظر بعينيه الكسيرتين إلى  قصور السادة الجدد، ويطلق الحسرات على العمر الذي تبدَّدَ وضاع هباءً على يد الطغمة الفاسدة التي تسرح سهواً رهواً في طول البلاد وعرضها، لأنها لم تجد من يقول لها: لمَ فعلت هذا وذاك.
التجار لا يسيطرون على المدن الكبيرة، في ظل الدولة الأمنية، فالناس رعاياها وعبيدها؛ تظلمهم أو ترحم! وحلب المعنية بالذكر، حاضنة لفقراء ريف حلب، والجزيرة، وإدلب، عرباً وكرداً، والتجار لا يملكون عليهم ميثاقاً! يُمكنُ للتاجر أنْ يشتري ذمة رجل الأمن ليستعين به على تجارته وخصومه، ويمكن أن يسعى لتعيين رجال الدين في وظائف الأوقاف والإفتاء، وقد حدث هذا -فعلاً- بتعيين: أحمد بدر الدين حسون مفتياً للجمهورية. ويمكن أن يُوصِلَ بالرشى من يشاء إلى مجلس الشعب، والوزارة، ورئاسة الوزارة، وقد وقع هذا تحقيقاً! لكن لا يمكن لتاجر الأمن هذا، أن يسيطر على جموع الفقراء، أو يمنعهم من الخروج على السلطة، وإن نجح في مكان لن ينجح في المكان الآخر بالضرورة، لذا علينا عبءُ الإجابة على هذا السؤال وتلّمس الأسباب  الحقيقية.
أمّا دمشق، فإنَّ تاريخها الطويل وطبيعة سكانها جعلتْ منها حاضنة  للحكام، وهي الآن في ظل سلطة العائلة مُختنقة من الهجرة من الريف، مدنيين وعسكريين. ومَخنوقة من تَمَوضِع الجيش والأمن والمخبرين والسلطة المركزية فيها. وهي محاطة إحاطة السوار بالمعصم بأكثر من ثلاثين حياً عشوائياً، يفوق سكانُهَا عددَ السكان الأصليين لمدينة دمشق! لا سلطة للتجار عليها، ولا للنخبة التي ازدرتها السلطة، وهمشتها، وأفقرتها، وأبعدتها، ثم سجنتْ بعض رموزها ودجَّنتهم! ولا وجود للأحزاب أو حضور للنقابات الواهية.
ومعظم هذه الأحياء المحيطة بالعاصمة امتداد حيوي لمعسكرات جيش السلطة، ورصيد  مُتعَسْكِرٌ، جاهز لخوض الحرب مع السلطة ضد الأهليين، وقد خرج من أحيائها معظم الشبيحة، الذين يزرعون الموت في بعض أحياء الشام وريف الشام وبقية المدن السورية الثائرة.
قد تكون النقابات والاتحادات المهنية هي التي تمسك بجمهورها وتمنع خروجهم على السلطة العاتية، وأعني اتحاد ونقابات: النسائي، والعمال، والحرفيين، والأطباء، والصيادلة، والمحامين، والمهندسين، والطلبة، والفنانين، والكتاب، والصحفيين.... أقول: يا ليتها كانت فاعلة، هذه النقابات والاتحادات المهنية مقرات حزبية تلعب دور المخافر الأمنية الأمامية.
وجلَّ دورها ينحصر في كونها مركز استعلام أمني، وقاعدة بيانات لرصد قطاع جمهورها ورفد الأمن بكل حركة من حركات منسوبيها، والأمن هو صاحب الولاية، يخلعُ وينصّبُ، يسجنُ ويُفرِج، ويقتل من يشاء دون عقاب!
ولأنَّ الفساد هو اقتصاد البلاد النامي المُنَظّم في سوريا قد يدخلُ في الأسباب التي تمنع جمهور هاتين المدينتين اللتين تتموَضَعُ فيهما معظم المصالح والصناعات والتجارات –من الخروج على السلطة، والالتحاق بالثورة، فجمهور المدن السورية آكل ومأكول لا محالة، راشٍ ومرتشٍ بالضرورة، لن يقضي مصالحه إنْ لم يعمل بهذه القاعدة، وهي سياسة حكومية منهجية! والمواطن السوري الذي ُنكِب من صنوف الفساد، استفاد من مناخه والفوضى، إذ يَرشي لتأمين شؤون حياته المختلفة، ويَرتَشِي من غيره إذا كان يَشغلُ وظيفة تَمسّ حياة الناس ومصالحهم! الفساد منظومة كرَّسها النظام؛ سوق وبازار مفتوح، وثقافة استشرتْ وسادتْ خلال عقود، حتى في ظل هذه المحنة الفاصلة بين مرحلتين.
قلَّبتُ الأمور في العرض والتحليل لأتلمَسُ أهم الأسباب التي منعت أهل الأعراف في حلب والشام من الخروج النهائي على النظام  في سوريا، وفندت الآراء التي  اعتمدتْ على وصفة نظرية جاهزة، لأخلص إلى الرأي التالي:
الخوف من الحبس المديد، والقتلُ العمد دون رحمة يدخلان في الأسباب المانعة من الخروج على السلطة بكثافة. والذاكرة الجمعية مؤسسة على استحضار مجازر مروعة تفوق الوصف، شهدتها حلب عام 1982م، بالإضافة إلى مجزرة حماة، وإدلب، وجسر الشغور، ودير الزور، وقد عاشت دمشق أسوأ كوابيسها المريعة في مسلل التفجيرات والاغتيالات ونظام الطوارئ وانعدام الحياة الكريمة والأمل.
وأجزم أنَّ في كلَّ بيت من بيوت الناس في وسط وشمال وشرق سوريا، قد رنت به نائحة على ميت  قُتل على يد جنود الأسد أو معتقل غيَّبته سجون الأسد بحبس مديد حتى يموت، أو يهرم فيَضيعُ ويضيَّعُ أهلَه!
الخوف الذي عشش في الصدور وصار طبيعة ثانية للإنسان السوري وفظائعُ استبدادِ الفئة الباغية منعا الجمهور الواسع من الخروج المدوي، الذي سيهدم الهيكل على رؤوس السدنة المارقين!
إن فرصة انتقال أهل الأعراف في سوريا من منزلتهم  النائية عن الحراك الشعبي باتت واجبة، هرباً من نار السلطة الموقدة، إلى جنة الحق؛ {وإذا صُرِفتْ أبصارُهم تِلقاءَ أصحابِ النار قالوا ربَّنَا لا تجعلنا مع  القوم الظالمين * ونادى أصحابُ الأعرافِ رجالاً يَعرِفُونَهم بسِيمَاهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبِرون} [الأعراف: 47-48].
إنَّ صمتَ الحائرين يَقتلُ الثائرين، وقد صار المشهد السوري  حزيناً، موت محقق كاليقين، ومواكب جنازات دائمة، ونائحات عند شواهد القبور!
 

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع