منذر خدام
تصدير المادة
المشاهدات : 3774
شـــــارك المادة
في إطار اهتمامي كباحث اقتصادي قمت بجولة على المصارف السورية والأجنبية العاملة في اللاذقية، ومراكز الصيرفة، وكذلك على أسواق سلع التجزئة ذات الصلة بحياة المواطنين السوريين، وقد لفت انتباهي مجموعة من الظواهر التي تؤشر بمجملها إلى ردود فعل السوريين على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الجامعة العربية وتركيا ودول أخرى، على سوريا كنوع من الضغط على النظام السوري ليتراجع عن خياره الأمني في قمع الاحتجاجات الشعبية.لفت انتباهي -مثلاً- أن القسم الذي يستقبل المودعين في مصرف الادخار خال تماماً من المتعاملين، في حين كانت الصالة أمام نوافذ قسم السحب مزدحمة بهم.وعندما سألت البعض منهم عن سبب سحبهم لمدخراتهم أجاب قسم منهم بأنه يريد أمواله في بيته في متناول اليد، لأنه ليس واثقاً من عدم تعرضها لمخاطر في حال بقيت في المصرف. وقسم آخر أجاب بلا تردد بأنه يريد تبديلها بعملة صعبة أو ذهب حفاظاً على قيمتها. تكاد تكون الصورة مقلوبة تقريباً تلك التي شاهدتها في أحد فروع المصارف الأجنبية، حيث المودعون كثر في حين تكاد تخلو نوافذ السحب من المتعاملين، والإجابة التي حصلت عليها عن سؤالي لبعض المتعاملين عن سبب تفضيله للبنوك الأجنبية على السورية لإيداع نقوده، هي أن أمواله تكون محفوظة أكثر، ويستطيع سحبها من الخارج، لكن مدير أحد الفروع التي زرتها سألته عن صحة ذلك، فأجاب "بأننا نعمل وفق القوانين السورية، وما ينطبق على البنوك السورية ينطبق علينا". هذا يعني أن الأموال المودعة في هذه البنوك لا يمكن سحبها أو تحويلها إلى أي جهة كانت إلا وفق القوانين السورية النافذة. ومن المعلوم أنه صدرت تعليمات لجميع البنوك الحكومية بإيقاف عمليات الإقراض لكل أنواع القروض حتى مطلع العام المقبل 2012م -كإجراء احتياطي-، إضافة إلى إجراء المراجعات والحسابات المصرفية المعتادة. من جهة أخرى، فإن أسواق الصيرفة الرسمية يقتصر عملها هذه الأيام على شراء العملات الصعبة فقط -وهي نادرة جداً-، على عكس محلات الصيرفة غير الرسمية، فهي تشتري وتبيع العملات الصعبة لكن بأسعار عالية. فخلال نحو شهرين فقط قفز سعر بيع الدولار من نحو 46 ليرة سورية إلى أكثر من 60 ليرة سورية، بل خلال يومين فقط قفز سعره من نحو 57 ليرة سورية إلى 61 ليرة سورية في أسواق اللاذقية، وفي كل يوم يمر تنخفض قيمة العملة السورية إزاء الدولار وغيره من عملات التحويل الأخرى. في أسواق سلع التجزئة يلفت الانتباه تزاحم الناس على شراء السلع الاستهلاكية، وخصوصاً الغذائية منها، وذلك من أجل تخزينها. الجميع يتحدث بخوف من المجهول المقبل، وينسجون حوله قصصاً -هي في الغالب الأعم حكايات مبالغ فيها- لكن الذعر هو الذعر الذي يدفع الناس إلى القيام بسلوكيات اقتصادية ضارة، خصوصاً في غياب أي علامات على انفراج الأزمة التي تعصف بسوريا منذ تسعة أشهر. لقد أدى التزاحم المفرط على السلع الاستهلاكية خلال الأيام القليلة الماضية التي تلت صدور العقوبات العربية على سوريا، إلى ارتفاع أسعارها بصورة جنونية وغير مبررة، وقد ساهم بذلك غياب أي شبكة أمان حكومية، مما دفع التجار إلى استغلال الأوضاع ورفع أسعار سلعهم أيضاً. على صعيد الاقتصاد الكلي، أشار أحد التقارير الاقتصادية الدولية إلى أن الاقتصاد السوري قد خسر نحو 27 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الماضية. وبغض النظر عن دقة هذا الرقم، فإنه يمكن القول إن قطاع السياحة قد توقف بصورة شبه كاملة، وتأثرت نتيجة لذلك جميع الفروع والنشاطات الاقتصادية التكميلية، إضافة إلى ذلك فقد تراجع حجم التبادل التجاري الخارجي بنحو30 في المائة، بحسب بعض المصادر شبه الرسمية، وتقلص الادخار نتيجة ميل الناس للاكتناز، وتراجع بالتالي الاستثمار كثيراً، ليتوقف تقريباً في المشاريع المكثفة لرأس المال، في حين حافظ الاستثمار الحكومي على نشاط ملحوظ في مشاريع البنية التحتية، مثل: الطرق والمواصلات. ويواجه قطاع النفط -إنتاجاً وتسويقاً واستثماراً- صعوبات حقيقية أثرت كثيراً على حصيلة النقد الأجنبي الذي كانت تجنيه الحكومة السورية من وراء تصديره، وأخذت السوق الداخلية لمنتجاته تعاني من تقلص نتيجة ضعف الإمدادات، فظهرت طوابير السيارات والمواطنين أمام مراكز توزيع الوقود. بكلام آخر، ثمة ملامح أزمة اقتصادية حقيقية بدأت تظهر في سوريا وهي لن تستثني أحداً، مع أن العقوبات الاقتصادية المفروضة لا تزال في بدايتها، وهناك شك في جدية تطبيقها من قبل بعض الدول على الأقل في المدى القريب. لقد قيل: إن العقوبات الاقتصادية التي أقرتها جامعة الدول العربية وتركيا وغيرها من الدول الأوروبية، تم انتقاؤها بذكاء حتى لا تؤثر على الشعب السوري، وهذا قول مجاف للحقيقة، فلا توجد عقوبات موجهة وانتقائية الهدف في المجال الاقتصادي. إضافة إلى ذلك من المشكوك فيه أن ترغم العقوبات الاقتصادية النظام السوري على تغيير سلوكه ومواقفه تجاه الحركات الاحتجاجية الشعبية في بلاده، وهي عموماً سلاح ذو حدين، فكما تؤثر على الطرف المفروضة عليه، فهي تؤثر على الطرف الآخر الذي يفرضها. من جهة أخرى لا يعرف في التاريخ المعاصر أن العقوبات الاقتصادية أسقطت نظاماً، وخير مثال على ذلك العراق المجاور، بل الشعوب هي من تدفع الثمن دائماً. هذا لا يعني أبداً أن النظام لن يتأثر بها مطلقاً -على العكس تماماً- فهو بدأ يتأثر فعلاً. والتأثير للأسف ليس دائماً سلبياً، بل له وجه إيجابي بالنسبة لنظام يشتغل كثير من رجالاته وحواشيه على التهريب والفساد. لقد بدأت تنشط كثيراً حركة التهريب بين سوريا والدول المجاورة، ليس فقط تلك المتعلقة بالسلع الاستهلاكية المنزلية، بل بتهريب النفط ورؤوس الأموال وغيرها. ثم ينبغي ألا ننسى أن خط سوريا على العراق وإيران مفتوح، وكذلك على لبنان، وهناك دول مثل روسيا لا تزال تقف إلى جانب النظام بقوة. وثمة خشية حقيقية من أن يوظف النظام قصة العقوبات الاقتصادية لصالحه لشد أزر مناصريه وجذب القوى الاجتماعية المترددة إلى جانبه، من خلال تحميل المعارضة والحراك الشعبي المسؤولية عن آثارها عليهم. مع ذلك ثمة قوة رمزية للعقوبات الاقتصادية لا بدّ أن تولد مزيداً من الأسئلة لدى السوريين، خصوصاً في الأسابيع المقبلة، إذا أصر النظام على نهجه الأمني في قمع انتفاضة شعبه في سبيل الحرية والكرامة والديمقراطية. الشعب السوري حقيقة لا يستحق كل هذه الامتحانات القاسية التي يعرضه لها نظامه.
المصدر: موقع سوريون نت
لقمان الحكيم
غازي دحمان
بشير البكر
مركز الجزيرة للدراسات
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة