مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 2770
شـــــارك المادة
-1-
كانوا سبعة يقيمون في بيت واحد، أباً وأماً وخمسة أولاد. لم يدرك الأبُ كيف تمضي السنوات، ولكنها مضت، مضت سريعةً لم يكد يحسّ بها ولم يلاحظ سرعةَ إقبالها وسرعة إدبارها، فكأنه ما رُزق بطفله الأول إلا قبل أيام قليلة فقط، ثم جاء الثاني، ومضى زمان طويل جميل، سنوات عشر، ثم جاء ثلاثة آخرون.
شكر الأبُ الواهبَ الكريمَ على ما وهب، وظنّ أن الصغار يبقَون صغاراً ويلزمون البيت إلى الأبد، نسي أنهم يكبرون ثم تَنبت لهم أجنحة فيطيرون (كما كانت أمه تخبره على الدوام).
-2-
فجأة كبر الأولاد. نعم، كبروا فجأة. تزوج أحدُهم وغادر البيت، فبقي فيه ستة، أب وأم وأربعة أولاد. ثم تزوج الآخر وترك البيت، وبقي خمسة، أب وأم وثلاثة أولاد. وذاتَ يوم غادر الأولاد الثلاثة البيت، ذهبوا يسعَون فيما يسعى فيه كل شاب، دراسة جامعية تساعدهم على المضيّ في درب الحياة الشاق. اختار كل واحد منهم جامعة في بلد بعيد ومضى، فعاد البيتُ بساكنَين اثنَين كما كان أولَ مرة قبل ثلاث وثلاثين سنة.
-3-
يمر الأب -في طريقه إلى غرفة نومه ليلاً- بغرفة نوم الأولاد. كان من دأبه أن يفتح باب الغرفة كلما مر بها ليلاً ويلقي على الأولاد النائمين نظرة اطمئنان. يخطر له الليلةَ خاطرٌ فيفتح الباب، ولكنه لا يجد إلا أسرّة فارغة ليس فيها نائمون. يمر نهاراً بغرفة معيشتهم وينظر فيرى مكاتبَ وكراسيّ ليس عليها قاعدون. يأتي وقتُ الصلاة فيَهُمّ بأن يناديهم إلى الصلاة، ثم يتذكر أنه لم يبقَ في البيت أولادٌ ليلبّوا نداء الصلاة. يأتي وقتُ الغداء وتناديه الأم إلى الطعام فينادي الأولادَ للطعام، ثم يتذكر أنه لم يبقَ في البيت أولادٌ ليجتمعوا على طعام.
-4-
يلاحظ الأب أن أموراً كثيرة تغيرت في البيت مؤخراً. كلما فتح الثلاجة خُيِّل إليه أن الأطعمة والأشربة فيها تزيد ولا تنقص؛ طبق البيض يبقى شهراً أو أكثر من شهر، وقد كان يتلاشى في أيام معدودة، وقوارير العصير تصمد على رف الثلاجة أسبوعاً وقد كانت تدخلها أولَ النهار فتُجْهز عليها الغاراتُ المتتالية قبل الليل. غسالة الملابس لا تكاد تدور مرة كل أسبوعين، وغسالة الصحون التي كانت تئنّ من حملها الثقيل كل يوم صارت تدور مرة في الأسبوع. والضجيج، أين ذهب الضجيج؟ صحيحٌ أن الهدوء جميل ولكن بعض الصخب يصنع أحياناً الفارق بين عالم الموت وعالم الحياة.
-5-
لم يعد الأب يذهب إلى المتاجر الكبيرة (السوبر ماركت) كثيراً. ماذا يحتاج أب وأم يعيشان وحدَهما في بيت صغير؟ بضع حاجيات يحصلان عليها من البقالة القريبة. في المرات القليلة التي يذهب فيها الأب إلى المتجر الكبير يمدّ يده إلى العبوة الكبيرة التي كان يشتريها سابقاً، ثم يفكر: مَن سيستهلك هذا كله؟ فيعيدها إلى الرف ويأخذ أصغر العبوات. وتقوده رجلاه إلى الأرفف التي كان يشتري منها الأصناف التي يحبها الأولاد، ثم يتذكر أن البيت لم يعد فيه أولاد، فيسحب عربته ويمضي إلى موضع آخر. كثير مما كان يشتريه للأولاد لا حاجةَ له بشرائه اليوم. ربما كان سيشتريه لنفسه لو كان أصغر، لكنه لا يشتهي شيئاً منه وهو في هذه السن. إن المرء في أول العمر يطلب ولا يجد، وفي آخره يجد ولا يريد.
-6-
ينظر الأب إلى البيت الخالي في هذا العيد وقد تبعثر الأولاد، كل ولد في بلد، ويتذكر عيداً مضى قبل عام كان الكل فيه مجتمعين. أحبّ يومَها أن يحافظ على طقوس العيد فمدّ حبلاً علّقَ عليه أوراقَ نقد، ثم قال: "ليقطف كل واحد عيديّته". لم يكن الولدان الكبيران بحاجة إلى تلك الورقة وكلٌّ منهما يحصل على مثلها في يومين من أيام العمل، ولا أيٌّ من الثلاثة الآخرين تعني له هذه الورقةُ شيئاً كثيراً وهو يأخذ من أبيه ما يحتاج إليه كل يوم. أدرك الأب ذلك، ولكنها كانت طريقتَه الخاصة في إقناع نفسه بأنه ما يزال أباً يافعاً لأولاد صغار.
-7-
يسرح الأب في أفكاره: ماذا يصنع الأولاد في هذا العيد؟ كيف أمضى يومَ العيد الأول الولدُ الوحيد في البلد البعيد؟ وماذا صنع الآخران في البلد القريب؟ يتساءل: كيف طاروا كلهم معاً في وقت واحد؟ ثم يقول لنفسه: إنها سنة الحياة. لقد خرج هو نفسه من بيت أبويه ذات يوم، وسيأتي يوم يخرج فيه أولادُ أولادِه من بيوت أولاده كما خرجوا هم من بيته اليوم. لعل الامتحان الصعب الذي يواجهه الأب بعد عمر طويل أمضاه في رعاية أولاده هو أن يعيش من أجل نفسه فحسب، فما أصعبَ أن يعتاد العيشَ من أجل نفسه مَن أمضى دهراً وهو يعيش من أجل آخرين. يفكر الأب بهذا كله مليّاً ثم يقول: نعم، إنها سنّة الحياة. الزلزال السوري
عبد الرحمن العشماوي
صالح علي العمري
طريف يوسف آغا
ونحن في الطريق غادرنا أربعة وبقي اثنان إنها سنة الحياة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة