فكري حسن إسماعيل
تصدير المادة
المشاهدات : 4308
شـــــارك المادة
الحمد لله ربِّ العالمين؛ جعَل الإيثار شعارَ المفلحين، وصفة من صفات المرسلين؛ تحقيقًا لقول الله - تعالى - في محكم التنزيل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[التوبة: 20].
أحمده - سبحانه وتعالى - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، وخواطر الْهَوى التي تَرِدُ على قلوبنا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، قال في هَدْيه النبوي الكريم: ((إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم، وللمَلك لَمَّة، فأمَّا لَمَّة الشيطان، فإيعاد بالشرِّ، وتكذيبٌ بالحق، وأمَّا لَمَّة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحقِّ، فمَن وجَد ذلك، فليعلمْ أنه من عند الله، فليحمد الله، ومَن وجَد الأخرى، فليتعوَّذ من الشيطان)).
ثم قرَأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله - تعالى -: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268].
اللهُمَّ صلِّ وسلمْ وبارِكْ على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، الذين كانوا بالقرآن الكريم مُهتدين، فتخلَّقوا بالفضائل، فآثروا الحقَّ، وجانَبوا الهوى، وبذلوا ما بأيديهم؛ ابتغاء مرضاة الله؛ تحقيقًا لقول الله - تعالى -: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله - تعالى - في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 57 - 58].
أيها المسلمون، هذه آية من الذكر الحكيم، تخبر عن أعظم الفضائل التي جمعتْ خِلال الخير وشمائل البرِّ، ألا وهي فضيلة الإيثار والبذل في أوجه الخير؛ رعاية في حقِّ المجتمع، ورغبة في مجد الوطن، ثم جاءت الآية الثانية؛ لتوضِّح جزاء هؤلاء الذين يحبون الخير لإخوانهم، ويحبونه لمجتمعهم الذي يرقى ويَسعد بهم.
لقد كان الإيثار في الإسلام خُلقًا يجعل المؤمن يجودُ بنفسه وماله، ومن هنا وضَّح القرآن الكريم أهمَّ صفات الأنصار في المدينة المنورة بالنسبة لإخوانهم من المهاجرين؛ فقال الله - تعالى -: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
إن صاحب العقيدة لا يَبخل بعزيز لَدَيه في سبيل عقيدته وحماية شريعته؛ لذلك عقَد الله البيعة مع عبادة المؤمنين؛ فقال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التوبة: 111].
أيها المسلمون، إن الإيثار - الذي هو أهم سمات المؤمنين - هو حبُّ الخير للناس جميعًا، ونشر الإخاء ونبْذ الأهواء: هي الدعائم التي تُسعِد الأفراد، وترفع شأن المجتمعات، وهي أساس الخير وسبيل الإصلاح، الإيثار رمز المحبة والوفاق، وعنوان الرحمة والوئام والاطمئنان، به تقوَى الروابط، وتتوثَّق المودَّة، وتسود السكينة والطمأنينة، وتَعلو الكلمة الْخَيِّرة، وتعمُّ النعمة والرحمة، فتنعم الأمم بحياة طيبة، وعيشة راضية؛ ولذا فقد امتدَح الله - تعالى - الأنصار الذين آثروا إخوانهم من المهاجرين على أنفسهم، وجاؤوا لهم بأموالهم وأرزاقهم عن طيب خاطر، فطيَّب الله قلوبَهم، وأثنَى عليهم في كتابه العزيز، ومنَحهم الله في الدنيا والآخرة وسامَ الفلاح والفوز بالجنة، فقال الله - تعالى - في حقهم: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
لقد نَمَا هذا الخُلق الكريم، وانتشَر في المجتمع الإسلامي الأوَّل؛ حتى كان شعارًا لهم، ورمزًا لإيمانهم، تروي كتب السيرة أن أحدَ المسلمين جُرِح في إحدى الغزوات، فطلب شربة ماء، فسارَع إليه أخوه بها، فسمِع الجريح أنَّ جريحًا آخرَ يطلب الماء، فآثره على نفسه، وهو في أشد الحاجة إلى الماء! ما الذي دفَع هذا المسلم الجريح إلى هذا الإيثار؟
إنه الإيمان القوي، إن حبَّه لأخيه لَم يَدعْه يفكِّر في ذاته، ولا أن يؤثر نفسه على غيره، وهكذا كانت أخلاق المهاجرين والأنصار، لا تعرف الأنانية ولا حبَّ الذات، وإنما تحقق الأخوَّة الإسلامية تحقيقًا كاملاً، بل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فأخوَّة الدين أعلى وأرْقَى، وأشمل وأوسع من أخوَّة النَّسَب، فالمؤمن أخٌ للمؤمن في كل مكان فوق هذه الأرض، يُناصره ويشدُّ من أزْره، فيطعمه من جوعٍ، ويمدُّه بالمال إذا احتاج، ويُغيثه إذا كان في حاجة إلى الغَوْث والنَّجْدة.
أيها المسلمون، إنَّ العيب كل العيب، والتعاسة والشقاء، أن يكون الإنسان عبدًا لأمواله، تستخدمه ولا يستخدمها، ويمرض بها ولا تكون له شفاءً، هذا المرَض المتمثل في الحرْص على جَمْعها، والشح في إنفاقها، والحب في كَنْزها وادِّخارها، جعَله يفضِّل الدنيا على الآخرة؛ قال الله - تعالى -: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 19 - 20].
إن الرجل التعيس هو الذي لا يتحرَّى الحلال في جمْع ماله؛ لأن حبَّه لجمع المال هيْمَن على جوارحه، بغضِّ النظر عن مصادر هذا المال، ألْهَاه الطمعُ، وشغَله الحرْص، فعبَد المال، ونَسِي أنَّ المال مالُ الله - تعالى - وهذا ما حذَّر الله منه حين وصَف المؤمنين الذين يحبون بيوت الله - تعالى - ويذكرون الله بالغُدو والآصال.
فقال الله - تعالى - عنهم: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 37].
هذا التعيس - الذي حذَّرنا القرآن منه - هو مَن عبَد المال؛ قال الله في حقِّهم: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]، لا يجود بالمال وقت الشِّدة والحاجة، ولا يسخو به في إقامة المشروعات النافعة التي يعود أثرُها على أبناء المجتمع، ويعمُّ خيرُها أبناء المجتمع، ولكن للأسف الشديد يبذر ما تحت يديه في الشهوات والملذات، ورُبَّما بعثَر ماله على موائد القمار والدمار، ويبخل بها في مواطن الشرف والعزَّة والكرامة، لقد ذمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الصِّنف من الناس، وحكَم عليه بالخيبة والخسران، لقد وجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإنسان وحثَّه على الانتفاع بماله؛ حتى يكون له وقاية من النار، وأرْشَده إلى إنفاقِه في وجوه الخير والبر، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن تصدَّق بعدل تمرة من كسْبٍ طيِّب، ولا يقبل الله إلاَّ الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّه؛ حتى تكون مثل الجبل))[الحديث متفق عليه]، والفَلُو: المهر أوَّل ما يولَد من الخيل.
لقد نبَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلم إلى أن ليس له من ماله إلاَّ ما أنفَقه، وما عدا ذلك، فهو تاركه للناس، ومحاسَب عليه؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكَل فأفنَى، أو لبِس فأبْلَى، أو أعطى فاقتنَى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس))[أخرجه مسلم عن أبي هريرة].
ومن هنا شوَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبناءَ الإسلام إلى الإنفاق في أوجه الخير، وإلى الإسهام الفعَّال في بناء المجتمع، وبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإنفاق يدفع عنهم البلاء في الدنيا والآخرة، فقال: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خَفِيًّا تُطفِئ غضب الربِّ، وصِلة الرحم تزيد في العُمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأوَّل مَن يدخل الجنة أهل المعروف))[أخرجه الطبراني في الأوسط عن أُمِّ سَلَمَة].
وكما رغَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنفاق في أوجه البرِّ، حذَّر من الشُّح والإمساك، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضْل خير لك، وإن تُمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كَفَاف، وابدأ بِمَن تعول، واليد العُليا خير من اليد السفلى))[أخرجه مسلم عن أبي أُمامة].
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن الأَثرة وحبَّ الذات هادمة للشرف، داعية للتَّلف، مفسدة للمجتمع، مُعطلة للعمران، فطهِّروا أنفسكم منها، وتخلَّقوا بخُلق الإيثار الكريم.
وانهجوا مناهج العاملين المخلصين، تفوزوا مع الفائزين؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم؛ حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه))، وفي رواية: ((حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه))[رواه البخاري، ومسلم].
الألوكة
أنور قاسم الخضري
خالد روشه
هشام خالد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة