..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


سوريا المعاصرة

حدثتني أمي عن حماة

دندنة شامية

٤ فبراير ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 9271

حدثتني أمي عن حماة
168309_123620554376503_100001856774028_157403_2926996_n.jpg

شـــــارك المادة

هل شاهدتِ أخبارَ الثامنة والنصف المسائية على شاشتهم؟
- نعم رأيتُ أماً فوق الخمسين وأباً كذلك.. وأبناءً وبناتٍ شباناً وصغاراً تبعثرتْ في الغرفةِ جثثهم وأشلاؤهم والدماءُ تفيض منها..


- لماذا قتلوهم؟
- قالوا: إنَّ هؤلاء مثلَ كُلِّ من يقتلونَ من صبيةٍ ونسوةٍ وعجائز.. وشبانِ أيضاً، هؤلاء عملاءُ الصهاينة!!
- أما أنا فقد أثار دهشتي الخبرُ الثاني.. اختاروا مشهداً ينهالُ به العدو بالهراوات على أهلنا في فلسطين..
- وما الغريب في المشهد؟
- المدهش أنهم يقتلون شعبنا بالرصاص ويمثلون بجثثهم، أما عدونا الصهيوني فيظهرونه لطيفاً متحضراً!!
- هم يريدون أن يُطبِّع شعبُنا مع الصهاينة..
- وهل طبَّعَ شعبنا مع الصهاينة؟!
- لو كانَ ذلك، لما رأيناهم جاثمينَ على صدورنا يقتلون ويخطفون ويُعذِّبون ويسرقون.. إلى اليوم..
كانَ هذا حواراً بين أمي وجارتِها جرى في بدايةِ الثمانينيات.. لم أكن قد خُلِقتُ بعد، ولكنَّها أحاديثُ ومعلوماتٌ لامستْ سمعي في الطفولةِ الأولى، ونقشتْ في ذاكرتي صوراً لا يشبهها في الخيانةِ والفظائع إلا ما نراهُ اليوم بأمِّ العين، ومِلءِ السمع، من فاعلٍ مجرمٍ واحد..

*******************  

انطلقت سيارةُ الأجرة الصغيرة من دمشق إلى حلب، وعندما عبرتْ مدينة حماة، كانَ على الركاب أن يَرَوا ما حلَّ بالمدينة من خرابٍ ودمارٍ وآثارِ قتل، عندها قالَ أحدُ عناصرِ الأمن إلى زميله الجالس إلى جواره في المقعدِ الأمامي باللهجةِ العامية: "تربوا أهل حماة لولد ولدهم!".
عندها.. لمحَ عنصرُ الأمنِ أمي الجالسة في المقعدِ الخلفي وهمسَ في أذنِ صاحِبِهِ أن يسكت..

*******************

تدلَّت سماعةُ الهاتف من فوقِ الطاولةِ بعدما فقد شابٌ حمويٌ، يقيم في دمشق، وعيهُ وهو يرُدُّ على مكالمةٍ تلقاها من أخواتِهِ وهُنَّ يصرخن: "لقد هربنا من حماة، ووصلنا حلب مشياً على الأقدام، من قريةٍ إلى أخرى، بعدما قتلَ جنودُ الأسد كلَّ إخوتك الذكور أمام أعيننا!!".

*******************

قبل الواحدة ظهراً عام 1982م، اعتلى عناصر الأمن أسطح العمارات وشرفات المنازل في الحي الذي كنا نسكن فيه بدمشق، مطوقين مكان الشاب الذي يريدون اعتقاله ولكنهم لم يعثروا عليه، وعندما طاردوا شقيقه الأصغر وهو فتىً في الرابعة عشرة للقبض عليه بدلاً من أخيه، صعد الفتى سطح العمارة وألقى بنفسه من الطابق الخامس، تاركاً لهم حسرة الإمساك به حياً..

*******************

كان أمراً يومياً في دمشق وغيرها أن يوقف أحد عناصر الأمن حافلة النقل العام، ويصعد إليها قائلاً: "الكلب الحموي ينزل!".

*******************

في بداية الثمانينيات، إذا تجولتَ في مدينة حلب ونظرتَ إلى عماراتها، كنتَ ترى طابقاً أو أكثر في العمارةِ الواحدة، مدمراً محروقاً أسوداً، يسميها القتلةُ أوكاراً، يقولون إنها تعملُ ضدهم..

*******************

سمعَ القتلةُ من عناصر أمن حافظ الأسد صراخَ طفلٍ رضيعٍ من بينِ ركامِ جثثِ أسرته، فاستخرجوه، وأمسكَ أحدهم بأسفلِ قدميه المثبتتينِ باللفافة وقالَ له: "قتلنا الجميع، فلماذا أنتَ حي؟!" وبدأ بضربِ رأسِ الطفلِ بالجدار حتى تفتت!

*******************

صعدت مهندسةٌ من حلب إلى منزلها ظهراً، وتوجستْ أمراً غريباً في شقتها الكائنة في الدورِ العلوي، ثم علمت أنَّ عناصرَ الأمن ينتظرونها، فهرعت على الفور إلى أولِ شقةٍ صادفتها ودخلتها مسرعةً لتلقي بنفسها على علوٍ من الشرفة إلى الشارع..

*******************

في الصباح، كانت الأمهاتُ تخرجُ لشراءِ الخضار والخبز والحاجات اليومية، وأولُ ما كنَّ يرونَهُ سياراتٍ عسكرية تربطُ في زواياها جثثَ الشهداء، عراةَ الصدور، وتنطلقُ مسرعةً بهم، تسحلهُم في شوارع حلب.. لا يضاهي هذا السحلَ إلا سحلُ شبانِ جسرِ الشغور، أو يزيد عليه..

*******************

لقد ضاقت العصابةُ الحاكمةُ ذرعاً بالإخوان المسلمين رغمَ المجازر والفظائعِ المرتكبةِ ضدَّهم وضدَّ أهلِ السنة، حاضنتهم الطبيعية، فلم تجد ما يشفي غليلَ حقدها عليهم سوى أن تنشرَ دعاية، في أوساط طائفتهم، تقولُ: إنَّ الإخوان المسلمين مخلوقاتٌ عجيبة يمتلك واحدهُم في كفِّهِ ثمانيةَ أصابع بدلاً من خمسة!!

*******************

استعانَ نظامُ الأسد الأب بالخبراء السوفييت في التحقيقِ والتعذيبِ والإبادة، دونما تسترٍ أو حياء، كما استعانوا بأحقادِ هؤلاء في ضربِ ما يسمونه "مرتكزاتِ الفكرِ الرجعي"، ويريدونَ بذلك كليةَ الشريعة، ودورَ النشر، والأوقاف، وخطباء وأئمة المساجد، ومدرسي التربية الإسلامية في كافة المراحل الدراسية..
عبثوا بكليةِ الشريعة فسمموا المناهج، واعتقلوا الأساتذة والطلاب من مقاعدِ الدراسة وقاعات الامتحانات، في كليةِ الشريعة وغيرها، ودسُّوا الجهالَ والمغرضين في السلكِ التدريسي، وأدخلوا أعداداً هائلة من منتسبي حزب البعث طلاباً ببعثاتٍ داخلية في كليةِ الشريعة..
ومنعوا كتبَ الفكر الإسلامي، بل أمهاتِ الكتبِ المعروفة حتى الفقهية منها، وكانوا يصدرون قوائمهم السوداء، الواحدة تلو الأخرى، بمنعِ تداولِ كتب الإمام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم.. ونقلوا مدرِّسي التربيةِ الإسلامية، ومدرسي الاختصاصاتِ الأخرى الملتزمين، إلى وزاراتٍ أخرى، وإلى مصانعَ ومعامل..
ونهبوا الأوقاف، وحلبٌ كلها وقف، فملأتِ الأموال جيوبهم من رأسِ النظام لبقية العصابة..
كانت سياراتُ مخابراتهم تقفُ على أبوابِ المساجدِ مفتوحةَ الأبوابِ لملئها بالمصلين الخارجين من صلاةِ الجمعة.. وأغلقوا المساجدَ في وجوهِ الناس، فلا تفتح إلا وقتَ الأذان ولمدد محدودة..

*******************

لم تكُن ذاكرتي مستودعاً ترقُدُ فيها أحداثُ الثمانينيات وما قبلهَا مما كنتُ أسمعهُ بعدما وُجدتُ في هذا العالم، بقدرِ الإضاءاتِ التي ألقتها هذهِ الأحداثُ على ما يجري اليوم..
بل إنَّ ما يجري اليوم هو حصيلةٌ طبيعية لما كان بذاك الأمس..

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع