..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


ابحاث ودراسات

الكواشف الجلية في بيان أن الذبح وحز الرؤوس واقتلاعها وحملها ليس من سنة خير البرية

أبو بكر المقدسي

١٧ أغسطس ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 8001

الكواشف الجلية في بيان أن الذبح وحز الرؤوس واقتلاعها وحملها ليس من سنة خير البرية
الرؤوس 00.jpg

شـــــارك المادة

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله.
فلقد طلع علينا بعض حدثاء الأسنان، بذيئي اللسان بموضوع قبل فترة عنونه بـ (الرد على من يتبجح وينكر بأن الذبح من سنته صلى الله عليه وسلم)، واستشد برواية سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان أو سفيان بن خالد الجهني.

 

ولما حاولت رده للجادة وبينت له بعجالة عدم صحة هذه الرواية تطاول وكابر، وللحق أنكر، بل زاد بأن هذا مأخوذ من شريط للشيخ خالد الراشد (فرّج الله عنه)، ويبدو أنه كان مشحوناً بشحنة قوية من البذاء والسباب بحيث لم يلقي بالاً لما يقال، فأغلقت معه باب النقاش على أن أعود وأخرِّج الحديث تخريجاً شاملاً حسب قواعد أهل العلم، بحكم التخصص، ومحاولة الوصول للحق إن شاء الله تعالى.
وفي البداية ينبغي للمسلم أن يتحرى في أقواله وأفعاله موافقة الشرع، من كتاب وسنة، وأن لا يخالفهما ظاهراً ولا باطناً، إلا إن كان جاهلاً.
وفي حال الجهل ينبغي له أن يسأل عن الحكم قبل فعله، وأن يكون موافقة الشرع مأموله ومطلوبه، وإن فعل أمراً ما خالف فيه الشرع فعليه أن يعود عن هذا الفعل ويستغفر ويسترجع، وهذا ديدن كل مؤمن حق، وقاف رجاع، أما أن يكون المراء والجدال عن غير علم ولا بصيرة فهذا فيه خطر كبير وشر مستطير، وأشر منه وأكبر أن يعلم الحق في مسألة أو أمر فيخالفه لهوى، أو لأمر آخر وهذا عين الخذلان، ولا أظن مسلماً عاقلاً يبتغي مرضاة ربه يفعل هذا فإني ابتداء أنزه كل مخلص ومؤمن عن تعمد مخالفة الحق بعد أن يظهر له.
والذي أريده في هذا البحث أن أبين أن حز الرؤوس وحملها ونقلها، وتعليقها، ليس من سنته صلى الله عليه وسلم، اللهم ما كان في الحرب، أو ما تبعها كما سيأتي.
وقد رأيت أن أقسم هذا البحث إلى مقدمة وفروع:
مقدمة في بيان معنى السنة، ومتى يطلق على الأمر أنه من سنته صلى الله عليه وسلم.
1- تخريج الأثر الذي ورد في أن عبد الله بن أنيس حمل رأس أحد الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
2 – ذكر الآثار التي وردت في هذا الشأن من نفي أو إثبات له.
3- قول أهل الفقه وشراح الحديث في هذا المسألة.
4- الجواب على بعض ما أورد على ذلك، كالاستشهاد بحمل رأس أبي جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.

والله الموفق
مقدمة: في تعريف السنة:
قال الجرجاني في التعريفات: ص 161: السنة في اللغة: الطريقة مرضية كانت مرضية أو غير مرضية،.... وفي الشريعة هي الطريقة المسلوكة في الدين افتراض وجوب فالسنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليها مع الترك أحيانا فإن كانت المواظبة المذكورة على سبيل العبادة فسنن الهدى وإن كانت على سبيل العادة فسنن الزوائد.
وفي نيل الأوطار للشوكاني: 7/318: ويمكن أن يقال المراد بالسنة الطريقة المألوفة.
فالسنة إذاً هي ما واضب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله فأضحى مألوفاً عند الناس حتى طُلب منهم المواضبة عليه.
ولهذا لو قيل: أن هذا الأمر سنة عن النبي فيجب أن يتحقق فيه ما ذُكر، فهل موضوع البحث ينطبق عليه هذا الأمر ؟
أولاً - تخريج الأثر الذي ورد في أن عبد الله بن أنيس حمل رأس أحد الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عند رجوعي لكتب السنة لم أجد من خرَّج الحديث وذكر فيه قصة قطع الرأس وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا الواقدي فقد قال في المغازي: 2: 27 -28: بَابُ شَأْنِ سَرِيّةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ
إلَى سُفْيَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: خَرَجْت مِنْ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الْمُحَرّمِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ شَهْرًا، فَغِبْت اثْنَتَىْ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقَدِمْت يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ الْمُحَرّمِ.
قَالَ الْوَاقِدِىّ: حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَنّ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِىّ، ثُمّ اللّحْيَانِىّ، وَكَانَ نَزَلَ عُرَنَةَ وَمَا حَوْلَهَا فِى نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَجَمَعَ الْجُمُوعَ لِرَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضَوَى إلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَفْنَاءِ النّاسِ.
فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُنَيْسٍ، فَبَعَثَهُ سَرِيّةً وَحْدَهُ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “انْتَسِبْ إلَى خُزَاعَةَ”، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَعْرِفُهُ فَصِفْهُ لِى، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إنّك إذَا رَأَيْته هِبْته وَفَرِقْت مِنْهُ، وَذَكَرْت الشّيْطَانَ”، وَكُنْت لا أَهَابُ الرّجَالَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا فَرِقْت مِنْ شَىْءٍ قَطّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “بَلَى، آيَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَنْ تَجِدَ لَهُ قُشَعْرِيرَةً إذَا رَأَيْته”.
وَاسْتَأْذَنْت النّبِىّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَقُولَ: فَقَالَ: “قُلْ مَا بَدَا لَك”. قَالَ: فَأَخَذْت سَيْفِى لَمْ أَزِدْ عَلَيْهِ وَخَرَجْت أَعْتَزِى إلَى خُزَاعَةَ، فَأَخَذْت عَلَى الطّرِيقِ حَتّى انْتَهَيْت إلَى قُدَيْدٍ، فَأَجِدُ بِهَا خُزَاعَةَ كَثِيرًا، فَعَرَضُوا عَلَىّ الْحُمْلانَ وَالصّحَابَةَ فَلَمْ أُرِدْ ذَلِكَ وَخَرَجْت حَتّى أَتَيْت بَطْنَ سَرِفَ، ثُمّ عَدَلْت حَتّى خَرَجْت عَلَى عُرَنَةَ، وَجَعَلْت أُخْبِرُ مَنْ لَقِيت أَنّى أُرِيدُ سُفْيَانَ بْنَ خَالِدٍ لأَكُونَ مَعَهُ حَتّى إذَا كُنْت بِبَطْنِ عُرَنَةَ لَقِيته يَمْشِى، وَوَرَاءَهُ الأَحَابِيشُ وَمَنْ اسْتَجْلَبَ وَضَوَى إلَيْهِ.
فَلَمّا رَأَيْته هِبْته، وَعَرَفْته بِالنّعْتِ الّذِى نَعَتَ لِى رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَرَأَيْتنِى أَقْطُرُ فَقُلْت: صَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ دَخَلْت فِى وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ رَأَيْته، فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِى أُومِئُ إيمَاءً بِرَأْسِى، فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ: مَنْ الرّجُلُ؟ فَقُلْت: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، سَمِعْت بِجَمْعِك لِمُحَمّدٍ فَجِئْتُك لأَكُونَ مَعَك، قَالَ: أَجَلْ إنّى لَفِى الْجَمْعِ لَهُ.
فَمَشَيْت مَعَهُ وَحَدّثْته فَاسْتَحْلَى حَدِيثِى، وَأَنْشَدْته شِعْرًا، وَقُلْت: عَجَبًا لِمَا أَحْدَثَ مُحَمّدٌ مِنْ هَذَا الدّينِ الْمُحْدَثِ فَارَقَ الآبَاءَ وَسَفّهَ أَحْلامَهُمْ، قَالَ: لَمْ يَلْقَ مُحَمّدٌ أَحَدًا يُشْبِهُنِى، قَالَ: وَهُوَ يَتَوَكّأُ عَلَى عَصًا يَهُدّ الأَرْضَ حَتّى انْتَهَى إلَى خِبَائِهِ وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إلَى مَنَازِلَ قَرِيبَةٍ مِنْهُ وَهُمْ مُطِيفُونَ بِهِ فَقَالَ: هَلُمّ يَا أَخَا خُزَاعَةَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اُحْلُبِى، فَحَلَبَتْ، ثُمّ نَاوَلَتْنِى، فَمَصَصْت ثُمّ دَفَعْته إلَيْهِ، فَعَبّ كَمَا يَعُبّ الْجَمْلُ، حَتّى غَابَ أَنْفُهُ فِى الرّغْوَةِ، ثُمّ قَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسْت مَعَهُ حَتّى إذَا هَدَأَ النّاسُ وَنَامُوا وَهَدَأَ اغْتَرَرْته فَقَتَلْته وَأَخَذْت رَأْسَهُ، ثُمّ أَقْبَلْت وَتَرَكْت نِسَاءَهُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ وَكَانَ النّجَاءُ مِنّى حَتّى صَعِدْت فِى جَبَلٍ فَدَخَلْت غَارًا.
وَأَقْبَلَ الطّلَبُ مِنْ الْخَيْلِ، وَالرّجَالِ تَوَزّعُ فِى كُلّ وَجْهٍ، وَأَنَا مُخْتَفٍ فِى غَارِ الْجَبَلِ وَضَرَبَتْ الْعَنْكَبُوتُ عَلَى الْغَارِ وَأَقْبَلَ رَجُلٌ وَمَعَهُ إدَاوَةٌ ضَخْمَةٌ وَنَعْلاهُ فِى يَدِهِ وَكُنْت حَافِيًا، وَكَانَ أَهَمّ أَمْرِى عِنْدِى الْعَطَشَ كُنْت أَذْكُرُ تِهَامَةَ وَحَرّهَا، فَوَضَعَ إدَاوَتَهُ وَنَعْلَهُ وَجَلَسَ يَبُولُ عَلَى بَابِ الْغَارِ ثُمّ قَالَ لأَصْحَابِهِ لَيْسَ فِى الْغَارِ أَحَدٌ.
فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَخَرَجْت إلَى الإِدَاوَةِ، فَشَرِبْت مِنْهَا، وَأَخَذْت النّعْلَيْنِ فَلَبِسْتهمَا، فَكُنْت أَسِيرُ اللّيْلَ، وَأَتَوَارَى النّهَارَ حَتّى جِئْت الْمَدِينَةَ فَوَجَدْت رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ، فَلَمّا رَآنِى، قَالَ: “أَفْلَحَ الْوَجْهُ”، قُلْت: أَفْلَحَ وَجْهُك يَا رَسُولَ اللّهِ، فَوَضَعْت رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرْته خَبَرِى، فَدَفَعَ إلَىّ عَصًا، فَقَالَ: “تَخَصّرْ بِهَذِهِ فِى الْجَنّةِ، فَإِنّ الْمُتَخَصّرِينَ فِى الْجَنّةِ قَلِيلٌ”.
قلت: وهذه الروية رواها الواقدي وحاله معر عند أهل الديث فهو متروك عند جلهم، وضاع وكذاب عند بعضهم، مع الاعتراف بأنه كان من أوعية العلم، لكنه في الرواية لا شيء، ثم إن هذه الرواية مرسلة أو معضلة فالراوي موسى بن جبير أدرك عدداً من الصحابة وروى عنهم، فإن أحسنا الظن وأخذنا بالأخف قلنا أن الحديث مرسل.
فهي رواية ساقطة إذاً تفرد ببعض ألفاظها الواقدي وحاله كما قدمت، عدا ما يعتور هذه الرواية من ضعف آخر كما بينت.
أما بقية التخريج فقد أخرج هذا الحديث أبوداود في سننه مختصرأً: 1/18: فقال:حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو ثنا عبد الوارث ثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر عن بن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتله، قال: فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه، فلما دنوت منه قال لي: من أنت ؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد.
وهذه رواية مختصرة وهذا السند هو المعروف في هذه القصة، وهو مع ذلك فيه ما فيه، فأولاً: فيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، لكن قيل إن هذا التدليس زال بتصريحه في السماع كما في رواية أحمد وغيره. ثم إن هذا السند فيه مجهول، أو مبهم وهو ابن عبد الله بن أنيس، كما في جميع الروايات، وقد قيل إن ابن عبد الله بن أنيس هو عبد الله بن عبد الله بن أنيس، وهو غير محسوم، إذ إنَّ الحافظ ابن حجر وقبله الحافظ المزي لم يبتا في كون هذا المبهم هو عبد الله بن عبد الله بن أنيس، ثم لو فرضنا أن هذا الراوي هو عبد الله بن عبد الله فحاله غير معروفه فمن ترجم له كالبخاري وغيره لم يزد على أن ذكره ولم يذكروا فيه جرحاً أو تعديلاً، فهو مجهول حال.
قلت وغالب من خرَّج هذا الحديث خرجه من هذه الطريق لكن بإسهاب.
فمنهم أحمد في المسند ( 3/496 و25/440-443 طبعة مؤسسة الرسالة )حيث قال: ثنا يعقوب ثنا أبي قال عن ابن أسحق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن بن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( أنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة، فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله أنعته لي حتى أعرفه. قال: إذا رأيته وجدت له إقشعريرة، قال: فخرجت متوشحاً بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع طعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل ؟ قلت: رجل من العرب سمع بك ويجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: أفلح الوجه، قال:قلت: قتلته يا رسول الله، قال: صدقت، قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس. قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا ؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك ؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا ؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة أن أقل الناس المتخصِّرون يومئذ يوم القيامة.
فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعا )).

ورواه بعد هذه الروية من طريق ابن إسحاق به، باختصار.
ورواه بمثل هذا اللفظ من طريق ابن إسحاق به: ابن خزيمة في صحيحه: 2/91 رقم: 982 – 983، وابن حبان في صحيحه: 16/114 – 115 رقم 7160، وأبو يعلى في مسنده 2/201 – 202 رقم 1905، والبيهقي في السنن الكبرى: 3/256، وفي دلائل النبوة: 4/42، والطبري في التاريخ: 2/208، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة: 9/29 - 30وهذه الرواية كما قدمت فيها مبهم وهو ابن عبد الله بن أنيس، ولم يتعين، لكن قال ابن حجر في فتح الباري: 2/437 عن حديث أبي داود: إسناده حسن.
قلت: ولعل حكم ابن حجر على الحديث بمجموع طرقه، وإلا فهو من هذه الطريق ضعيف، ويلاحظ أن جمبعهم لم يذكروا حمل الرأس، ووضعه بي يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وللحديث طرق أخرى غير ما قدمت فقد رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني: 4/77 رقم: 2031 قال: حدثنا يعقوب بن حميد ثنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن كعب قال: قال: عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من لي من خالد بن نبيح رجل من هذيل وهو يومئذ بعرنة، فقال عبد الله رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، انعته لي ؟ فقال: لو رأيته هبته، فقلت: والذي أكرمك ما هبت شيئاً قط، فخرجت حتى لقيته بجبال عرفة قبل أن تغيب الشمس، قال: ابن أنيس رضي الله عنه فلقيت منه رعباً فعرفت حين رعبت منه أنه الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من الرجل ؟ فقلت: باغي حاجة فهل من مبيت ؟ فقال: نعم فالحق بي، فخرجت في رجاء فصليت العصر ركعتين خفيفتين، فأشفقت أن يراني، ثم لحقته فضربته بالسيف، ثم خرجت حتى غشيت الجبل، فمكثت حتى إذا ذهب الناس عني خرجت، حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبرته الخبر. قال محمد بن كعب رضي الله عنه: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصرة فقال: تخصر بهذه حتى تلقاني بها يوم القيامة، وأقل الناس يومئذ المتخصرون ؟
قال محمد بن كعب: فلما توفي عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أمر بها فوضعت على بطنه وكفن عليها ودفنت معه.

وهذه الرواية من هذا الطريق عند الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة.وهذا إسناد منقطع بالرغم من أن رواته ثقات، فمحمد بن كعب لم يدرك عبد الله بن أنيس.
وكلاهما كما يظهر لم يذكرا أيضاً حمل الرأس ووضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك طرق أخرى مرسلة أخرجها البيهقي في دلائل النبوة ( 4/40 – 41 )، فرواه من مرسل عروة، وموسى بن عقبة.
هذا ما وقفت عليه من طرق لهذا الحديث، فهي كما يرى الناظر كلها لا تخلو من مقال، ولكن يمكن تحسين هذه الرواية الثانية بكثرة الطرق، ولكن الطريق التي رواها الواقدي فهي شديدة الوهي وهي الطريق المسندة الوحيدة التي وقفت عليها وذكرت تلك التفاصيل من حمل الرأس ووضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك طريق أخرى غير مسندة ذكر فيها حمل الرأس ذكرها ابن حبان في كتابه الثقات فقال في: 1/279: ثم كانت سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن خالد بن ملهم الهذلى ثم اللحيانى بعرنة فصادفه ببطن عرنة ومعه أحابيش فقتله وحمل رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الرواية كما يظهر غير مسندة ولا يمكن الحكم على رواية لا إسناد لها، وبهذا يتبن سقوط الرواية التي فيها ذكر حمل الرأس ووضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الأحاديث الواردة في حمل الرؤوس وقطعها نفياً وإثباتاً وبيات الراجح.
1- النصوص المثبتة:
لقد رويت آثار مثبتة لمسألة حمل الرأس للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، وذلك في عدة أحاديث منها:
أ - ما أخرجه أبو داود في المراسيل: ص 230، رقم 296: حدثنا عبد الله بن الجراح عن حماد بن أسامه عن بشير بن عقبة عن أبي نضرة قال: لقي النبي صلى الله عليه وسلم العدو فقال: (( من جاء برأس فله على الله ما تمنى فجاء رجلان برأس فاختصما فيه فقضى به لأحدهما فقال تمن على الله ما شئت قال أتمنى سيفا صارما حتى أقتل )). قال أبو داود: في هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منها شيء.
ب - وروى الترمذي في جامعه: 3/643: باب فيمن تزوج امرأة أبيه (رقم 1362): حدثنا أبو سعيد وعثمان حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال: مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه لواء فقلت: أين تريد ؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برأسه.
قال: وفي الباب عن قرة المزني، قال أبو عيسى: حديث البراء حديث حسن غريب، وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن البراء وقد روي هذا الحديث عن أشعث عن عدي عن يزيد بن البراء عن أبيه وروي عن أشعث عن عدي عن يزيد بن البراء عن خاله عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار: 3/148 وفيه: ارسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله. فقال: حدثنا فهد قال: ثنا أبو نعيم قال: ثنا الحسن بن صالح عن السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تذهب فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله.
وقال: حدثنا فهد قال: ثنا يوسف هو بن منازل وأبو سعيد وعثمان قالا: ثنا حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال: مر بي خالي أبو بردة بن نيار الأسلمي معه اللواء فذكر مثله إلا أنه قال آتيه برأسه.
وقال أيضاً: حدثنا محمد بن علي بن داود قال: ثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني قال هشيم: حدثناه قال أخبرنا الأشعث عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: مر بي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إلى أي شيء بعثك قال إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه.
وكذا رواه الخطيب في غوامض الاسماء المبهمة: 1/197: وفيه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أضرب عنقه وآخذ ماله. فقال: أخبرنا أبو محمد بن مرة قال: قرأت على أبي القاسم حاتم بن محمد قال: ثنا أبو الحسن علي بن محمد القابسي قال: ثنا أبو بكر بن أحمد ابن عبد المؤمن قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود قال: ثنا روح بن الفرج مولى محمد بن سابق قال: ثنا عبيد بن جناد قال: ثنا عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: لقيت عمي رضي الله عنه وقد اعتقد راية فقلت أين تريد فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أضرب عنقه وآخذ ماله وقال: وأخبرنا أبو مرة عن أبيه قال ثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن أنا محمد بن نافع قال أنا عبد الرزاق قال أنا معمر عن أشعث عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال لقيني عمي ومعه الراية فقلت أين تريد؟ فقال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني بقتله.
وقال في: 1/198: أخبرنا أبو بحر الأسدي قال: ثنا هشام بن أحمد الكناني قال: ثنا أبو محمد بن عباس قال: ثنا ابن مفرج قال: ثنا قاسم بن أصبغ قال: ثنا أحمد بن زهير ثنا عبد الله بن مطيع ثنا هشيم عن أشعث عن عدي ابن ثابت عن البراء قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو معه راية فقلت: أين تريد ؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله. أخبرني بذلك أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن مرة قال ثنا أبي رحمه الله قال ثنا عبد الله بن ربيع القاضي قال ثنا أبو بكر القرشي عن أبي عبد الرحمن النسوي قال أنبا أحمد بن عثمان بن حكيم الكوفي قال ثنا أبو نعيم قال ثنا الحسن يعني ابن صالح عن السدي عن عدي ابن ثابت عن البراء قال لقيت خالي ومعه الراية فقلت أين تريد قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو قتله.
وقال في: 1/199: وقرأت على أبي بكر محمد بن عبد الله المعافري أخبرك أبو الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي قال أنبا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد قال ثنا أبو علي الحسن بن محمد قال ثنا محمد بن أحمد ابن محبوب قال ثنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي قال ثنا أبو سعيد وعثمان ثنا حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه لواء فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برأسه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وقد جاء أن الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو قرة جد معاوية بن قرة كما أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن مرة عن أبيه رحمه الله قال ثنا أبو محمد عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن معاوية قال ثنا أحمد بن شعيب قال أنبا العباس بن محمد الدوري قال ثنا يوسف ابن مبارك قال ثنا عبد الله بن إدريس قال ثنا خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله.
قلت: أكثر الروايات ليس فيها وأن آتيه برأسه، إلا من طريق حفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال: مر بي خالي أبو بردة بن نيار،كما في رواية الترمذي ورواية عند الطحاوي، وأخرى عند الخطيب من نفس الطريق، وبقية الروايات ليس فيها هذا، بل لقد بين الحافظ أبو حاتم الرازي في العلل أن هذه الرواية معلولة، ووهم من راويها فقال: ابن أبي حاتم في العلل: 1/403 ( رقم 1207 ) سألت أبي عن حديث رواه أبو خالد الأحمر عن أشعث ابن سوار عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن خاله أن رجلاً تزوج امرأة أبيه أو امرأة ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله فقلت لأبي: حدثنا أبو سعيد الأشج عن أبي خالد كما ذكرت وحدثنا الاأج عن حفص عن أشعث عن عدي عن البراء قال: مر بي خالي أبو بردة ابن نيار ومعه لواء فقلت: اين تريد ؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. فقال أبي: وهما جميعاً إنما هو كما رواه زيد بن أبي أنيسة عن عدي عن يزيد بن البراء عن البراء عن خاله أبي بردة ومنهم من يقول عن عمه أبي بردة.
قلت: ورواية زيد بن أبي أنيسة التي أشار إليها الحافظ أبو حاتم الرازي رواها الخطيب فيما مر عنه في أول رواية مذكورة عنه وفيها: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أضرب عنقه وآخذ ماله. وبهذا يتبين أن قوله وآتيه برأسه وهم وخطأ، والله أعلم.
ج _ وروى النسائي في النسائي في الكبرى: 5/204، حديث رقم (8672 ) قال:
أخبرنا عيسى بن محمد أبو عمير عن ضمرة عن الشيباني وهو يحيى بن أبي عمر وأبو زرعة عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه و سلم برأس الأسود العنسي الكذاب
وهذه رواية مختصرة رواها بأسهب من ذلك ابن عبد البر في الاستعاب: 3/1264 – 1265: حدثنا خلف بن قاسم حدثنا الحسن بن رشيق حدثنا أبو بشر الدولابي حدثنا عيسى بن محمد أبو عمير النحاس ومؤمل بن إهاب وأحمد بن أبى العباس الصيدلانى قالوا: حدثنا ضمرة بن ربيعة عن أبى زرعة يحيى بن أبى عمرو الشيبانى عن عبد الله بن الديلمى عن أبيه فيروز قال: أتيت النبى صلى الله عليه وسلم برأس الأسود العنسى الكذاب، فقلت: يا رسول الله علمت من أين نحن وممن نحن ؟ فقال: أنتم إلى الله وإلى رسوله، قال الدولابى: كان قتل الأسود بصنعاء سنة إحدى عشرة قبل وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر ( ابن عبد البر ):لم يُتابع ضمرة على قوله عن الشيبانى عن عبد الله بن الديلمى عن أبيه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم برأس الأسود العنسى الكذاب أحدٌ، وقد روى حديث فيروز الديلمى فى قدومه على النبى صلى الله عليه وسلم وحديثه فى الأشربة عن الشيبانى عن عبد الله بن الديلمى عن أبيه جماعة لم يذكر واحد منهم فيه أنه قدم برأس الأسود العنسى الكذاب، وأهل العلم لا يختلفون أن الأسود العنسى الكذاب المتنبى بصنعاء قتل فى سنة إحدى عشرة ومنهم من يقول فى خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وليس ذلك عندى بشىء، والصحيح أنه قتل قبل وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وأتاه خبره وهو مريض مرضه الذى مات منه وقد أوضحنا ذلك هذا الموضع والحمد لله، ولا خلاف أن فيروز الديلمى ممن قتل الأسود بن كعب العنسى المتنبى ومات فى خلافة عثمان رضى الله عنه.
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير: وقال أبو أحمد الحاكم في الكنى هو وهم لأن الأسود قتل سنة إحدى عشرة على عهد أبي بكر وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر خروج الأسود صاحب صنعاء بعده لا في حياته بالإجماع،..... ويحتمل أن يكون معناه أنه أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصداً إليه وافداً عليه مبادراً بالتبشير بالفتح فصادفه قد مات صلى الله عليه وسلم، قلت: وقول الحاكم إن الأسود لم يخرج في حياته صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت أن ابتداء خروجه كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم إنه يخرج بعده اشتداد شوكته واشتهار أمره وعظم الفتنة به، وكان كذلك وقيل: في أثر ذلك ومع ذلك فلا حجة فيه إذ ليس فيه اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره وقد ثبت عن أبي بكر إنكار ذلك.
إذاً فلا حجة بهذا الخبر أيضاً، لأن فيه تضعيف من قبل حافظين علمين كبيرين، وهما ابن عبد البر القرطبي، وابن حجر العسقلاني، فأي متمسك بهذا الحديث بعد ذلك ؟
د _ سرية أبي حدرد جاء في السيرة النبوية لابن هشام: 6/41 –43: غزوة ابن أبي حدرد لقتل رفاعة بن قيس الجشمي، قال ابن اسحاق: وغزوة ابن ابي حدرد الأسلمي الغابة وكان من حديثها فيما بلغنى عمن لا أتهم عن ابن أبي حدرد قال تزوجت امرأة من قومي وأصدقتها مائتي درهم قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال وكم أصدقت فقلت مائتي درهم يا رسول الله قال سبحان الله لوكنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم الله ما عندي ما أعينك به قال فلبثت أياما وأقبل رجل من بني جشم يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من بني جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا اسم في جشم وشرف قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين معي من المسلمين فقال اخرجوا الى هذا الرجل حتى تاتوا منه بخبر وعلم قال وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها احدنا والله ما قدمت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال تبلغوا عليها واعتقبوها ما استعان به ابن ابي حدرد من هذه الغزوة في زواجه قال فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس قال كمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية اخرى من حاضر القوم رجاء لهما اذا سمعتماني قد كبرت وشددت في ناحية العسكر فكبرا وشدا معي قال فوالله إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا قال وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وقد كان لهم راع قد سرح في هذا البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه قال فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه ثم قال والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد اصابه شر فقال له نفر ممن معه والله لا تذهب نحن نكفيك قال والله لا يذهب إلا أنا قالوا فنحن معك قال والله لا يتبعني أحد منكم قال وخرج حتى يمر بي قال فلما أمكنني نفحته بسهمي فوضعته في فؤاده قال فوالله ما تكلم ووثبت عليه فاحتززت رأسه قال وشددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا قال فوالله ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم قال واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجئت براسه أحمله معي قال فاعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الابل بثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت إلى أهلي.
وقال الطبري في التاريخ: 22/147 – 148: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني ابن إسحاق عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم عن عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي قال تزوجت امرأة من قومي مائتي درهم فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي فقال وكم أصدقت قلت مائتي درهم يا رسول الله قال سبحان الله لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم والله ما عندي ما أعينك به قال فلبثت أياما وأقبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وكان ذا اسم وشرف في جشم قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به أو تأتونا منه بخبر وعلم قال وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال تبلغوا على هذه واعتقبوها قال فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى جئنا قريبا من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس فكمنت في ناحية وأمرت في ناحية أخرى من حاضر القوم رجاء لهما إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي قال فوالله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئا غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه قال فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه ثم قال والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر فقال نفر ممن مع والله لا تذهب نحن نكفيك فقال والله لا يذهب إلا أنا قالوا فنحن معك قال والله لا يتبعني منكم أحد قال وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم ووثبت إليه فاحتززت رأسه ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم قال إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي قال فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فجمعت إلى أهلي.

وأما الواقدي فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة حدثه عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن أبي حدرد في هذه السرية، قلت هذا ما رواه الإخباريون في كتبهم عن خبر ابن أبي حدرد، وهم من ذكر خمل الرأس وأخذه، وهاتين الروايتن من الضعف بمكان، أما روية ابن إسحاق التي وردت في السيرة فهي ظاهرة الضعف حتى لمن لم يكن من أهل الشأن إذ إنه قال: بلغني عمن لا أتهم عن أبن أبي حدرد، وهذا غاية في الضعف إذ فيه إبهام وإعضال، ومثل هذه المقاطيع لا يُستشهد بها على الفضائل والترغيب، فضلاً عن الأحكام، وأحكام بهذه الخطورة.

أما رواية الطبري فلا تخلو من ضعف أيضاً، إذ إن محمد بن إبراهيم لم يلق ابن أبي حدرد، فكما ورد عن البخاري أنه سأل علي بن المديني: لقي محمد بن إبراهيم أحداً من الصحابة؟

قال: أنس بن مالك، ورأى عبد الله بن عمر ( انظر: الفسوي: المعرفة والتاريخ: 1/436 )، على هذا فرواية الطبري هذه منقطعة.
ورواه غيرهما ومن هو أحفظ وأولى بالقبول منهما وهو الإمام أحمد في المسند: 6/11، وليس فيه قطعه الرأس وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإثابته على ذلك، ومع ذلك فالرواية ضعيفة أيضاً لأن فيها راوٍ لم يسم، وهي جدة عبد الواحد بن أبي عون.
ولهذا فقول أبي البراء النجدي رواه البيهقي بأسانيد أحدها جيد الإسناد ليس بجيد لأنه لم يبين أين رواه البيهثي أهو في سننه، أم في المعرفة، أم في غيرهما من الكتب، فإذا كان المقصود بالسنن فلم يروه فيه، وإن كان غيره فليبين، ثم إن تجويد الإسناد لا يعني صحة عند العلماء لا ولا حتى الحسن، هذا إن صدر عن عالم معتبر، لا أن يكون منقولاً عن صاحب المعتبر.
هـ _ ذكر ابن حجر في التلخيص الحبير 1/107 – 108 قال: وروى بن شاهين في الأفراد له ومن طريقه السلفي في الطيوريات قال ك نا محمد بن هارون نا محمد بن يحيى القطعي حدثني عبد الله بن إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن حدثني أبي عن صالح بن خوات عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري: أن أول رأس علق في الإسلام رأس أبي عزة الجمحي ضرب رسول الله عنقه ثم حمل رأسه على رمح ثم أرسل به إلى المدينة.
وهذه الرواية كما يظهر من مخرجها ابن شاهين هي من الأفراد، وفي الإسناد عبد الله بن إسحاق، وهو من الضغفاء الذين تفردوا بأحاديث لم يتابعوا عليها كما قال العقيلي في الضعفاء 2/233، وهذا ذكره عنه أيضاً ابن حجر في لسان الميزان: 3/258.إذاً فهذه الرواية من أفراد عبد الله بن إسحاق هذا وهو ضعيف فيكون الحديث منكراً، إذ لو كان مقبولاً لما قبلنا تفرده، فكيف إذا كان ضعيفاً ؟
ملحوظة: لم أقم بإضافة حديث (( جئتكم بالذبح )) أو أرسلت بالذبح، أو ما أرسلت لكم إلا بالذبح لأنه كما أرى خارج عن موضوع الاستدلال، ولسوف أتعرض له وأخرجه وأبين المراد منه بعض المطلب القادم الذي أتعرض فيه لأقوال العلماء والفقهاء، وخلاصة رأيهم في هذه المسألة، كما سأذكر في المكان ذاته الآيات القرآنية التي استدل بها أبو البراء النجدي، لأنها أيضاً خارجة عن موضوع البحث، وسأبين هذا كله بالأدلة ‘إن شاء الله تعالى.
أما حديث ابن مسعود في حزه رأس أبي جهل فهذا كان في المعركة، ثم لم تتفق الروايات في ذكر حمله الرأس للنبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد نفى هذا وأنكره حافظ التابعين ابن شهاب الزهري كما سيأتي في أدلة النافين لهذا الأمر، وسأبينه في الأدلة التي تلي هذه الأدلة.
النصوص النافية:
وردت نصوص نافية لمسألة حمل الرؤوس وقطعها، فمن ذلك ما رواه وسعيد بن منصور في السنن: 2/287: باب ما جاء في حمل الرؤوس حديث رقم (2649) قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن يزيد عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر: أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق البطريق فأنكر ذلك فقال: يا خليفة رسول الله ! فإنهم يفعلون ذلك بنا قال: فاستنان بفارس والروم ؟ لا تحمل إلي رأسا فإنما يكفي الكتاب والخبر. ( إسناده صحيح رجاله الصحيح )، وأخرجه كذلك والنسائي في السنن الكبرى: 5/204 رقم 8673 - روى البيهقي في السنن الكبرى 9/132 فقال: باب ما جاء في نقل الرؤوس، ( من طريق ابن المبارك به ) كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك، وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وفيه يبين الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن هذه سنه فارس والروم، ولا أظن أنَّ هذه لو كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تخفى على مثل أبي بكر وهو رفيقه وملازمه وخليفته من بعده، وحتى لو لم يكن في هذا الأمر سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأبي بكر وعمر بقوله اقتدوا باللذين من بعدي، وقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وبهذا يتبن أن حمل الرؤوس ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما من سنة الفرس، وفي رواية أخرى سنة العجم !!كما سيأتي.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف 7/722 قال: حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن يزيد بن أبي حبيب المصري قال: بعث أبو بكر أو عمر - شك الأوزاعي - عقبة بن عامر الجهني ومسلمة بن مخلد الأنصاري إلى مصر، قال: ففتح لهم، قال: فبعثوا برأس يناق البطريق، فلما رآه أنكر ذلك فقال: إنهم يصنعون بنا مثل هذا، فقال: استنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إلينا رأس، إنما يكفينا من ذلك الكتاب والخبر.( وهذا إسناد أيضاً رجاله رجال الصحيح، وإن كان قرة بن عبد الرحمن ضُعِّف بالرغم من أنَّ مسلماً أخرج له، ولكنه توبع كما في روايات النسائي وسعيد بن منصور، فهو صحيح أيضاً ).
وروى سعيد بن منصور أيضاً 2/287 رقم2650 فقال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن علي بن رباح حدثه عن عقبة بن عامر الجهني قال: جئت أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأول فتح من الشام برؤوس فقال: ما كنت تصنع بهذه شيئا وقال: من أعطاكم الجزية فاقبلوها منه ومن قاتلكم فقاتلوه فلن تؤتوا الجزية من وراء الدرب آخر ما عليكم. (وهذا سند صحيح أيضاً رجاله رجال الصحيح )
وأخرج البيهقي أيضاً في السنن: 9/132: وأخبرنا أبو نصر أنبأ أبو الفضل أنبأ أحمد ثنا الحسن ثنا عبد الله عن بن لهيعة حدثني الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال سمعت معاوية بن خديج يقول: هاجرنا على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فبينا نحن عنده إذ طلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه قدم علينا برأس يناق البطريق، ولم تكن لنا به حاجة إنما هذه سنة العجم.
وهذا الحديث أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 40/482 –483 فقال: كتب إلي أبو محمد حمزة بن العباس بن علي وأبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن سليم ثم حدثني أبو بكر اللفتواني عنهما قالا أنا أبو بكر الباطرقاني أنا أبو عبد الله بن مندة نا أبو سعيد بن يونس حدثني أبي عن جدي أنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة أخبرني الحارث بن يزيد أن علي بن رباح حدثه أنه سمع معاوية بن حديج يقول هاجرنا على زمان أبي بكر فبتنا نحن عنده إذ طلع المنبر فقال لقد قدم علينا برأس يناق البطريق ولم يكن لنا به حاجة إنما هذه سنة العجم، قم يا عقبة فقام رجل منا يقال له عقبة بن بجرة فقال أبو بكر: إني لا أريدك إنما أريد عقبة بن عامر.
و طريقي البيهقي وابن عساكر فيهما عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف إذ ساء حفظه بعدما احترقت كتبه، لكن طريق ابن عساكر جاءت من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة، ومعلوم أن رواية عدد من الرواة ومنهم العبادلة الذين يمثل ابن وهب أحدهم عن ابن لهيعة صحيحة، وعلى هذا تكون رواية ابن عساكر صحيحة، وكذا رواية البيهقي، لأن فيه متابعة للراوي.
وروى سعيد بن منصور في السنن 2/288حديث رقم 2653 - قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن سليمان بن سليم و أبي بكر عن الزهري قال: قدموا على أبي بكر برأس يناق البطريق وبرؤوس فكتب أبو بكر إلى عامله بالشام أن لا تبعثوا إلي برأس إنما يكفيكم الكتاب والخبر.
وهذه رواية مرسلة، ولكن يشهد لها الروايات السالفة، فحتى لو لم تكن هذه الرواية موجودة لكان فيما مضى الغنية.
وروى سعيد بن منصور أيضاً 2/288 رقم: 2652فقال: وحدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن عبد الكريم الجزري أنه حدثه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أتي برأس فقال بغيتم. ورواه أيضاً عبد الرزاق في المصنف: 5/306: 9701 عن عبد الرزاق عن معمر به، والبيهقي في السنن الكبرى 9/132 وعزاه للحسن بن الربيع وأسنده من طريقه بمثل ما هو هنا، وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، وإن كان عبد الكريم الجزري غمز فيه ابن حبان وأورده في المجروحين، لكن قال الذهبي في ميزان الاعتدال ترجمة رقم 5174: قلت قد قفز القنطرة واحتج به الشيخان وثبته أبو زكريا، وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالحافظ عندهم، وغالب العلماء وائمة الجرح على توثيقه وقبول حديثه.ولكن عبد الكريم الجزري لم يدرك أبا بكر ولا عهده، وقد أثبت ابن معين سماعه من أنس بن مالك، فيكون الحديث مرسل والله أعلم، ويشهد له الروايات السالفة.
وروى أبو داود في المراسيل 245: رقم 329 حدثنا سعيد بن منصور حدثنا ابن المبارك عن معمر حدثني صاحب لي عن الزهري قال: لم تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس قط، ولا يوم بدر، وحمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير.
وروى سعيد بن منصور في السنن 2/288رقم 2651 فقال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر قال: حدثني صاحب لي عن الزهري قال: لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه و سلم رأس قط ولا يوم بدر وحمل إلى أبي بكر فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير، ورواه كذلك البيهقي في السنن 9/132: محيلاً على الحسن بن الربيع بإسناده عن عبد الله بن المبارك به، وفيه راوٍ لم يسم، وهو شيخ معمر، لكن معمراً يروي عن الزهري مباشرة، ثم إن هذا الحديث يعد من قبيل المرسل لأن الزهري يخبر عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تابعي، لكن قد يجاب بأن الزهري ههنا يذكر ما ثبت من الرواية في هذا الأمر، لا عن روايته هو، فيكون الكلام مقبولاً، والله أعلم.
وسيأتي هذا الحديث بألفاظ أُخر عند عبد الرزاق في المصنف، وبأسانيد ليس فيها هذا المغمز، ومن ذلك ما ورواه عبد الرزاق في المصنف5/306 رقم9703 عن زمعة بن صالح قال أخبرني زياد بن سعد أن ابن شهاب أخبره قال: لم يؤت النبي صلى الله عليه وسلم برأس ولا يوم بدر، وأُتي أبو بكر برأس عظيمٍ فقال: ما لي ولجيفهم تحمل إلى بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ثم لم تحمل بعده في زمان الفتنة إلى مروان ولا إلى غيره حتى كان زمان ابن الزبير فهو أول من سن ذلك حمل إليه رأس زياد وأصحابه وطبخوا رؤوسهم في القدور.
ورواه أيضاً بإسناد أصح من هذا حديث رقم 9702 عن معمر عن الزهري قال لم يؤت النبي صلى الله عليه وسلم برأس وأتي أبو بكر برأس فقال لا يؤتى بالجيف إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أتي برأس ابن الزبير.
وقد ذكر هذه الروايات وغيرها السيوطي في كتابه جامع الأحاديث، وذكرها المتقي الهندي في كنز العمال في باب ( محظورات الجهاد ) وذكر غالب الأحاديث التي ذكرتها هنا.
فإن قيل إن الزهري إنما يخبر بما علم ولعل غيره حفظ أكثر منه فيكون من حفظ حجة على من لم يحفظ، فنقول أن هذا يصح فيما كان سبيلة الرواية المحضة لما تحمل، ولكن الزهري كما يظهر هنا يعطي فتوى في ثبوت أحاديث وعدم ثبوتها والدليل صيغة كلامه حيث لم يستخدم في أي من الروايات صيغ التحديث والإخبار، ولهذا وجب المصير إلى حكم هذا العلم حافظ التابعين في هذه المسألة، وأنه لا يرى صحة لأي من الأحاديث التي وردت بمثل هذا الفعل، والله أعلم.
الخلاصة والترجيح: فبناءً على ما مر معنا من أحاديث وآثار تثبت هذا الفعل تعرضت لها في المشاركة السابقة، وأحاديث تنفي هذا الفعل، فإني أرجح عدم وقوعه، وذلك لأن أحاديث الإثبات ما بين معلول، وضعيف، ورواية إخباريين، وعند التحقيق وجدنا الروايات التي هي عند غير الإخباريين لا تشتمل على هذه التفصيلات التي تثبت حمل رأس أو قطعه أو نقله لرسول الله ووضعه بين يديه أو بين يدي غيره من الخلفاء الذين جاؤوا بعده، مما يضعف تلك الروايات التي اشتملت على تلك الزيادات كما بينت في المشاركة السابقة فلتراجع هناك.
أما النصوص النافية لهذا الفعل فهي غاية في الصحة، ولا يعتريها ما اعترى غيرها من أحاديث الإثبات من الاختلاف في الرواية ولم نجد هذه الزيادات التي يذكر فيها حمل الرؤوس من اختلاف الروايات واختصاصها بالضعفاء والإخباريين المتروكين، ونجدها على الخلاف إذا رجعنا إلى دواوين السنة المعروفة، ولهذا فلا يخالجني أي شك في أن هذه الأعمال ليست من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لما أنكرها أبو بكر رضي الله عنه، ولما وصفها بسنة العجم، واستنان بفارس والروم، ولما وصف من قام بهذا الفعل بالبغاة، والله الموفق.
يتبع إن شاء الله تعالى بيان أقوال الفقهاء في هذه المسألة وبيان هل قطع الرؤوس من المثلة أم لا ؟
ثالثاً: نصوص العلماء في المسألة.
أما عن نصوص العلماء في المسألة فقد وقفت على عدد كبير منها، وهي متنوعة لعلماء المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهذه منصوص عليها في كتب المتقدمين، والمتأخرين.
وهذه الأقوال تراوحت بين الحرمة والكراهة، والجواز مع التعليل.

وهذا إيجاز لمقولاتهم، وأرى نفسي في حلٍّ من ذكر كل أقوالهم لأن هذا سيطول البحث بذكر مكررات ليس إلا.
أولاً: من يرى الحرمة وهم كثر، وعلى رأسهم علماء المالكية ابتداءً من تلاميذ مالك كسحنون وغيره ,انتهاءً بآخر شرح مختصر خليل لا يختلفون في ذلك، وإن كانوا يتباينون باللفظ والعبارة.
أبدأ أولاً بهدا النقل من الموسوعة الفقهية حيث جاء فيها: 38 / 107: حمل رأس العدو:
5 - قال الشافعية والحنابلة: يكره حمل رأس الكافر العدو لما روى عقبة بن عامر قال: إن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثا بريدا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق بطريق الشام فلما قدم على أبي بكر رضي الله عنه أنكر ذلك فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله: فإنهم يصنعون ذلك، فقال: أفاستنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر.
ولحديث سمرة بن جندب السابق.
وقال المالكية: يحرم حمل رأس كافر عدو من بلد قتله إلى بلد آخر , أو لأمير جيش في بلد القتال.
واعتبروا ذلك مثلة.
وقال الحنفية: لا بأس بحمل رأس المشرك إذا كان في ذلك غيظهم: بأن كان المشرك من عظمائهم.
وقالوا: وقد حمل ابن مسعود يوم بدر رأس أبي جهل وألقاه بين يديه عليه الصلاة والسلام.
قلت: ويسلم ما جاء في الموسوعة إلا ما ذكر عن الحنفية، إذ إن هذا ليس رأياً لكافة الحنفية، ومن ذهب إلى الجواز لم يطلق الأمر فيه وإنما قيده، وهذا بعض تفصيل لما نُقل عنهم:
ففي السير الكبير لمحمد بن الحسن 1/79 – 80 ( باب حمل الرؤوس إلى الولاة ) وذكر عن عقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنه أنه قدم على أبى بكر الصديق رضى الله عنه برأس يناق البطريق، فأنكر ذلك.
فقيل له: يا خليفة رسول الله ! إنهم يفعلون ذلك بنا.
قال: فاستنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إليَّ رأس، إنما يكفى الكتاب والخبر.
وفى رواية: قال لهم: لقد بغيتم، أي تجاوزتم الحد.
وفى رواية: كتب إلى عماله بالشام: لا تبعثوا إلى برأس، ولكن يكفيني، الكتاب والخبر.
قال السرخسي في الشرح: فبظاهر الحديث أخذ بعض العلماء، وقال: لا يحل حمل الرؤوس إلى الولاة لأنها جيفة، فالسبيل دفنها لإماطة الأذى، ولأن إبانة الرأس مثلة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور.
وقد بين أبو بكر رضى الله عنه أن هذا من فعل أهل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم.
وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه إذا كان في ذلك كبت وغيظ للمشركين أو فراغ قلب للمسلمين بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك.

وفي المبسوط: 10/131 قال السرخسي: وأكره أن تؤخذ رؤوسهم فيطاف بها في الآفاق ؛ لأنه مثلة، وقد ** نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، ولو بالكلب العقور }، ولأنه لم يبلغنا أن عليا رضي الله عنه صنع ذلك في شيء من حروبه، وهو المتبع في الباب، ولمّا حُمل رأس يناق البطريق إلى أبي بكر رضي الله عنه كرهه فقيل: إن الفرس، والروم يفعلون ذلك، فقال: لسنا من الفرس، ولا الروم يكفينا الكتاب والخبر، وقد جوز ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا إن كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل استدلالا بحديث ** ابن مسعود رضي الله عنه حين حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه }.
وفي تبيين الحقائق: وحمل رؤوس الكفار إلى دار الإسلام مكروهٌ لما روى عقبة بن عامر الجهني أنه أنكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذلك ا هـ

وفي الدرالمختار: 4/266وعزاه للبدائع: ويكره نقل رؤوسهم ( أي البغاة )إلى الآفاق، وكذلك رؤوس أهل الحرب لأنها مثلة.
فهذه أقوال عدد من الحنفية بل من كبار الحنفية لا يرون الجواز ومنهم محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وتلميذه، كما نقل في السير الكبير، والسرخسي كما في المبسوط وشرح السير، وهو من محرري المذهب الحنفي، وفقيههم من المتأخرين ابن عابدين، أما من أجاز ذلك من الحنفية وسواهم فقد قيده بقيود فقد ذكر ابن نجيم في البحر الرائق: 5/84 هذا فقال: وفي الظهيرية: لا باس بحمل الرؤوس إن كان فيه غيظ للمشركين. وكذلك ما نقل عن السرخسي قبل قليل: (وقد جوز ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا إن كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل ).
إذاً الحنفية لا يقولون بالجواز ومن جوز قيد، ولسوف نرى مدى الأخذ بهذا التقييد.

أما من سواهم من المذاهب فالأمر عندهم أوضح، فالمالكية يرون عدم جواز هذه الأفعال وحرمتها للمثلة وسواها ففي التاج والإكليل للعبدري: 3/353 – 354:(وحمل رأس لبلد أو وال ).
سحنون: لا يجوز حمل الرءوس من بلد إلى بلد ولا حملها إلى الولاة، وكره أبو بكر حمل رأس العرفط إليه من الشام وقال: هذا فعل الأعاجم.
وفي القوانين الفقية لابن جزي 1/98:ولا يجوز حمل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد ولا حملها إلى الولاة.
وكذا في الشرح الكبير للدردير: 2/179:وحرم حمل رأس الكافر لبلد أو إلى والٍ، واظر كذلك حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:2/ 179 معه.
وكذا في شرح الخرشي على مختصر خليل: 3/115: وحمل رأس الكافر من بلد إلى آخر حرام، وكذلك حملها إلى الولاة، وانظر كذلك منح الجليل لعليش: 3/154.
إذاً فهذا رأي المالكية من سحنون ومن قبله إلى من كان متأخراً من الشراح.
أما الشافعية والحنابلة فالأمر عندهم ظاهر كذلك فهم يرون الكراهة، فمن ذلك ما جاء في المهذب للشيرازي: 2/236، ويكره خمل رؤوس الكفار إلى بلاد المسلمين، ثم استشهد بقصة يناق البطريق وإنكار أبي بكر لها،

وقال النووي في روضة الطالبين: 10/250: نقل رؤوس الكفار فيه وجهان: لا يُكره للإرعاب، والثاني وهو الصحيح وبه قطع العراقيون والروياني: يكره، ولم يتعرض الجمهور للفرق بين كافر فيه نكاية وغيره، وقال صاحب الحاوي لا يُكره إن كان فيه نكاية، بل يُستحب.
وانظر بقية آراء الشافعية في مغني المحتاج: 4/226، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج 9/245وغير ذلك.
أما الحنابلة، فقد قال ابن قدامة في الكافي: 4/273: و يكره نقل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد و رميها في المنجنيق لأن فيه مثلة و قد روى عقبة بن عامر: أنه قدم على أبي بكر برأس بناق البطريق فأنكر ذلك فقيل: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إنهم يفعلون بنا هذا قال: فاستبان بفارس و الروم ؟ لا يحمل رأس و إنما يكفي الكتاب و الخبر رواه سعيد. وكذا في المغني له: 9/261.
وفي الفروع لابن مفلح: 6/203: ويكره نقل رأس ورميه بمنجنيق. وفي المبدع لابن مفلح: 3/349: ويكره نقل رؤوسهم من بلد إلى آخر والمثلة بقتلاهم،.. وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير.

وانظر كذلك: أسنى المطالب: 4/192، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: 2/519، وكشاف القناع للبهوتي: 3/61، وغير ذلك.
وبالإضافة إلى المذاهب المتبوعة هناك من تكلوم على المسألة من سواهم كالشوكاني في السيل الجرار: 4/567.
وبناءً على ذلك نجد أن الأكثرين على التحريم والكراهة، بل ومن أطلق الكراهة يستدل بما ورد عن أبي بكر في المسألة فيظهر من هذا ميل لعدم الجواز، وأما من أجاز فإنه قيد ذلك بالنكاية، وما كان فيه غيظ للمشركين وفراغ قلوب للمسلمين لبأن يكون المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين، وهذا معارض بفعل أبي بكر فإنه رضي الله عنه قد أنكر عليهم هذا بالرغم من أن يناق البطريق ينطبق عليه ما قيل في التعليل ومع ذلك أنكر عليهم ومنعهم من هذا الفعل مما يُقوي وجهة نظر من حرّم أو كره.
ومن تمام هذا الموضوع بيان حكم فصل الرأس عن الجسد، ولست أقصد بذلك فصله أثناء المعركة بأن ضُرب المقتول فانفصل رأسه عن جسده، وإنما تعمد فصل الجسد أو نحره كما تُنحر الخراف، وهذا الأمر الأخير مكانه في المطلب القادم عندما أتعرض لحديث جئتكم بالذبح، أما فصل الجسد عن الرأس فهو من المثلة فقد صرح بذلك غير واحدٍ ومنهم السرخسي في شرح السير الكبير سواء أكان ناقلاً أم قائلاً فقد جاء فيه: ( ولأن إبانة الرأس مثلة )، أي فصل الرأس عن الجسد مثلة، وهذا ما ذهب إليه غير واحد ممن نقلت عنهم قبل قليل. كقول السرخسي: ( وأكره أن تؤخذ رؤوسهم فيطاف بها في الآفاق ؛ لأنه مثلة )، وقول ابن قدامة في الكافي: ( و يكره نقل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد و رميها في المنجنيق لأن فيه مثلة ).
وكذلك ذكر كثير من العلماء المثلة مقترنة بحمل الرؤوس ونقلها.
ثم إن المثلة كما قال العلماء: تكون بقطع أحد الأطراف، ولا شك أن ارأس هو أهم هذه الأطراف، فإذا كان جدع الأنف أو قطع الأذن من المثلة فمن باب أولى أن يكون قطع الرأس من المثلة، وهذذا ما ذهب إليه صاحب كتاب التمثيل بالقتلى الذي نشره منبر التوحيد والجهاد والذي صرح فيه بأن قطع الرأس من المثلى.
إذا تقرر هذا فقد ظهر بأن أغلب الفقهاء يرون عدم جواز حمل الرؤوس ولا نقلها، ولا قطهعا لأنها من المثلة والمثلة محرمة، ومن ذهب إلى الجواز قيَّد، وبينت فساد هذا القول والله الموفق.
يتبع إن شاء الله تعالى وفيه الكلام على حديث ( جئتكم بالذبح ) ودراسته رواية ودراية، مع بعض الكلام والردود على بعض ما أورده المخالف.
رابعاً: الرد على بعض ما أورده المخالفون واستشهدوا به على سنية الذبح، ومن ذلك:
حديث (( جئتكم بالذبح )) روي من عدة طرق متصلة ومرسلة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن العاص، وعن غيرهما، وهذا تفصيل هذه الطرق:
الطريق الأولى: من رواية ابن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الرواية رواها أكثر من محدث، منهم: أحمد في المسند:2/218 رقم ( 7036 )قال: حدثنا عبد الله حدثنى أبى قال حدثنا يعقوب حدثنا أبى عن ابن إسحاق قال وحدثنى يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة عن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما كانت تظهر من عداوته.

قال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر فذكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا لقد صبرنا منه على أمر عظيم. أو كما قالوا. قال فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل يمشى حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول.

قال فعرفت ذلك فى وجهه ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك فى وجهه ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال « تسمعون يا معشر قريش أما والذى نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ». فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفئوه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم انصرف راشدا فوالله ما كنت جهولا.
قال فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم فى ذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون له أنت الذى تقول كذا وكذا. لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم قال فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « نعم أنا الذى أقول ذلك ». قال فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكى ( أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله). ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط..

وهذه الطريق رواها بالإضافة إلى أحمد كلٌ من: البزار في مسنده: 6/457 – 458 رقم ( 2497 ) وابن أبي حاتم في التفسير: 8/2698-2699، وابن حبان في صحيحه 14/525 – 526 رقم ( 6567 )، و البيهقي في دلائل النبوة: 2/275 - 276رقم ( 578 )،وترجم للحديث بقوله: باب ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من أذى المشركين حتى أخرجوهم إلى الهجرة وما ظهر من الآيات بدعائه على سبعة منهم، ثم بوعده أمته خلال ذلك ما يفتح الله عز وجل عليهم، وأنه يتمم هذا الأمر لهم، ثم كان كما قال، وما روي في شأن الزنيرة.
وابن عساكر في تاريخ دمشق: 30/53 – 54.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/15 – 16: في الصحيح طرف منه.رواه أحمد وقد صرح ابن إسحاق بالسماع، وبقية رجاله رجال الصحيح.
أما (الطريق الثانية): فهي من رواية علي بن مُسهر، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن عمرو بن العاص، وقد رواها كلٌ من:ابن أبي شيبة: 7/331 رقم ( 36561): حدثنا علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عمرو بن العاص قال: ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يوما ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن بأبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطا، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول، فأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ورائه وهو يقول: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) ثم انصرفوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى، فلما قضى صلاته مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة، فقال: (يا معشر قريش ! أما والذي نفس محمد بيده ! ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، وأشار بيده إلى حلقه، قال: فقال له أبو جهل: يا محمد ! ما كنت جهولا، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنت منهم). وأبويعلى في المسند: 13/324 – 325: رقم 7339 وقال محقق مسند أبي يعلى حسين سليم أسد: إسناده حسن. وابن حبان في الصحيح: 14/526 رقم ( 6569)، أبو نعيم في الدلائل 101 -102 رقم (153 ) وترجم له بقوله: دعاؤه صلى الله عليه وسلم على مشيخة قريش،
وقال الهيثمي: مجمع: 6/16: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه محمد بن علقمة وحديثه حسن، وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح.
(الطريق الثالث): روى البخاري في خلق أفعال العباد: ص75 رقم 307 قال: حدثني به عياش بن الوليد الرقام، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: ما علمت قريشا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوما، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فاختطفه، ثم رفع صوته، فقال: (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) الآية، فقال: والذي نفسي بيده، لقد أرسلني ربي إليكم بالذبح، فقال أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا، فقال: وأنت فيهم.
(الطريق الرابعة): روى أبو نعيم في دلائل النبوة 102: - قال وحدثنا جعفر بن سليمان النوفلي المدني ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري قال: لما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه إلى الذي بعثه الله من النور والهدى الذي أنزل عليه لم يتغادر منهم أول ما دعاهم فاستمعوا له حتى ذكر طواغيتهم فأنكروا ذلك عليه وقدم ناس من قريش من كبرائهم وأشرافهم من أموال لهم بالطائف فكرهوا ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأغروا به من أطاعهم فانصفق عنه عامة الناس إلا من حفظ الله عز و جل منهم وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله عز و جل أن يمكث ثم إن قريشا ائتمرت بينهم واشتد مكرهم وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إخراجه حين رأوا أصحابه يزدادون ويكثرون فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلونه فحمي قومه من ذلك وقالت لهم قريش إن كان إنما بكم الحمية من أن تقتله قريش فنحن نعطيكم الدية ويقتله رجل من غير قريش فإنكم تعلمون أنه قد أفسد أبناءكم ونساءكم وعبيدكم فيأبى قومه ذلك فمنع الله رسوله صلى الله عليه و سلم ودفع كيد من كاده فقالت قريش اقتلوا محمدا بزحمة واجتمع من قبائل قريش كلها نفر فأحاطوا برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يطوف بالبيت حتى كادت أيديهم أن تحيط به أو تلتقي عليه فصاح أبو بكر رضي الله عنه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: دعهم يا أبا بكر فإني بعثت إليهم بالذبح فكبر ذلك عليهم وقالوا ما كذبنا بشيء قط وقال زهير بن أبي أمية مهلا يا أبا القاسم ما كنت جهولا فتفرقوا عنه واشتدوا على من اتبعه على دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم فكانت فتنة شديدة وزلزال شديد فمنهم من عصمه الله ومنهم من افتتن.
وهذه طريق ضعيفة لأنها من رواية ابن شهاب وهي مرسلة، ومراسيل ابن شهاب من أضعف المراسيل، نظراً لأنه لم يرو عن الصحابة إلا القليل، وغالب روايته عن التابعين، فروايته وإن كانت مرسلة لكن الأليق بها أن توصف بأنها معضلة،.
(الطريق الخامسة ) قال ابن حجر في فتح الباري: 11/40: وقد روى الزبير بن بكار والدارقطني في " الأفراد " من طريق عبد الله بن عروة عن عروة " حدثني عمرو بن عثمان عن أبيه عثمان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته يوما، قال: وذرفت عينا عثمان فذكر قصة يخالف سياقها حديث عبد الله بن عمرو هذا، فهذا الاختلاف ثابت على عروة في السند، لكن سنده ضعيف، فإن كان محفوظا حمل على التعدد، وليس ببعيد لما سأبينه.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي في جامع الأحاديث رقم (31677 ) عن عثمان بن عفان قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنى رأيته يوما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويده في يد أبى بكر وفى الحجر ثلاث نفر جلوس عقبة بن أبى معيط وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه النبى - صلى الله عليه وسلم - فدنوت منه حتى وسطته فكان بينى وبين أبى بكر فأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعا فلما حاذاهم قال أبو جهل والله لا نصالحك ما بل بحر صوفه وأنت تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ذلك ثم مضى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك حتى إذا كان فى الشوط الرابع فأهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجمع ثوبه فدفعت في صدره فوقع على إسته ودفع أبو بكر أمية بن خلف ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبى معيط ثم انفرجوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف ثم قال لهم أما والله لا تنتهوا حتى يحل بكم عقابه عاجلا قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذه الكل وهو يرتعد فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بئس القوم أنتم لنبيكم ثم انصرف إلى بيته وتبعناه خلفه حتى انتهى إلى باب بيته وقف على السدة ثم أقبل علينا بوجهه فقال أبشروا فإن الله عز وجل مظهر دينه ومتم كلمته وناصر نبيه إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح الله بأيديكم عاجلا ثم انصرفنا إلى بيوتنا فوالله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا وعزاه لـ (الدارقطنى في الأفراد، والخطيب في تلخيص المتشابه)
وقد ضعَّف ابن حجر هذه الطريق كما مرَّ.
وقد ذكر السيوطي بعض هذه الطرق في الخصائص الكبرى: 1/237- 238، وذكر شواهد لحديث الذبح يحسن الإتيان بها، ومنها: وأخرج أبو نعيم عن جابر قال: قال أبو جهل إن محمداً يزعم أنكم إن لم تطيعوه كان لكم منه ذبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أقول ذاك وأنت من ذلك الذبح، فلما نظر إليه يوم بدر مقتولاً قال: اللهم قد أنجزت لي ما وعدتني.
وهذا الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: 9/60 رقم (9126 ) - حدثنا مسعدة بن سعد ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا عبد العزيز بن عمران ثنا سعيد بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال أبو جهل بن هشام إن محمدا يزعم أنكم إن لم تطيعوه كان فيكم ذبح فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أقول ذلك وأنت من ذلك الذبح فلما نظر إليه يوم بدر مقتولا قال اللهم قد أنجزت لي ما وعدتني فوجه أبا سلمة بن عبد الأسد قبل أبي جهل فقيل لابن مسعود أنت قتلته قال بل الله قتله قال أبو سلمة أنت قتلته قال نعم فقال أبو سلمة لو شاء لجعلك في كفه قال بن مسعود فوالله لقد قتلته وجردته قال فما علامته قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى فعرف أبو سلمة النعت فقال جردته ولم نجرد قرشيا غيره.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف. فهو وإن كان ضعيفاً إلا أنه يشهد له أحاديث مضت قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي جهل وأنت من ذلك الذبح، وأيضاً فيه بيان أن الذبح مرتبط بعدد محدد، وأنه قد تم في معركة بدر، ولهذا سلكه العلماء كالبيهقي وأبي نعيم في سلك دلائل النبوة، والسيوطي عدّه في الخصائص، وهذا من فقهم رحمهم الله تعالى إذ لم يفهموا منه العموم.
ومن الشواهد أيضاً ما ذكره السيوطي في الكتاب المذكور: واخرج أحمد والحاكم والبيهقي وأبو نعيم من طريق ابن عباس عن فاطمة قالت اجتمع مشركوا قريش في الحجر فقالوا إذا مر محمد عليهم ضربه كل واحد منا ضربة فسمعته فدخلت على أبيها فذكرت ذلك له فقال يا بنية اسكتي ثم خرج فدخل عليهم المسجد فلما رأوه قالوا ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه رجل منهم فأقبل حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها نحوهم ثم قال: شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.
وهذا الحديث أخرجه أحمد –رقم 2762 حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا إسحاق بن عيسى ثنا يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ونائلة وإساف لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك فقال: يا بنية أريني وضوءا فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال: شاهت الوجوه، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة الا قتل يوم بدر كافرا.
وعلق الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذا الحديث بقوله: إسناده حسن رجاله ثقات رجال الصحيح إلا أن في يحيى بن سليم كلاماً يحطه عن رتبة الصحيح.

وهو أيضاً ما يرجح كون الأمر مختص بهؤلاء النفر من قريش.
وهذه الطرق الخمسة المذكورة في أول الكلام لو أردنا أن نسلط عليها سيف النقد فإنا لا بد من أن نرجح إحدى الروايات على ما سواها، إذ لا يصح أن توصف جميعاً بالقبول نظراً للتعارض الواضح بين هذه الروايات، وحملها على التعدد كما مال إلى ذلك ابن حجر مما تأباه علينا طبيعة ألفاظ الروايات، فمثلاً نجد الرواية الأولى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسنادها صحيح، ولا يعيبه شيء، ووجود محمد بن إسحاق به وقد وصف بالتدليس لم يؤثر على صحة الحديث لأن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث فقد زال المحذور.
قال ابن حجر في الفتح: (( قوله: (حدثني عروة ) كذا قال الوليد بن مسلم، وخالفه أيوب بن خالد الحراني فقال " عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة قال: قلت لعبد الله بن عمرو " أخرجه الإسماعيلي، وقول الوليد أرجح. قوله: (سألت ابن عمرو) في رواية علي المذكورة " قلت لعبد الله بن عمرو "قوله: (بأشد شيء صنعه إلخ)
هذا الذي أجاب به عبد الله بن عمرو ويخالف ما تقدم في " ذكر الملائكة " من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال لها " وكان أشد ما لقيت من قومك " فذكر قصته بالطائف مع ثقيف. والجمع بينهما أن عبد الله بن عمرو استند إلى ما رواه، ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف)).
أما ما ورد في حديث عائشة كما أشار إلى ذلك ابن حجر رحمه الله تعالى: وهو سؤالها ما أشد ما لقيت من قومك، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيه من قومه لما ذهب إلى الطائف وواجهه أهلها بما واجهوه فيه، ضاقت على النبي صلى الله عليه وسلم الأرض بما رحبت، وبعث الله إليه ملك الجبال.... الخ.
وقد يُجاب على ذلك بأن ما ورد في حديث عائشة إنما هو إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأشد ما لقي من قومه، وما جاء في حديث عبد الله بن عمرو أو حديث عمرو إنما هو إخبار منهما بما يُعتقد عندهما أنه أشد ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعارض حينئذ، ولعله لم يعلم بحديث عائشة فبقي يحدث بما يظن أنه أشد ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه.
أما الإشكال الحقيقي الوارد على هذه الأحاديث أنها مروية عن عبد الله بن عمرو، وعن أبيه عمرو بن العاص، فقد يقال بأنهما رويا جميعاً الحديث، وهذا واردٌ، ولكن يُعكر على هذه النتيجة ما ورد في بعض الروايات من إثبات صيغة السؤال نفسها ونسبتها مرة إلى عبد الله بن عمرو، ومرة إلى أبيه، مما يُشعر أن إحدى الروايتين وهمٌ، ويزداد هذا الاحتمال عندما ننظر إلى رواية البخاري في خلق أفعال العباد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص، مع الرواية الثانية من طريق علي بن مُسهر، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن عمرو بن العاص، فالملاحظ أن كلتا الروايتين من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، لكن إحداهما نسبت القول إلى عمرو بن العاص، والأخرى نسبته إلى عبد الله بن عمرو، مما يؤكد وجود الوهم، وأظن أن الوهم حاصل من محمد بن عمرو، والحكم على الأحاديث المختلفة بالوهم خير من التماس وجوه الجمع المتكلفة، والله أعلم.
لذا أرى والله أعلم أن الرواية الأولى وهي رواية عبد الله بن عمرو أصح من غيرها، وهي المعتمدة إن شاء الله.
* بناءَ على ما مرَّ من تخريج حديث جئتكم بالذبح، يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
أولاً- إن الحديث ليس عاماً بأي حالٍ من الأحوال، لأن صيغه كلها مصدرة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر قريش))، فهذه الصِّيغ ابتداء تنفي حمله على العموم المطلق، كما يذهب إلى ذلك من أراد أن يذهب.
ثانياً – ولا نستطيع أيضاً أن نحمله على العموم المقيد، أي أن الحديث عاماً في قريش، فالوعيد يكون ثابت في حقهم جميعاً.

وذلك للأسباب التالية:
1 – إنه ثبت يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث بالذبح لا إلى قريش ولا إلى غيرها، بل إن محكم القرآن وصحيح السنة يقفان بوجه من يفسر خلاف ذلك، إذ إن الله تعالى قال: (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))، وذكر الطبري آراء المفسرين في هذه الآية، على أن المراد بها رحمة للمسلمين فحسب، أم رحمة للناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم، وما إلى ترجيح رأي ترجان القرآن ابن عباس من أنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للناس جميعهم كافرهم ومؤمنهم.
وهذا يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: (( إنما أنا رحمة مهداة ))، وكذا سلوكه صلى الله عليه وسلم الذي يتناقض مع فكرة الذبح، كعدم تعجله العذاب لقومه، والدعاء بالهداية لهم، وعدم الدعاء عليهم.
2 – ما ثبت كونه كان أشد رحمة على قريش من رحمته على من سواها، بدليل ما حصل يوم فتح مكة، من قوله صلى الله عليه وسلم لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، ومن قوله صلى الله لأصحابه (( لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً , )).
ثالثاً – إن المدقق في الحديث يرى أنه خاص بأشخاص بأعيانهم، ولسنا بحاجة إلا لقليل من التدبر لنعرف هذا، وهذا نراه في الروايات الأخرى، بل في هذه الروايات التي تم الاستشهاد بها كما في الرواية الثانية عندما قال له أبو جهل بعدما أخذته الرعدة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا محمد ما كنت جهولاً ؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنت منهم )، أي: أنت ممن يُذبح، مما يدل على أنه خاص بأناس محددين معروفين.
وهذا ما تؤكده الروايات الأخرى مثل ما أورده السيوطي في الخصائص فقال: وأخرج ابو نعيم من طريق عروة حدثني عمرو بن عثمان بن عفان عن عثمان بن عفان قال أكثر ما نالت قريش من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أني رأيته يوما يطوف بالبيت وفي الحجر ثلاثة جلوس عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وأمية بن خلف فلما حاذاهم اسمعوه بعض ما يكره فعرف ذلك في وجه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وصنعوا مثل ذلك في الشوط الثاني والثالث فوقف وقال أما والله لا تنتهون حتى يحل الله عقابه عاجلا
قال عثمان فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذه أفكل يرتعد ثم انصرف إلى بيته وتبعناه فقال أبشروا فإن الله مظهر دينه ومتم كلمته وناصر دينه إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح الله بأيديكم عاجلا فوالله لقد رأيتهم ذبحهم الله بأيدينا، وهذا يبين أن التوعد خاص بفئة.
وأخرج ابو نعيم عن جابر قال قال أبو جهل: إن محمداً يزعم أنكم إن لم تطيعوه كان لكم منه ذبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أقول ذاك وأنت من ذلك الذبح فلما نظر إليه يوم بدر مقتولا قال اللهم قد أنجزت لي ما وعدتني.
رابعاً: لو أردنا أن نحمله على العموم المطلق ( للناس كافة )، أو للعموم المقيد أي لقريش فقط فإن الواقع يعارضه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث بالذبح لا للناس جميعاً، ولا لقريش وحدها، وهذا بيِّنٌ ظاهر من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهذا ينافي كونه من دلائل النبوة أيضاً، ولهذا قلنا إنه خاص بعدد محدود من الكفار، وهم السبعة الذين عدهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفت أماكن مصارعهم في بدر.
( والخلاصة ):

أنَّ هذا الحديث ليس على عمومه قطعاً لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بصيغة يا معشر قريش، ولو كان عاماً للناس أجمعين لما أعجز النبي أن يعبر عن ذلك بأوضح بيان، وأسهل كلام، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، وجُعل كلامه حجة في لغة العرب فكان مصدراً من مصادرها واستخراج القواعد اللغوية والنحوية من السنة النبوية.

ثم إنه ليس عاماً في قريش أيضاً لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توعدهم بشيء أو هددهم بشيء ولم يحصل هذا الشيء، والعرب عامة وكفار قريش خاصة كانوا يعلمون أنه ما من شيء أخبرهم عنه أو ذكره لهم صلى الله عليه وسلم إلا حصل كما أخبر عليه الصلاة والسلام، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش لا يبين أنه إنما جاءهم للذبح بل على العكس من ذلك جاءهم بالرحمة والعفو والحرص عليهم، والدعاء لهم لا عليهم كما مرَّ، وإنما المراد بهذا الحديث عددٌ محدود من كفار قريش، وهم رؤوس الكفر ومن أوغل منهم في أذية النبي صلى الله عليه وسلم وأذية المسلمين، ومن تفننوا في فتن الناس عن دينهم وإكراههم على الرجوع عنه، كأبي جهل، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط وغيرهم ممن ورد ذكرهم في رواية سابقة، وهم سبعة نفرٍ.
ولهذا نظم العلماء المحققون هذه الروايات في سلك دلائل النبوة، فنجدها عند البيهقي في دلائل النبوة، وعند أبي نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة أيضاً كما مرَّ في التخريج آنفاً، وهذا يعني أنهم يرون ما انتهيت إليه في نتيجة هذا الحديث وأنه خاص بهذا العدد فقط من أئمة الكفر، بدليل أن أبا جهل عندما راجع النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يناله توعده صلى الله عليه وسلم، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما كنت جهولاً، قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت منهم ؟

فلو كان عاماً لقريش أو للناس جميعاً كما يزعم من لا علم عنده لما قال له أنت منهم، فدل هذا على أنَّ هذا الكلام محمول على أشخاص معدودين، وقد بين من ذكر هذا الحديث وأضرابه في دلائل النبوة أن هذا تحقق في معركة بدر، فقد كانت بمثابة الذبح الذي توعدهم به النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كما في رواية أخرى وبعد مقولة النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش جئتكم بالذبح، دخل بيته ثم خرج عليهم وفي يده حصباء رماها عليهم وقال: شاهت الوجوه، فما من أحد أصابته تلك الحصباء منهم إلا وُجد صريعاً في بدر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( جئتكم بالذبح )، ومن حمل الحديث على غير هذا المحمل فإنما يريد أن يُكذب الله ورسوله، والنصوص تأتلف ولا تختلف، وهذا الذي قدمت وجه ائتلافها، وما تقتضيه بقية الروايات وواقع صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع القوم.
ولهذا فوصف النبي بأنه جاء بالذبح فيه إساءة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، واعتداء لا يليق، والله الموفق.
 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع