عابدة فضيل المؤيد العظم
تصدير المادة
المشاهدات : 9959
شـــــارك المادة
من كان يتخيل أن المرأة العربية التي وضعها المجتمع المحافظ في مجال ضيق ومحدود، وحاصرها في أكثر الميادين، تنهض وتنزل إلى الشارع، وتهتف وترفع اللافتات، وتتحمل الضربات، وتُزَج في الحبس، وتصمد أمام كل هذه الضغوطات؟
من كان يتصور أن تحدث هذه المشاهد تلقائياً، ودون اعتراض الآباء والأزواج؟! لقد أدت المرأة دوراً كبيراً وفاعلاً ومتميزاً في الثورة السورية، فماذا فعلت؟ أما الفتيات فشجعن المظاهرات، ورتبن لخروجها واشتركن بها، وخرجت البنات في أول مظاهرة بدمشق، خرجن وهن في شك من استمرارها، وما صدقن أنها تمت! ثم أصبح هذا شأنهن، والمظاهرات همهن، يمشين في شوارع دمشق ويصرخن: "حرية للأبد، ويسقط بشار الأسد". هتفن بسقوط الطغاة، وهتفن لكل المدن "طرطوس، جبلة، درعا"، وشعرن بوحدة الدم والعقيدة والانتماء، وهتفن للأحياء "الميدان، واليرموك والحجر الأسود". قالت لي إحداهن: "شعور رائع، رائع، ومهيب، حين تهتفين للحرية ولسقوط الطاغوت. كنت أطير فرحاً بالهتاف شعرت أني ولدت من جديد، فكنا نخرج للتظاهر ونغيب ساعات". وتابعت: "المظاهرات خطيرة، وإن أكثر ما يؤرق النظام التظاهر السلمي! وإذا أمسك فتاة تحمل السلاح، وثبت عليها القتل، تساهل معها مقابل خروجها في مظاهرة، فهذه التهمة تودي بحياتها، وتُعرضها لأشد أنواع التعذيب! فكنا نصلي قبل كل مظاهرة صلاة مودع ونستغفر، ونترقب الموت في كل لحظة، ولما قالوا لكم شهيد يشيع شهيد ما كذبوا ولا بالغوا. ولقد واجهنا الرصاص والموت، وجرحت الكثيرات من بيننا، واعتقلت نصف صديقاتنا، ونالت بعضهن الشهادة وتقبلنها بابتسامة ورضى." وإن وسائل الإعلام الغربية مندهشة من خروج النساء إلى الشوارع وهن يرفعن أصواتهن من أجل الحرية. وأما المرأة فكانت هناك في الشارع والميدان؛ النساء كلهن معاً على اختلاف مذاهبهن وثقافتهن ومستواهن الاجتماعي، اجتمعن بشكل تلقائي وعفوي، وكان للمرأة صولات وجولات في اختراع أساليب جديدة ومبتكرة لإخفاء الرجال، وإيواء الفارين. وتأمين الطعام، وعلاج الجرحى بالأدوات القليلة المتوفرة. والمثير أنهن أضربن عن الطعام للإفراج عن المعتقلين، رغم أنهم ليسوا من أقربائهن! وإن الربيع العربي أنتج المرأة الإيجابية والفاعلة، فالقضية كبيرة وتخص المجتمع كله بنسائه ورجاله. ومشاركة المرأة أعطت للثورات زخماً إضافياً ولفت أنظار العالم إليها. وهل تصدقون أن الثورة السورية في دمشق قامت على جهود البنات؟! فالنظام استأثر بالرجال -مبكراً- في سجونه ومعتقلاته، وبقيت الفتيات في العاصمة مع ثلة من الرجال. وهاجر الباقون في أرض الله الواسعة. وبقي العبء على النساء، وهذه الظروف جعلت المرأة أكثر وعياً وأكثر قوة وقدرة على المجابهة، وأجبرتها على الانخراط في صفوف المقاومة، ولعبت المرأة دوراً كبيراً في الحماس والتخطيط والعمل على الأرض، وساهمت في اقتراح الأفكار وفي تنفيذها. لقد استنهضت الثورة همم الجميع، على أن الفتيات كُنّ أقدر على التفرغ للتخطيط والتدبير بسبب الأهل الذين حبسوا بناتهم في البيوت ومنعونهن من المشاركة الفاعلة في الثورة، فاتجهت هممهن إلى التنظير ونجحن في هذا نجاحاً باهراً. المرأة السورية جزء من الثورة، وركن مهم من أركانها، ولن أحقق سبقا صحفياً أو أذيع خبراً جديداً لو قلت لكم أن مظاهرات دمشق وتلوين بحراتها باللون الأحمر، ودحرجة طابات البينغ من أعلى جبل قاسيون... هذه الإبداعات كلها صممتها وخططت لها عقول النساء مستعينة ببعض الشباب وما زالت الفتيات -حتى اليوم- يخططن للمظاهرات في بعض المناطق البعيدة عن رقابة النظام. وإن قصص بطولاتهن وصحائف إنجازاتهن كثيرة، وأشهرهن قصة "راما العسس" التي نفذت وخططت وتظاهرت وأغاثت وجمعت الناس على الخير... فكان جزاؤها الاعتقال، وغُيّبت أخبارها تماماً فلا أحد يعرف عنها أي شيء حتى الآن. ولولا دفع المرأة الزوج والابن والأخ لتأخر بعضهم أو تردد في الانخراط بالثورة (كما كان شأن الثلاثة الذين خُلّفوا)، وسمعت من ملاحم البطولة ما أدهشني، وسمعت من النساء (في الداخل) كلاما بث فيّ روح الفخر والأمل، فالأمهات يدفعن أبناءهن إلى ساحة الجهاد ويدعمن أولادهن بالمال والخبرات، وأضرب مثلاً بأم قابلتها بنفسي وحدثتني حديثها فقالت: "اشتريت لابني –قناصة- من حر مالي، وأرسلته ليتدرب عليها، ثم نزل بها إلى القتال، كان بارعاً في التصويب فأصبح بطلاً يحمله الثوار من مكان إلى مكان ويستعينون به على قتل الإيرانيين. وحملوه -ذات يوم- إلى حمص فَخَلّصهم من أربعة منهم كانوا ينشرون الفزع والرعب بين الناس ويبالغون بالقتل، فشكروه، وأرادوا به خيراً فنصحوه بالعودة إلى موقعه، حذروه ونهوه ولكنه أصر على الاستمرار بالتوغل، فنالته يد قناص حقير فأودت بحياته.
القصص كثيرة، ولكن هل سمعتم عن أعظم عمل إنساني أبدعته المرأة في الثورة؟ لما اشتد القصف على حي الميدان في دمشق، قامت بنت فتية لم تتجاوز الخامسة والعشرين بجمع جثثت الموتى وأشلائهم في بيت عربي (موتى بلا أدمغة، موتى بلا عيون، موتى بلا أطراف، ميت بنصف وجه...)، فتمسح الدماء عنهم وتجمع أجزاءهم وترتب أشكالهم وتخفي إصابتهم، ثم تدعو أهلهم ليودعوهم الوداع الأخير وهم بصورة جيدة حسنة مقبولة. لقد هيأ الله الأنثى لتلك المهمة السامية "الدعم النفسي" منذ فرض الجهاد على الرجال وتركها ترعى الصغار، وخصها بالمشاعر الإنسانية الفياضة وحسن التدبير والتفكير في الأزمات لتستطيع الثبات والاستمرار و"إعادة بناء الإنسان" بعد فقد الرجال أو غيابهم... فاجتمع في المرأة الضعف مع القوة، وحب الزينة مع قوة العزيمة، والغنج والدلال مع الصرامة والصمود، سرعة الانفعال مع الروية والاستذكار... وهكذا هي المرأة.
عبد الله الحريري
نور الدين قرة علي
الحياة
محمد علي الصابوني
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة