..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

طبيب قاسي ومريض يقاسي

محمد حايك

١٣ يونيو ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 12068

طبيب قاسي ومريض يقاسي
00.jpg

شـــــارك المادة

قرأت منذ سنوات كتابا بعنوان The G.O.D. Experiments للمؤلف Gary E. Schwartz قال فيه: "إنني أحب كل المخلوقات وكل الحيوانات بما فيها التماسيح والثعابين، ولكنني أترك مسافة بيني وبين الحيوانات المفترسة، لأنني إذا اقتربت منها ستؤذيني".
الإنسانية لا تأتي من خلال معتقد معين، بل هي فطرة سليمة في الإنسان لا يخرج عنها إلا من صدأ قلبه، فالأديان السماوية هي الأداة التي تجلي القلوب من صدأها لمن أراد أن يستخدم هذه الأداة بإخلاص ليتخلص من أمراض قلبه، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

 


هذه المقالة تعبر عن شريحة معينة في المجتمع مريضة بحب الذات واستعظام النفس، تبتغيه من خلال احتقار الآخرين، وخصوصاً البؤساء منهم.
ومقابلها يوجد شريحة أخرى مناقضة تماماً، تضحي بنفسها ومالها من أجل مساعدة المساكين البؤساء عسى الله أن يقيهم يوماً عبوساً قمطريرا كان شره مستطيرا.
طبعاً ليس كل الناس سواسية، فهناك شريحة من الأطباء تحمل بين طيات صدرها قلب الإنسان، لا تنتظر أن يَطرق البؤساء باب عيادتها، لتكسب بهم رضاء الله. بل تترك عملها وأطفالها وبلادها وتبذل مالها وتخاطر بحياتها لتساعد البؤساء المنكوبين سواء في خيم اللاجئين أو من تحت أنقاض منازلهم داخل حدود بلد منكوب من بلاد الله الواسعة.
إنهم أطباء في قلوبهم رحمة بلا حدود. سمعت بأحدهم في أحد الولايات يفتح باب عيادته يوماً واحدا في كل أسبوع مجاناً لأي سائل أو محروم، وعندما قرعت طبول المستغيثين في بلده المنكوب، كان من أول النازحين إليها وجر معه ثلة من المخلصين لا يريدون جزاءً ولا شكورا. فلهم أهدي هذه المقالة، فهم خير مثال للإنسانية في وقت يحتاج فيه الإنسان أخاه الإنسان.
اللّهم أجرهم عنا وعن المنكوبين البائسين خير الجزاء، واحفظهم حتى يرجعوا لأهلهم وأولادهم سالمين آمنين. من الصعب معرفة الناس على حقيقتهم إذا كانت ظروف الحياة مستمرة معك على مستوى معين.
ولكنك يمكن أن تستشف خبايا ضمائرهم وخفايا قلوبهم وما تكن أنفسهم عندما تعلو بك الحياة إلى ذروة الجبال ثم تهبط بك إلى قعر الوديان كموجات ضوئية متعاقبة، فتبصر بما غفي عنك، فبصرك اليوم حديد.
قد تصعق من شدة ما تراه، هل هو الحقيقة أم مرض أصاب العيون؟
فلا أثر للصديق ولا مودة من الأخ والقريب، فلا رَحْمٌ ولا رَحمَةٌ ولا تراحُم. تتجافى وجوههم وتعوج ألسنتهم. إلا من رحم ربك، وهم قليل من قليل.فمن وقع في الحفر سقط عليه الحجر، ومن تربع فوق الجبال التمس وده الرجال.
كم مُجِدَت رؤساء وملوك وأمراء ولكن إذا ذهبَ مُلكهم ذهبوا. إنها تجربة تجعلك تستهزئ ببني الإنسان. فرغم مآسي العلو والهبوط ستجد أن الله علمك الكثير، فهو بلاء فيه علم.
رحم الله الشافعي حين قال:

ولا خير في ود امرئٍ متلونٍ  *** إذا الريح مالت مال حيث تميل
ما أكثر الإخوان حين تعدهم *** لـكـنهـم فــي الـنائـبــات قـلـيــل

سأذكر قصة سمعتها، تبين حب قهر البؤساء عند أصحاب النفوس المريضة. فأصحاب تلك النفوس العفنة تشعر بكيانها وأهميتها عندما تَذِلُ قاصدها وتهين طالبها.
لقد استخف فرعون بقومه وهو ليس من صنف المؤمنين، أما بعض المؤمنين المصلين الصائمين فلقد استخفوا بالبؤساء وكل من طرق بابهم من المساكين {لآيؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}. {قَوْلٌۭ مَّعْرُوفٌۭ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌۭ مِّن صَدَقَةٍۢ يَتْبَعُهَآ أَذًۭى وَٱللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌۭ} البقرة: 263.
قبل أن أذكر القصة، سأذكر تجربة جرت على القردة قرأتها في كتاب "ظل الأسلاف المنسي" Shadows of Forgotten Ancestors للكاتب كارل ساكان Carl Sagan وآن درويان Ann Druyan (سأذكرها بالتفصيل في مقالة منفصلة).
التجربة جرت على أحد أنواع القردة الأكثر انتشارا، اسمه قرد المكاك، يعيش ما بين اليابان واسيا. وضعت مجموعة من القردة في غرفة منفردة، يأتيهم الطعام بطريقة غريبة وذلك عن طريق حبل يشده القردة داخل الغرفة.
وكلما شد أحد القردة الحبل من أجل الطعام، فإنه سيسبب صدمة كهربائية لقرد آخر لا يعرفونه موجود في غرفة مقابلة، يرونه من حيث لا يراهم من خلال مرآة ذات اتجاه واحد.
وإذا لم يشد القردة الحبل فلا طعام، وستصيبهم المجاعة.
فهذا خيار شائك، إما أن يحصلوا على الطعام ويسببوا ألماً للقرد في الغرفة المجاورة، أو أن يمتنعوا عن الطعام ويختاروا الموت، خيار صعب.
فبعد أن تعلم القردة أن شد الحبل للحصول على الطعام سيسبب ألماً للقرد الموجود في الغرفة المقابلة، تجنب أكثرهم شد الحبل وآثروا المجاعة على عذاب غيرهم.
وفي إحدى التجارب، آثر أحد القردة أن يبقى بدون طعام، واختار المجاعة حتى الموت حتى لا يسبب ألماً لأخيه القرد، وبعد أسبوعين متواصلين من إضرابه على الطعام اضطر الباحثون لإيقاف التجربة خشية أن يموت القرد.
التجربة أثبتت أن القردة عندها المقدرة لأن تتخذ قراراً أخلاقياً وتلتزم به. ولنقارن بالمقابل مقدرة الإنسان على اتخاذ القرار الأخلاقي والالتزام به، وهل الإنسان الصائم المصلي سيلتزم بالقرار الأخلاقي الذي تعلمه من خلال دينه.
فالوقائع التي نسمعها عن الإنسان، هي تجارب واقعية تعبر عن سلوكه.
وإليكم القصة: حدثني صديقي بقصة ضاق لها صدري، عن طبيبٍ قاسي ومريض يقاسي.
إنها قصةُ مريض مسكين يبحث عن دواء لداء حيّر الأطباء. يوماً طرق ذلك المسكين باب طبيب مؤمن، لعل الله يجعل على يديه الشفاء. إنه مرض السرطان الذي تنهار له الأبدان، وتشحب له الوجوه.
وقف البائس يوماً هو ورفيقه على باب عيادة طبيب مؤمن عُرف عنه الصلاة والصيام. راجياً ممن يوحد الله الدواء فيما ابتلاه الله من داء.
وقف مكسور القلب على باب عيادة ذلك الطبيب عسى أن يبشره بالشفاء. ما إن رأى الطبيب ذلك المريض حتى نفحت في نفسه قريحة الكبرياء، وعلت على وجهه أسارير الاستعلاء.
نسي فضل الله عليه، فوقع في الفتنة لأنه من صنف الجهلاء. فقال للمسكين إذا لم يكن عندك مال، فلماذا تطلب الدواء من العربان وتنسى الأمريكان؟
وهل تظن أن عيادتي هي جمعية خيرية لمن ليس عنده مال؟
لقد نسي ذلك الطبيب أن يشكر الله على ما فضله به على كثير من عباده، فامتحنه الله بمريض مسكين، ففتن عندما أخذته العزة بالنفس وأصابته نفحة الكبرياء.
استعلى على قاصده فمزق أحشائه. عجز لسان المسكين أن يعبر عن لوعة قلبه، فانحدرت عبرات الأسى على تجاعيد وجنتيه من نبع جفت قطراته من كثر البكاء. وانفجرت من أحشاء ذلك البائس آهات قهر الرجال.
ما أطيب الموت أمام ذل الرجال. طرق باب الطبيب المسلم من أجل الدواء، فخرج من عنده وقد تضاعف به الداء.
دخل لعنده وهو يعارك شبح الموت، فخرج من عنده وهو يتمنى الموت. اللهم إني أعوذ بك من قهر الأنذال للرجال، اللهم إني أعوذ بك من ظلم الإنسان للإنسان.
اللهم لا تجعل حاجتي إلا إليك يا وَدُود، وإن قدرت علي غير ذلك فخذني إليك أخذ رحيم يا رؤوف.
ما أرحم الموت أمام الحاجة للأنذال. إن سائل البخيل محروم، وسائل اللئيم مذلول.
لقد قال أحد الحكماء: "وذقت المرارات كلها فلم أجد أمر من الحاجة للناس". لقد استعاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم- من قهر الرجال، ونحن في زمان نستعيذ بالله فيه من قهر الأنذال للرجال.
إنهم أشباه رجال وليسوا برجال، فالرجال تعرف عند المحن والشدائد وإظهار الشهامة مع أخيه الإنسان.
فما بالك بإنسان يهوي إلى قبره فيمد يده فلا يجد إلا لئيم يشبه الإنسان. أم أن اللؤم هي صفة فطرَ عليها الإنسان؟
لو مد يده إلى قرد لأعانه ولقال له دعك من لسان الإنسان. القرد لا ينطق ولكن مازال يحتفظ بقيم انتحرت عند الإنسان. أما زلت تُعابُ من أن يكون القرد قريبك أيها الإنسان؟
ألا تذكر تجربة القرد الذي أضرب عن الطعام من اجل أن لا يقع جاره القرد في وجع الآلام.
لو نطق القرد لقال إني بريء مما يفعل الإنسان. الويل لذلك الطبيب من يوم تشخص فيه الأبصار وهو يطرق باب العزيز الجبار، يوم يأته الجواب: "يا هذا ليس لك عندنا اليوم جمعية خيرية، هل تذكر عبدنا فلان الذي أتاك طالباً الدواء، فخرج من عندك مكسور الفؤاد، اليوم توفى كل نفس ما عملت، فكما تدين تدان". إنه يوم حق آتٍ، فيه يرى الإنسان ما كسبته يداه {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة:195
وفي الحديث القدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: {يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أَعودك وأنت رب العالمين قال أما عَلمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب وكيف أطعُمك وأنت رب العالمين، قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي}.
لو كان قاصد ذلك الطبيب من المشهورين، أو من الأغنياء المعروفين، لقفز من كرسيه مهللاً بالتحية والإجلال، ولرفض المال والتمس التقرب منه وهو يقول: "لا يا أبو فلان، لقد نورت المكان، فإنا نريد منك خدمة يا رِجّال، فإنك أخ غالي وصديق عزيز"، ثم مشى معه إلى الباب مودعاً، وكلمه في اليوم التالي على الهاتف ليطمئن على صحته وأحواله.
لقد انتحر ضمير ذلك الطبيب بحب الدنيا والدينار، فانحنى تحية وإجلالاً لصاحب الشهرة ومالك الدولار. رحم الله حسن البصري حين قال: "لكل أمة صنم يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار".
ويصف عروة بن الورد كيف تتلقى الناس أصحاب الغنى والثروة:

وتُلفي ذا الغـنى وله جلال *** يكاد فـؤاد صاحبـه يطـيـر

إنها عيشة البؤساء، لا يعرف طعمها إلا من دخل بوتقتها وذاق مرارتها. ولا يشعر بذلها إلا ذو إحساس عازته حاجته إلى كلاب الدنيا وطلابها، يتمنى لو تخسف به الأرض حتى لا يُلَوَع من لسعات أحاسيسه.
هل ينتحر ويخلد في النار؟ أم يصبر على آلامه وعزاؤه الرحيم الغفار؟
إنه خيار ذو حدين، سيقطع أحشاءه بين جوانحه كيفما استدار. الأول أرحم من الثاني في الدنيا، ولكن المانع هو الإيمان بالغيب ليوم مشهود تخشع فيه الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا.
إنه يوم العزيز الجبار الذي تشخص فيه الأبصار. اللهم كما صَبرتْ البؤساء على ذل الدنيا فارحمهم في ذلك اليوم يا رحيم، فإنك القائل وقولك الحق: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وأظن أن ابن الأحنف قد ذاق طعم تلك المرارة فتأجج اللهيب بين نبضات جوانحه فصرخ متألما معبرا لما في داخله فقال: يمـشي الفقير وكل شيء ضـده والـناس تـغـلـق دونـه أبـوابها وتراه مبغوضا وليس بمـذنــب ويرى العداوة لا يرى أسبابها حـتى الكلاب اذا رأت ذا ثـروة خضعت لديه وحركت أذنابـها واذا رأت يـوما فـقـيـرا عابــرا نـبحـت عليه وكشرت أنـيابها اقترب مرافق ذلك المسكين إلى الطبيب مُحَقرا، بعد أن كان من أصدقائه، قائلا له باستخفاف: عالج ذلك البائس المسكين وأنا كفيل لما تريد من ورق الدولار {وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًۭا وَيَتِيمًۭا وَأَسِيرًا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءًۭ وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًۭا قَمْطَرِيرًۭا ﴿10﴾ فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَ‌ٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةًۭ وَسُرُورًۭا ﴿11﴾}سورة الإنسان.
وفي الحديث: {من نَفَسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر عن معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه} رواه مسلم.
لقد انتقل ذلك المريض إلى رحمة ربه بعد أسابيع من تلك الحادثة، وارتاح في ظلمات قبره من قهر الدنيا وذل الإنسان. فيه سكنت جوارحه، وخمدَ لهيب أحشائه. فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا آهات تدوي، ولا دموع تسيل، ولا ذُل يُكرع على مضاضة. لقد وقف التاريخ عنده فلا ذكريات تؤلم. إنها رحمة القبور، تنسي ما في الصدور، فالدنيا سجن المؤمن وعذابه. لقد غادر الدنيا ومآسيها وترك ذلك الطبيب يشخر على فراش وثيرة لا يؤرقه إحساس ولا يؤنبه ضمير، بل على قلوب أقفالها.

وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يَشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله. وإن من قلوب الإنسان ما يقضي على البؤساء. فمن انتحر عنده الضمير، فقد إنسانيته ونام كالطفل الصغير. لا نامت عين من خرجت من قلبه الرحمة لعباد الله، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {لا يرحم الله من لا يرحم الناس}. لقد دخل رجل الجنة في كلب أسقاه شربة ماء، ودخلت امرأة النار في قطة حبستها ولم تطعمها رغم صلاتها وصيامها. هذا جزاء من عامل الحيوان، فما بالك بجزاء من يقسو على الإنسان. لقد قيل إن ألدَ عدوٍ للإنسان هو الإنسان.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع